"بوصلة الحِداد"... جوديث بتلر تكتب عن العنف وإدانته (ترجمة)

2023-10-28 11:00:00

Bild: © Cayce Clifford

إذا اعتقدنا أنَّ الإدانة الأخلاقيَّة يجب أن تكون فعلاً واضحاً ودقيقاً خالياً من الإشارة إلى أيِّ سياقٍ أو معرفة، فسنَقبلُ إذاً، على نحوٍ لا لبس فيه، بالشروط التي تفرضها تلك الإدانة وكذلك بالمسرح حيثُ يجري تدبير كلّ البدائل. وفي هذا السياق الأخير، يعني قبول هذه الشروط إعادة إنتاج أشكال من العنصريَّة الاستعماريَّة التي جزء من المشكلة البنيويَّة التي ينبغي حلُّها والظلم الثابت الذي ينبغي التغلَّب عليه.

نشرت في London Review of Books في ٢٠ أكتوبر ٢٠٢٣.

 

إنَّ أبرزَ المسائل التي بحاجةٍ إلى النقاش في الفضاء العامّ وأكثرها إلحاحاً هي تلك التي تَصعُب مناقشتُها ضمن الأُطر المتاحة أمامنا الآن. وعلى الرغم من أنَّ المرء ليرغب بالخوض مباشرةً في الموضوع قيد النظر، إلَّا أنَّه يصطدمُ بحدود إطارٍ يجعل من المستحيل تقريباً أن يقول ما لديه. أريدُ أن أتحدَّث عن العنف؛ عن العنف الحاليِّ، وتاريخ العنف، وأشكاله العديدة. لكن إذا رغِب المرء في توثيق العنف، ويعني هذا فهمَ ما نفَّذته حماس من قصفٍ هائلٍ وعمليَّات قتلٍ في إسرائيل باعتباره جزءاً من ذلك التاريخ، فمن الممكن اتِّهامُ المرءِ بـ "النسبيَّة" أو "السياقيَّة". علينا إمَّا أن ندين أو نوافق، وهذا أمرٌ مفهوم، لكن هل هذا هو كلُّ المطلوبِ منَّا على الصعيد الأخلاقيّ؟ في الواقع، إنَّني أدينُ دونما تحفُّظٍ ما ارتكبتُه حماس من عنف. لقد كانت مذبحةً مرعبةً ومثيرةً للاشمئزاز. هكذا كان ردُّ فِعلي الأساسي، وهو ما زال كذلك. بيد أنَّ هناك ردود أفعالٍ أخرى أيضاً.

على الفور تقريباً، يريد الناس معرفة "الجانب" الذي تقف في صفِّه، ومن الواضح أنَّ الإجابة الوحيدة الممكنة لمثل هذا القتل هي الإدانة القاطعة. لكن لماذا نعتقدُ أحياناً أنَّ التساؤل عمَّا إذا كنَّا نستخدم اللغة السليمة، أو ما إذا كان لدينا فهمٌ جيِّد للظرف التاريخيّ، فإنَّ من شأن ذلك الوقوف عائقاً أمام توجيه إدانةٍ أخلاقيَّةٍ قويَّة؟ هل من النسبيِّ حقَّاً أن نتساءل عمَّا نُدينه بالضبط، وعن مدى هذه الإدانة، وعن أفضل ما يمكن به وصف التشكيل السياسيّ، أو التشكيلات، التي نعارضُها؟ سيكون من الغريب معارضة شيءٍ ما دون فهمه أو وصفه وصفاً مناسباً. وما سيكون أكثر غرابةً هو الاعتقاد بأنَّ الإدانة تتطلَّبُ رفضَ الفهم، خشية أنَّ المعرفة لن تساهم إلَّا في إضفاء طابع النسبيَّة على المشهد، وتقويض قدرتنا على الحكم. وماذا لو كان من الضروريّ أخلاقيَّاً أن نوسِّع نطاق إدانتنا لتشمل جرائم مروِّعة بقدر تلك التي تُبرزها وسائل الإعلام مراراً وتكراراً؟ متى، وأين، تبدأ إدانتنا وتنتهي؟ ألسنا بحاجةٍ إلى تقييمٍ نقديٍّ ومُستنيرٍ للوضع يرافقُ الإدانة الأخلاقيَّة والسياسيَّة، من دون الخوف من أن اكتسابَنا للمعرفة قد يُحيلنا، في عيون الآخرين، فشلةً أخلاقيَّاً ومتواطئين في جرائم بشعة؟

