العيون الأكثر دهشة: النكبة بين الصور الفوتوغرافية والذاكرة

2023-05-20 13:00:00

العيون الأكثر دهشة: النكبة بين الصور الفوتوغرافية والذاكرة
تمام الأكحل, الاقتلاع من يافا

هناك شكل واحد من أشكال النكبة تكرر في الرسم وهو المفتاح أولاً ومن ثم الخيمة، تكرر كثيراً في العديد من اللوحات، أما الصور التي التقطتها المنظمات والوكالات العالمية للنكبة لم يستفد منها الرسامون"

استعادة النكبة وأشكال استمرارها اليوم، لا يمثل الذاكرة فقط بل مشاهد تلك الذاكرة أيضاً، كيف نرويها ونعرض مشاهدها. شكلت النكبة على مدار 75 عاماً منذ حدوثها في 1948 صورة عامة للتهجير والقتل والتدمير، تبدو الصور واضحة أحياناً، وتتداخل أحياناً ببعض الروايات التي تكملها، شكلت هذه النقاط أسئلة الباحثين والأكاديميين على مدار سنوات حتى وقتنا الحالي، واستطاعت أن تشكل أسئلة جديدة، وأن تجد أجوبةً كاملة للأبعاد السياسية والاجتماعية والتغيرات التي سبقت النكبة وتبعتها. 

يبقى التفاوت واضحاً بين الذاكرة الشفوية للنكبة، وبين الصور والمشاهد التي التقطت لحظة حدوثها، وهذا التفاوت يتضح في شكل أكبر عندما نكتشف أن المجموعات الصهيونية لم يكتفوا بقتل ضحيتهم، بل كانوا أسوأ من ذلك وعملوا على محوها من الوجود، تعتمد محاولة المحو هذه على تفتيت الجريمة إلى نتف قصص فردية، يمكن من خلالها بناء انتصارهم عليها، وهذا الشكل المروع والمستعصي من القتل والمحو، يحتاج توثيقه فوتوغرافياً وإعادة عرضه وتقديمه للعالم، لإمكانيات كبيرة لحظة حدوثه، ووعي مسبق باحتمالات الجريمة، والأهم فهم الجريمة وتفسيرها ضمن سياقها التاريخي والاجتماعي. 

الفوتوغراف في السياق السياسي والاجتماعي يمثل الحقيقة بشكلها الأبسط، ولا يعرض الجريمة بشكلها المستهلك، بل يغوص عميقاً في أسئلة الحدث السياسي ويبني لنا فهماً مسقلاً ومنفصلاً يبلور الأسئلة والإجابات التي لا بد من طرحها والبحث عنها، لأن ببساطة الكاميرا تعطينا الحق بامتلاك الشيء المصور، ومحاولة استعادته. 

أكثر الصور الوثائقية عادية يمكن أن تتحول إلى معلومة موضوعية، وإلى رمز للماضي، وهذا ما حدث تحديداً مع الصور التي وصلتنا عن النكبة. أن الفرادة التي خلقتها صور النكبة لم تضمحل أو تفقد قيمتها، بل أهميتها تزداد مع الوقت، لسبب واضح هو كون النكبة ما تزال مستمرة، واستمرارها غير مرهون بالماضي فقط بل بالحاضر أيضاً، وهذا الربط لعلاقة الصورة مع الزمن، خلق بالنسبة لنا فهماً مركباً لعلاقتنا مع أنفسنا ومع الجريمة كوننا جزء منها، وكأننا لا ننفصل عن أجساد الفلسطينيين هم يهجرون قراهم في النكبة، ولسنا أقل من الوجوه الخائفة التي تنظر إلى الخيام المرصوصة على عجل، التي آوت اللاجئين. 

يجرد حصر النكبة بتاريخ محدد وهو 15 أيار 1948 من فهمنا العميق لها، لأنها ليست مرهونة بيوم واحد. تعتبر النكبة سلسلة أحداث مروعة متتالية، لم يكن الفلسطيني ضحية سلبية فيها، فمنذ قرار تقسيم فلسطين التي أعلنت عنه الجمعية العمومية للأمم المتحدة في تشرين الثاني 1947 وحتى  توقيع اتفاقيات الهدنة بين "إسرائيل" وكل من مصر ولبنان والأردن في نيسان 1949 تشكلت النكبة ضمن سياقات مختلفة، حاول الفلسطيني مواجهتها ولكن شكلها الدقيق تشكل مع طرد الفلسطينيين من بلادهم. 

