هكذا تنغلق دائرة ما لتنفتح أخرى، بالمعنى المختزل، ببساطة شديدة لأنّ الحياة بسيطة وهشّة، أشبه ما تكون بالفخّار، والفخّار الهشّ ليس بحاجة للكسر، وواقع الأمر أنّ "الحياة لا تحتاج إلى أفكار. بل إلى يد تقطف وأسنان تقضم" هذه هي تراتبيّة الشاعر وفهمه للحياة ودورنا المحدود فيها، فـ "نحن لسنا سوى لاقطي كرز وتين، لسنا سوى مربّي شك في خلايا اليقين".
يتأزّم سؤال الكتابة حينما تكون عن أديب متعدّد المواهب، كتب في الشّعر والرّواية والصحافة، وانشغل في البحث عن أسرار اللّغة والتاريخ والأسطورة، بدأ تجربته وهو يقف على مسافة آمنة من المركز السياسيّ، فلم يشكّل العمل الحزبيّ رافعة حقيقيّة له، ولكنّه احتلّ هامش الجمهور، بكامل إرادة الأخير، فكانت العلاقة بينهما، علاقة تكامل واكتمال بين حقيقة الموقف وسبل التعبير عنه، تحديداً في عصر منصّات التواصل الاجتماعيّ.
زكريّا محمد الذي ولد في قرية الزّاوية بالقرب من نابلس منتصف القرن الماضي، درس الأدب العربيّ في جامعة بغداد، لينتقل بعد تخرّجه إلى بيروت منخرطاً في العمل الصحافيّ. ولتصبح رحلات التنقّل بين بيروت وقبرص وتونس وعمّان دورية، حتى زمن العودة مع العائدين إلى فلسطين بعد توقيع اتفاقية أوسلو، ليبدأ من جديد في مسار مختلف من حيث الشكل والمضمون، ليشكّل البحث في اللسانيّات هاجسه الذي وضعه على سكّة الفكر من مدخل مغاير لم ير من خلاله إلّا الهامش موضوعاً وهمّاً، ولم ينظر إلى المركز إلّا باعتباره خصماً؛ فعن ماذا يمكن للمرء أن يكتب وهو أمام سيرة عامرة بالأحداث وواضحة بالمخرجات؟ هل يكتب عن الشّاعر؟ أم عن الباحث؟ أم عن المفكّر؟ أم عن الإنسان؟ فهو كلّ ذلك ولا شيء منه في الخانة العشريّة للاسم والصّفة لحظة الموت الصّاعق والمفاجئ.
غير أنّ الله منحه وقتاً مستقطعاً على الخطّ الواصل بين الأمل واليأس، فحرّر القصيدة من أزمتها السياسيّة، ليقدّم نصّاً إنسانيّاً عصريّاً ومغايراً، بدلالات وطنيّة تحرّريّة، تجلّى في اقتراحه الشعريّ "زراوند" تحديداً، والذي انحاز فيه للأمل في مواطن الاحتمال، مجابهاً لليأس على مدارج الأحلام؛ على الرّغم من اعتقاده أنّ "الشعر نتاج اليأس، لا نتاج الأمل" وهي قاعدة يؤمن بها على اعتبار أنّ اليأس يمكنه أن يكون أحياناً هو الأمل ذاته؛ وفي نحو ذلك نسمعه يقول:
"فجأة ردّ لي الموت ما أخذه مني.. وقفتْ عربته أمام بيتي، وأنزلت كلّ شيء: أحبتي الذين اختطفهم مني، أصدقاء طفولتي، والأمل بتنورته القصيرة، لم يعد لديّ ما أبكيه. أستطيع الآن أن أضع نعليّ تحت رأسي كي آخذ غفوة طويلة".
هذا الوقت المستقطع المشار إليه يستدعي بالضرورة، ما مضى من منعطفات تاريخيّة حادّة، كما منعطف الخروج الآمن من رومانسيّة الأحلام اللّاهثة وراء الأفكار الكبرى، في محاولة أخيرة لربّما لرؤية الوطن، لا التورّط في عشق الطّريق المؤدّي إليه؛ لاستنشاق ترابه، لا التّغنّي به عن بُعد، فكان أن صدّر زكريّا مجموعته الشعريّة الأولى تحت عنوان "قصائد أخيرة" عام (1981)، ليُخضع نفسه بالكليّة لسلطة هذا المعنى الواضح والمباشر في عنوانه الأوّل، مجتهداً في توسيع زاوية الرؤية، علّه يوماً يتمكّن من تحديد خارطته الشعريّة الخاصّة والمختلفة، في زمن تزاحمت فيه الأصوات الشعريّة حول المركز السياسيّ لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، ليس فقط من الشعراء الفلسطينيّين، ولكن من كل حدب وصوب في المنطقة العربيّة بأسرها.
ولأنّه لم يكن يؤمن بترويض الخطأ لتخليق الصواب، عبر كلّ مقايضة محتملة أو ابتذال ممكن، اكتسبت نصوص زكريّا محمّد أهميّتها من استجابتها للظّرف الاجتماعيّ حيناً، وللطبيعة أحياناً، وكأنّه كان يبحث عن البّلاد في طبيعة البلاد وهي تنازل الموت متسلّحة بالذكريات وفق اقتراحه الشعريّ في أحد نصوص مجموعته الأخيرة "زراوند" وهو يقول: "ليس هناك فراغ في الطبيعة. فالذكرى تملأ كل شيء. ثمّة باب آخر للحياة لا يعرف عنه الموت، ولا يستطيع أن يأتي منه".