هناك من يستخدمُ تاريخ العنف الإسرائيليِّ في المنطقة كذريعةٍ لتبرئة حماس، لكنَّهم يستخدمون صيغةً فاسدةً من الاستدلال الأخلاقيِّ لتحقيق تلك الغاية. لنكن واضحين، إنَّ العنف الإسرائيليَّ ضدَّ الفلسطينيِّين طاغٍ وساحق: قصفٌ بلا هوادة، وقتلٌ للناس من مختلف الأعمار داخل منازلهم وفي الشوارع، وتعذيب في السجون الإسرائيليَّة، وأساليب تجويع مختلفة في غزَّة، وسلبٌ للمنازل. وكلُّ هذا العنف، بأشكاله المختلفة، مُمارسٌ ضدَّ شعبٍ يرزح تحت قوانين الفصل العنصريّ، والحكم الاستعماريّ، وانعدام الجنسيَّة. لكن، عندما تُصدِر لجنة التضامن الفلسطينيّ في جامعة هارفرد بياناً تدَّعي فيه أنَّ "نظام الفصل العنصريّ هو وحده فقط المُلام" عن الهجمات القاتلة التي شنَّتها حماس ضدَّ أهدافٍ إسرائيليَّة، فإنَّها بذلك ترتكبُ خطأً. من الخطأ تقسيم المسؤوليَّة على هذا النحو، وما من شيءٍ بمقدوره إعفاء حماس من مسؤوليَّتها بصدد ما ارتكبته من أعمال قتل بشعة. وفي الوقت نفسه، لا تستحقُّ هذه المجموعة وأعضاؤها أن يُدرَجوا على القوائم السوداء أو يتعرَّضوا للتهديد. الأكيد أنَّهم محقّون في إشارتهم إلى تاريخ العنف في المنطقة: "من الاستيلاء الممنهَج على الأراضي إلى الغارات الجوِّيَّة الروتينيَّة، ومن الاعتقالات التعسفيَّة إلى نقاط التفتيش العسكريَّة، ومن الفصل القسريِّ للأسر إلى الاغتيالات المستهدفة، فإنَّ الفلسطينيِّين مُجبَرون على العيش في حالة من الموات البطيء والمفاجئ في آن".