كتاب "قبل الشتات" (التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876-1948) تأليف المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي، والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1987، يحتوي على 474 صورة ضمن نطاق زمني منذ المرحلة التي رافقت بدايات الحركة الصهيونية العالمية في أوروبا الشرقية حوالي العالم 1876 وحتى 15 أيار 1948. نرى في القسم الأخير منه كيف تخرج الصورة من هشاشتها الصامتة وتتحول إلى برهان أخلاقي لا للحق فقط، بل للسلطة التي تمنحها الصور للحقيقة، والتحول التدريجي للكاميرا في فلسطين من استخدمها الفردي للعائلات في طقوسهم الاجتماعية مثل الزواج والاحتفالات الشخصية، إلى أداة للحصانة ضد التزييف، يعتبر هذا واضحاً في الكتاب، وكأن الصور تمدنا بالحضور الرمزي لما يفوق المأساة، لا بمعناها المتخيل الذي تشكله الكلمات، بل بمعناها الأكثر تعبيراً للشعوب المسلوبة من ماضيها وتحاول استعادته، لأننا كفلسطينيين ندرك تماماً الصدمة التي يمكن أن يشكلها فقدان الذاكرة والنسيان.
 

إلى البحر: المدنيون الفلسطينيون بعد إلقائهم في البحر. ميناء يافا أواخر نيسان ١٩٤٨. هجرة عشرة آلاف من سكان يافا والقرى المجاورة بالقوارب إلى غزة ومصر، ومات عدد كبير منهم غرقاً. كان من المقرر حسب توصية هيئة الأمم بتقسيم فلسطين، أن تكون يافا الميناء الرئيسي للدولة الفلسطينية المقترحة. من كتاب: قبل الشتات
 

قدرة الكاميرا بالقبض على الزمن وكأنه لحظة أبدية واحدة، جعل من اليقين الذي يفوق حكايات النكبة مثالاً للواقع، حتى عندما كان اللجوء هو دليلاً على أبرز أشكال الهزيمة، كانت الكاميرا تستعيد الحاضر وكأنه تتابع مستمر لما يشبه السرد المركب للتاريخ. 

مع ذلك الفن الذي استطاع أن يحلل مشاهد النكبة من الداخل، هو الرسم، مع أن العالم بصورته الإستهلاكية يفضل الصور الفوتوغرافية على اللوحات، لأنها بنظره تمثل قطعاً مسروقة من الواقع، ولكن فن الرسم استطاع أن يستعيد تداخل ما تمثله النكبة وكيف يراها من عاشها، وليس كيف يجب أن نراها نحن، وهذه العدسات التي نرى فيها النكبة، قدمت لنا مشهدين، مشهد مبسط من الواقع قدمته الصور الفوتوغرافية، ومشهد أكثر تحليلاً يقاطع الشعور بالذاكرة بما تمثله التفاصيل الدقيقة وما فاتنا من انتباه. 

يقول الرسام الفلسطيني سليمان منصور في حوار أجرته معه رمان الثقافية " إن معالجة النكبة في فن الرسم تم من خلال الذاكرة أكثر منه من خلال الصور الفوتوغرافية، بالتأكيد الرسامين الذين عاشوا النكبة مثل الرسام (اسماعيل شموط)، الذي استعاد النكبة من خلال الشعور بها وما تركته هذه الجريمة في ذاكرته، وساهمت كذلك الفنانة تمام الأكحل التي عاشت النكبة أيضاً والتي عبرت عنها في لوحة "الاقتلاع من يافا" بشكل خاص، وما عدا ذلك أستطيع أن أقول أن غالبية الفنانين الفلسطينيين ولسبب ما لم يحاولوا الاستفاضة في صور النكبة واللجوء، وعبروا عن هذا الموضوع من خلال أشكال إنسانية تبعث على الحزن والحنين إلى الوطن السليب، وبدأت هذه الظاهر منذ خمسينات القرن الماضي ومازالت مستمرة حتى اليوم، ليس فقط في الفن التشكيلي، بل بالأدب أيضاً. 

حالة واحدة لا بد من ذكرها، حيث قامت الفنانة لمى حوراني حيث قامت بتمثيل إحدى صور النكبة، عندما أحضرت حافلة قديمة جداً تشبه الموجودة في صور النكبة، وجمعت فيها ممثلون من نساء وأطفال ورجال بملابس قديمة، وصورتهم في محاولة لاستعادة صورة أيقونية من صور النكبة. 

هناك شكل واحد من أشكال النكبة تكرر في الرسم وهو المفتاح أولاً ومن ثم الخيمة، تكرر كثيراً في العديد من اللوحات، أما الصور التي التقطتها المنظمات والوكالات العالمية للنكبة لم يستفد منها الرسامون".

إن تخيل النكبة وتأملها ومحاولة التعبير عنها، لا يتم بدون التجسيد المستمر لمشاهد لا يمكن تجاوزها حفظتها الذاكرة جيداً، لا ذاكرة الذين عاشوها فقط، بل حتى الذين يحاولوا حمايتها من النسيان، ربما ما استطاع تجاوزه الرسامون الذين عالجوا النكبة هو أنهم حولوا النكبة من معناها الكبير الواسع الذي يعبر عن المأساة، إلى تفاصيل دقيقة تربط المأساة مع فكرة الجسد والمدينة، عن التداخل الكلي بين ما كان يرى الفلسطيني وما يشعر في النكبة.

حتى عندما تحولت النكبة إلى رمز "المفاتيح" فهي بذلك صارت فكرة، لا تخص العائلة أو الفرد، بل تخص ملاحظات الماضي وطريقة تعاملنا معها اليوم في الحاضر.