ولأنّه أيضًا، لم يكن راديكاليّاً يحاول تشكيل المقاربات أو المفارقات، قدر ما كان متسلّحاً بمناعته الثقافيّة الشعبيّة، عمل على "دمقرطة نصّه الشعريّ" إن صحّ التعبير، في محاكاة جمهوره، وهو ما عبّر عنه في حوار له عام 2016، إذ يؤكّد: "ليست هناك رحلة في مقطوعاتي بالطبع، لكن هناك كلام وحوار، أنا لا أنشد لهم، بل أصل إلى النشيد معهم (...) أضع قدميّ الحافية على الصخرة وأسير، أحاول أن أجمع بين البساطة والعمق، هذه هي المعادلة التي أحاولها".
هذا هو زكريا محمد الذي كرّس اسمه بوصفه أحد أبرز المثقّفين الفلسطينيّين بجدارة عبّرت عنها الرافعة الشعبية التي حملته إلى هذه المكانة بين عديد الأسماء الرّاحلة والحاضرة على حدّ سواء، لا لأنّه شكّل علامة استفهام كبرى بين الأصوات الشعريّة المعاصرة في فلسطين والمنطقة بلغته وأسلوبه المختلفين وحسب، وإنّما لأنّه خلق لنفسه حالة ذهنيّة شغوفة بالبحث عن الغد، عصيّة على التفلّت انحيازاً لهذه الأيديولوجيا أو تلك؛ لأنّ الأدب كما يقول جورج أورويل صاحب رواية 1948، "يتطلّب أمانة ذهنيّة، وحدّاً أدنى من الرقابة" ولذلك تخلّى الشاعر عن حصّته في الكعكة الأدبيّة، وهو ما أشار إليه شعراً في مجموعته الأخيرة: "قصيرات خطواتي، وقصيرات جملي. لكن ليس لأحد سلطان علي" وهو أيضا ما أوضحه حواريّاً حين قال عام 2016:
" نعم، فرضت على نفسي عزلتي الخاصّة. وأنا لا أطالب بأيّ قطعة من الكعكة الأدبيّة. حصتي تخلّيت عنها. ثم إنّه لم يعد لديّ وقت كي أضيّعه. عليّ أن أنجز التقرير النهائيّ، وأقدّمه لمن يهمّه الأمر".
لكنّ عزلته هذه، نبّهته إلى أنّ الشّعر "محاولة ما للتراضي مع الزّمن" على اعتبار أنّ اقتراحاته هي "حصّة الزّمن" الذي يحاول الخروج منه بأغنية يمكنها أن تهزمه، ويقصد الزمن، على الرّغم من اعترافه بأنّ "الشّعر ليس الحقيقة، بل أختها الكذّابة"، محذّراً كلّ من يقرأ شعره من البكاء الكاذب على الأطلال؛ أطلال الوطن، أطلال الذاكرة، أطلال الحياة، في محاولة منه للتّأكيد على أنّ "البكاء ليس دليل براءة. فالخطيئة ذاتها بكّاءة بنت بكّائين" وإن سئل، ما الذّات يا زكريّا قال: "الذّات كلبة مسعورة تعيش على الاستعارات".
أمّا "أنا" المؤمنة بذاتها في فلسفة زكريّا الشاعر والمفكّر، فيمكننا ملاحظتها في قوله: "لا أومن بأيّ شيء تقريباً.. لديّ فقط محاولات للإيمان بشيء ما. لكنّها مجرّد محاولات (...) لكنّني لست غاضباً من أنّ الوجود يعجز عن تأكيد ذاته. فهذا العجز هو ما يجعل الموت أمراً محتملاً".
قلق الالتباس هذا، لم يشأ زكريّا أن ندخل في تراجيديا تفاصيله الدامية، ولا أن نحاول القفز فوق أسواره الحاجبة، فقط يقترح علينا أن نترك مسافة فاصلة ونكمل المسير، فنجده يقول: " من أجل هذا لا تفكر في الأمر أكثر مما ينبغي (...) ولا تخشى شيئا. الموت سيتدبّر الأمر. سيأخذ قلم رصاص، ويربط كلّ نقطة بأخرى، كأنّه يصنع مسبحة، ثم يدفع بالنقاط كلّها، عبر ثقب ضيق، إلى صالة ما صغيرة تحت الأرض".
هكذا تنغلق دائرة ما لتنفتح أخرى، بالمعنى المختزل، ببساطة شديدة لأنّ الحياة بسيطة وهشّة، أشبه ما تكون بالفخّار، والفخّار الهشّ ليس بحاجة للكسر، وواقع الأمر أنّ "الحياة لا تحتاج إلى أفكار. بل إلى يد تقطف وأسنان تقضم" هذه هي تراتبيّة الشاعر وفهمه للحياة ودورنا المحدود فيها، فـ "نحن لسنا سوى لاقطي كرز وتين، لسنا سوى مربّي شك في خلايا اليقين".
هذه هي الحكاية باختصار، وهذا بعض من زكريّا محمد، الشاعر المشّاء على بحر الكلام المباح وغير المباح؛ الباحث الطوّاف عن فلسطين الإنسان؛ المتأمّل في سماء الفكر السياسيّ والاجتماعيّ ببراءة الخيال، القادر على التشخيص، والتفكيك، والتأويل ببداهة صاحب الحقّ؛ المتمرّد العصيّ على الترويض والامتثال، المميّز باقتدار للفوارق البينيّة بين "القول النافع، والقول الصحيح" فانطبق عليه أنّه كان بسيطاً في صلابته، وصلباً في بساطته، "هذا هو بدء القصّة ومنتهاها".