ما سبقَ وصفٌ دقيقٌ ويجب قولُه، لكنَّه لا يعني أنَّ عنف حماس ليس سوى عنفٍ إسرائيليٍّ بمسمَّى آخر. صحيحٌ أنَّه ينبغي أن نتوصَّل لفهمٍ للأسباب التي تجعلُ مجموعاتٍ على غرار حماس تكتسب القوَّة في ظلِّ الوعود المنكوثة في أوسلو وكذلك "حالة الموت البطيء والمفاجئ في آن" التي تصفُ الوجود الحيّ للكثير من الفلسطينيِّين الذين يعيشون تحت الاحتلال، سواءٌ أكان ذلك ناجماً عن المراقبة المستمرَّة والتهديدات بالاعتقال الإداريّ من دون محاكمة عادلة، أو الحصار المشدَّد الذي يحرمُ أهالي غزَّة من الدواء والمأكل والمشرب. لكنَّنا لا نحصل على مبرِّر، أخلاقيٍّ أو سياسيّ، لأفعال حماس من خلال الإشارة إلى التاريخ. وإذا ما طُلِب منَّا أن نفهم العنف الفلسطينيّ بوصفه استمراراً للعنف الإسرائيليّ، أي على غرار ما تطلب لجنة التضامن الفلسطينيّ في جامعة هارفرد منَّا فعله، فسيكون هناك إذاً مصدرٌ وحيد للمَلومِيَّة الأخلاقيَّة، بل حتَّى إنَّ عنف الفلسطينيِّين أنفسهم لن يكون خاصَّاً بهم. وتلك ليسَت الطريقة السليمة للاعتراف باستقلاليَّة العمل الفلسطينيّ. إنَّ ضرورة الفصل ما بين فهم العنف الشرس والدائم الذي تمارسُه الدولة الإسرائيليَّة وأيِّ تبريرٍ للعنف لهو أمرٌ بالغ الأهميَّة إذا ما أردنا النظر في السبل الأخرى المتاحة للتخلُّص من الحكم الاستعماريّ، ووقف الاعتقالات التعسُّفيَّة والتعذيب في السجون الإسرائيليَّة، وإنهاء الحصار المفروض على غزَّة حيثُ تتحكَّم الدولة القوميَّة المسيطِرة على حدودها بتقنين الماء والغذاء. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ المسألة المتعلِّقة بماهيَّة العالم الذي لا يزال ممكناً لجميع سكَّان تلك المنطقة تعتمدُ على سبل إنهاء الحكم الاستعماريّ-الاستيطانيّ. تُقدِّمُ حماس إجابةً مروِّعةً لهذه المسألة، لكن هناك العديد من الإجابات الأخرى. ومع ذلك، إذا كان ممنوعاً علينا الإشارة إلى "الاحتلال" (وهذا من ضمن المحظور الفكريِّ المعاصر في ألمانيا)، وإذا لم يكن بمقدورنا حتَّى تنظيم مناقشة بصدد ما إذا كان الحكم العسكريُّ الإسرائيليُّ للمنطقة استعماراً أو نظام فصلٍ عنصريّ، فإنَّه ما من أملٍ في فهم كلٍّ من الماضي والحاضر والمستقبل. تعتري العديدَ من الذين يشاهدون المذبحة عبر وسائل الإعلام مشاعرُ بيأسٍ شديد. بيد أنَّ أحد الأسباب وراء هذا اليأس هو مشاهدتهم الأحداث عبر وسائل الإعلام، ممَّا يجعلهم يعيشون في عالم مثيرٍ وسريع التحوُّلات من الغضب الأخلاقيِّ اليائس. إنَّ تطوير أخلاقيَّاتٍ سياسيَّةٍ مختلفةٍ هي مسألة تستغرق الكثير من الوقت، وهي السبيل الصَبور والشُجاع للتعلُّم وتسمية الأمور بمسمَّياتها كي يتسنَّى لنا إرفاق الإدانة الأخلاقيَّة برؤية أخلاقيَّة.

أعارضُ العنف الذي ارتكبَتهُ حماس، وليسَت لديَّ أيُّ ذريعةٍ لتبريره. في قولي هذا تعبير جليٌّ عن موقفٍ أخلاقيٍّ وسياسيّ. ولا أراوغ عندما أفكِّر فيما تفترضه هذه الإدانة أو تنطوي عليه. قد يرغب أيُّ شخصٍ يُشاركني هذه الإدانة في التساؤل عمَّا إذا كان ينبغي أن تستند الإدانة الأخلاقيَّة إلى بعض الفهم لِما تجري مُعارضَتُه. وقد يقول قائل: كلَّا، لستُ بحاجةٍ إلى معرفة أيِّ شيءٍ عن فلسطين أو حماس لأعرفَ أنَّ ما فعلوه خاطئ وأدينه. إذا توقَّف المرء عند هذا الحدّ، مُعتمِداً على تمثيلات وسائل الإعلام المعاصرة، ودونما أيِّ تساؤل عمَّا إذا كانت صحيحةً ومفيدةً بالفعل، وما إذا كانت تسمَحُ بسرد المنظورات التاريخيَّة، فإنَّه يَقبلُ قدراً معيَّناً من الجهل ويثقُ في الإطار المتاح. ففي نهاية المطاف، نحنُ جميعاً مشغولون، وليس بمقدورنا جميعاً أن نكون مؤرِّخين أو علماء اجتماع. هذه طريقةٌ ممكنةٌ للتفكير والعيش، وهناك أشخاصٌ ذوو نوايا طيِّبةٍ يعيشون على هذه الشاكلة بالفعل، ولكن بأيِّ ثمن؟

ماذا لو لم تتوقَّف أخلاقيَّتنا وسياساتنا عند حدِّ الإدانة؟ ماذا لو أصررنا على التساؤل عن شكل الحياة التي ستحرِّرُ المنطقة من مثل هذا العنف؟ ماذا لو أردنا، فضلاً عن إدانة الجرائم الغاشمة، خلقَ مستقبل لا مكان فيه لهذا النوع من العنف؟ ما سبقَ هي تطلُّعاتٌ معياريَّةٌ تتجاوز الإدانة اللحظيَّة، ويتطلَّب تحقيقها معرفة التاريخ: من تطوُّر حماس كجماعةٍ مُسلَّحة في أعقاب خراب ما بعد أوسلو بالنسبة إلى أولئك الذين لم يروا أيَّ شيٍ من الوعود بحكمٍ ذاتيٍّ في غزِّة؛ ومن تشكيلِ جماعاتٍ فلسطينيَّةٍ أخرى ذات تكتيكاتٍ وغايات مختلفة؛ ومن تاريخ الشعب الفلسطينيّ وتطلُّعاته إلى الحرِّيَّة، والحقِّ في تقرير المصير السياسيّ، والانعتاق من الحكم الاستعماريِّ والعنف المتفشِّي عسكرياً وفي السجون. حينئذٍ قد نصبح جزءاً من النضال من أجل فلسطين حرَّة تُحلُّ فيها حماس، أو تُستبَدلُ بمجموعاتٍ أخرى ذات تطلُّعاتٍ تعايشيَّة سلميَّة.

وأمَّا من يَقتصر موقفه الأخلاقيّ على الإدانة فحسب، فإنَّ فهم الموقف ليس غايته. يمكن القول إنَّ هذا النوع من الغضب الأخلاقيّ هو آنيّ ومُعادٍ للفكر معاً. ومع ذلك، بإمكان الغضب أيضاً أن يدفع المرء نحو كتب التاريخ بغية معرفة كيف يمكن أن تحدث مثل هذه الأحداث، وما إذا كانت الظروف قد تتغيَّر بحيث يمكن تحقيق مستقبلٍ لا يكون فيه العنف هو الممكن الوحيد فقط. لا ينبغي أن تكون المسألة بصدد ما إذا كانت "السياقيَّة" نشاطاً إشكاليَّاً على المستوى الأخلاقيّ، وذلك على الرغم من أنَّه يمكن توظيف بعض أشكالها في التبرئة أو إلقاء اللوم على الآخر. أليس بمقدورنا التمييز ما بين هاتين الصورتين من "السياقيَّة"؟ فقط لأنَّ البعض يَعتقدون أنَّ من شأن القراءة السياقيَّة للعنف القبيح قد تنحرف عن العنف، أو أسوأ من ذلك أن تُبرِّره، فهذا لا يعني أنَّ علينا الاستسلام للادِّعاء القائل إنَّ جميع أشكال السياقيَّة تُفضي إلى نسبيَّة أخلاقيَّة من هذا القبيل. عندما تزعم لجنة التضامن الفلسطينيّ في جامعة هارفرد أنَّ "نظام الفصل العنصريّ هو وحده فقط المُلام" عن هجمات حماس، فإنَّها تصادق على نسخة غير مقبولة من المساءلة الأخلاقيَّة. يبدو أنَّه لفهم الأسباب وراء حدثٍ ما، أو إدراك ما ينطوي عليه من معان، فإنَّ علينا أن نتعلَّم بعض التاريخ. ويقتضي هذا منَّا توسعة زاوية نظرنا بحيث تتجاوز اللحظة الراهنة المروِّعة، من دون إنكار رعبها، وفي الوقت نفسه مع رفض السماح لهذا الرعب بتمثيل كلِّ الرعب الذي ينبغي تمثيله، ومعرفته، ومعارضته. إنَّ معظم وسائل الإعلام المعاصرة لا تُقدِّم أيَّ تفاصيل عن الفظائع التي يعيشها الشعب الفلسطينيّ على مدى عقودٍ من قصفٍ وهجماتٍ عشوائيَّة واعتقالات وقتل. وإذا كانت أهوال الأيَّام الأخيرة تحظى بالنسبة إلى وسائل الإعلام بأهميَّةٍ أخلاقيَّة أكبر من أهوال السنوات السبعين الفائتة، فإنَّ الاستجابة الأخلاقيَّة لهذه اللحظة تُهدِّد بحجب فهم أوجه الحيف الجذريَّة التي يعاني منها الشعب في فلسطين المحتلَّة والفلسطينيّون المهجَّرون قسراً، فضلاً عن الكارثة الإنسانيَّة والخسائر في الأرواح التي تحدث في غزَّة في هذه اللحظة.

هناك مبرِّرٌ لخوف البعض من أنَّ أيَّ قراءة سياقيَّةٍ لأعمال العنف التي ارتكبتها حماس قد تُستخدم لتبرئة الأخيرة، أو أنَّ السياقيَّة ستُشتِّت الانتباه عن فظاعة ما فعلته. لكن ماذا لو كانت الفظاعة نفسها هي التي تقودنا إلى قراءة السياق؟ أين بدأ هذا الرعب، وأين سينتهي؟ عندما تتحدَّث الصحافة عن "حرب" ما بين حماس وإسرائيل، فإنَّها تُقدِّم إطاراً لفهم هذا الوضع؛ بل في الواقع تُقدِّمُ فهماً له بالفعل. إنَّ فهم أنَّ غزَّة ترزح تحت الاحتلال، أو الإشارة إليها باعتبارها "سجناً مفتوحاً"، سيكون من شأنه إيصال تفسيرٍ مختلف. قد يبدو الأمر كأنَّه وصف، لكنَّ اللغة تقوِّض، أو تُيسِّر، ما يمكننا قوله، وكيفيَّة وصفه، وما يمكننا معرفته. أجل، اللغة قادرةٌ على الوصف، بيد أنَّها لا تكتسبُ هذه المقدرة إلَّا في حال التزامها بالقيود المفروضة على ما يمكن قوله. وإذا تَقرَّر أنَّنا لسنا بحاجةٍ إلى معرفة عدد الأطفال والمراهقين الفلسطينيِّين الذي قُتلوا في كلٍّ من الضفَّة الغربيَّة وغزَّة هذه السنة أو خلال سنوات الاحتلال، وأنَّ هذه المعلومات ليست مهمَّةً لمعرفة، أو تقييم، الهجمات ضدَّ إسرائيل وقتل الإسرائيليِّين، فسنكون بهذا قد قرَّرنا أنَّنا لا نريد معرفة تاريخ كلٍّ من العنف والحِداد والغضب كما يعيشه الفلسطينيّون. نريدُ فقط أن نعرف تاريخ كلٍّ من العنف والحداد والغضب كما يعيشه الإسرائيليّون. لقد كتبَت صديقةٌ إسرائيليَّة، تصف نفسها بأنَّها "مناهضة للصهيونيَّة"، عبر الإنترنت أنَّها تشعُر بخوفٍ شديد على حياة عائلتها وأصدقائها، وأنَّها خسرَت البعض بالفعل. ينبغي أن تتوجَّه قلوبنا إليها بالتعاطف، وقلبي كذلك بالتأكيد. لا لبس بأنَّ ما حدث أمرٌ فظيع. ومع ذلك، ألا يمكننا للحظةٍ تصوُّر أنَّ تجربتها الشخصيَّة مع الخوف وخسارة العائلة والأصدقاء هي ما قد يشعر به الآن فلسطينيٌّ على الجانب الآخر، أو ما شعرَ به بعد سنواتٍ من القصف والاعتقال والعنف العسكريّ؟ أنا أيضاً يهوديّةٌ تحيا صدمةً عابرةً للأجيال في أعقاب الفظائع المرتكبة بحقِّ أشخاصٍ مثلي. لكن مثل هذه الفظائع قد ارتُكبَت بحقِّ آخرين أيضاً ليسوا مثلي، ولا ينبغي أن أتماهى مع هذا الوجه أو ذاك الاسم من أجل تسمية الفظائع التي أراها. أو، على الأقلّ، أكافح لئلَّا أفعل ذلك.

لكن المشكلة في النهاية ليست مجرَّد فشلٍ في التعاطف، فهذا الأخير يتَّخذ شكله الرئيسيّ ضمن إطارٍ يسمَح بتحقيق التماهي، أو الترجمة ما بين تجربة الآخر وتجربتي الشخصيَّة. وإذا كان الإطار المهيمن يعتبر أنَّ بعض الأرواح أكثر مدعاةً للرثاء من غيرها، فمن المنطقيِّ أن يعني ذلك أنَّ بعض الخسارات أكثر ترويعاً من خساراتٍ أخرى. إنَّ السؤال بصدد من تستحقُّ حياتهم الرثاء هو جزءٌ لا يتجزَّأ من السؤال بصدد من تستحقُّ حياتهم التقدير. وهُنا تدخل العنصريَّة بصورةٍ حاسمة. إذا كان الفلسطينيّون "حيوانات" كما يدَّعي وزير الدفاع الإسرائيليّ بإصرار، وإذا كان الإسرائيليّون اليوم يمثِّلون "الشعب اليهوديّ" كما يدَّعي بايدن بإصرار أيضاً (مُقوِّضاً الشتات اليهوديّ إلى إسرائيل، على غرار ما يطالب به الرجعيّون)، فسيكون الشعب الوحيد المستحقّ للرثاء في هذا المشهد، الشعب الوحيد الذي يجري تقديمه باعتباره جديراً بالرثاء، هم الإسرائيليّون، لأنَّ المشهد الآن يعرض "حرباً" تدور ما بين الشعب اليهوديّ والحيوانات التي تسعى إلى قتله. من المؤكَّد أنَّ هذه ليست المرَّة الأولى التي يُصوِّر فيها مُستعمِرٌ شعباً يسعى للتخلُّص من أغلال الاستعمار بأنَّهم حيوانات. هل الإسرائيليّون "حيوانات" عندما يَقتلون؟ هذا التأطير العنصريَّ للعنف المعاصِر إنَّما يعيد إلى الأذهان التضادَّ الاستعماريَّ ما بين "المتحضِّرين" و"الحيوانات" الذين يجب دحرها أو تدميرها من أجل الحفاظ على "الحضارة". وفي حال اعتمدنا هذا الإطار في سياق إعلان معارضتنا الأخلاقيَّة، فسنجد أنفسنا ضالعين في شكلٍ من أشكال العنصريَّة يتجاوزُ فعل النطق ليصل إلى بنية الحياة اليوميَّة في فلسطين. لذا فإنَّ إصلاحاً جذريًّاً هو أمرٌ لا مفرَّ منه بكلِّ تأكيد.

إذا اعتقدنا أنَّ الإدانة الأخلاقيَّة يجب أن تكون فعلاً واضحاً ودقيقاً خالياً من الإشارة إلى أيِّ سياقٍ أو معرفة، فسنَقبلُ إذاً، على نحوٍ لا لبس فيه، بالشروط التي تفرضها تلك الإدانة وكذلك بالمسرح حيثُ يجري تدبير كلّ البدائل. وفي هذا السياق الأخير، يعني قبول هذه الشروط إعادة إنتاج أشكال من العنصريَّة الاستعماريَّة التي جزء من المشكلة البنيويَّة التي ينبغي حلُّها والظلم الثابت الذي ينبغي التغلَّب عليه. لذا لا يسعنا تجاهُل تاريخ الظلم باسم اليقين الأخلاقيّ، لأنَّ هذا يعني المخاطرة بارتكاب المزيد من الظلم، وفي مرحلةٍ ما سيتزعزع يقيننا إذا ما بُني على هذا الأساس غير المتين. أليس بمقدورنا أن ندين الأفعال الفظيعة أخلاقيَّاً من دون فقدان قدرتنا على التفكير والمعرفة والحكم؟ بالتأكيد نستطيع، بل ويجب علينا فعل كلا الأمرين معاً.

إنَّنا نشهَد أعمال عنفٍ مروِّعة عبر وسائل الإعلام. وفي هذه اللحظة من الاهتمام الإعلاميِّ المتزايد، فإنَّ العنف الذي نراه هو العنف الوحيد الذي نعرفه. وأكرِّر: نحنُ على حقٍ في إدانة العنف والتعبير عن رعبنا. لم تفارقني مشاعر الاشمئزاز لعدَّة أيَّام. كلُّ من أعرفهم يعيشون في خوفٍ ممَّا قد تفعله الآلة العسكريَّة الإسرائيليَّة لاحقاً، وما إذا كان خطاب نتنياهو الإباديّ سيتجسَّد في القتل الجماعيِّ للفلسطينيِّين. أسألُ نفسي عمَّا إذا كان بالإمكان أن نحزن، من غير قيدٍ أو شرط، على الأرواح التي فُقِدت في إسرائيل إلى جانب الأرواح التي فُقِدت في غزَّة، دونما غرقٍ في مستنقع مناقشات النسبيَّة والتكافؤ. ربَّما تُقِّدم بوصلة الحِداد الأوسع نموذجاً أكثر جوهريَّة للمساواة؛ نموذجاً يعترف بالمساواة في الحزن على الأرواح، ويولِّد في دواخلنا الغضب بصدد أنَّه كان يجب ألَّا تُزهَق هذه الحيوات، وأنَّ الموتى يستحقّون حياةً أكثر، واعترافاً متساوياً بحياتهم. كيف يمكننا حتَّى أن نتخيَّل تحقيق المساواة في المستقبل من دون معرفة أنَّ القوَّات الإسرائيليَّة والمستوطنين قد قتلوا قرابة 3800 مدنيّ فلسطينيّ منذ عام 2008 إلى ما قبل العمليَّات الراهنة في كلٍّ من الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، بحسب ما وثَّقه مكتب الأمم المتَّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيَّة. أين حداد العالم عليهم؟ لقد قتلت إسرائيل مئات الأطفال الفلسطينيِّين منذ بدأت عمليَّاتها العسكريَّة "الانتقاميَّة" ضدّ حماس، وسيموت أطفال كثيرون في الأيَّام والأسابيع القادمة.

ينبغي ألَّا يكون هناك تهديدٌ لمواقفنا الأخلاقيَّة إذا ما خصَّصنا بعضاً من الوقت للتعرُّف على تاريخ العنف الاستعماريّ، وتمحيص كلٍّ من اللغة والسرديَّات والأطر التي تحكُم الآن ما يصِلُنا عن المنطقة، وتتولَّى شرحَه، بل وتفسيره سلفاً. هذه المعرفة ضرورةٌ بالغة الأهميَّة، لكن ليس بغرض تبرير العنف القائم أو السماح بارتكاب المزيد من العنف؛ وإنَّما الغاية منها هي تقديم فهمٍ أدقّ للوضع بدلاً ممَّا يطرحه ذلك التأطير غير المتنازع عليه للحاضر وحده. في الحقيقة، قد تكون هناك مواقف أخرى من المعارضة الأخلاقيَّة التي يمكن إضافتها إلى تلك التي قبِلناها بالفعل، على غرار مُعارضة ما ترتكبه قوَّات الشرطة والجيش في عنفٍ يتخم حياة الفلسطينيِّين في المنطقة، ويحرمهم من حقِّهم في الحِداد، ومن معرفة تضامنهم وغضبهم والتعبير عنهما، ومن إيجاد سبيلهم الخاصّ نحو مستقبلٍ حرّ.

أعتبرُ نفسي شخصيَّاً مدافعةً عن سياسة اللاعنف، مع معرفتي أنَّها لا تَصلُح مبدأً مُطلقاً قابلاً للتطبيق في جميع المناسبات. وأصرُّ على أنَّ حركات التحرُّر التي تنتهج اللاعنف تُساعد على إنشاء العالم الخالي من العنف الذي نرغب جميعاً بالعيش فيه. كما أنَّني أدين العنف، دونما قيدٍ أو شرطٍ، وفي الوقت نفسه أريد، على غرار كثيرين آخرين، أن أكون جزءاً من التخيُّل والكفاح من أجل تحقيق المساواة والعدالة الحقيقيَّتين في المنطقة؛ على النحو الذي يفضي إلى إرغام جماعاتٍ مثل حماس على الاختفاء، وإنهاء الاحتلال، وازدهار أشكال جديدةٍ من الحرِّيَّة السياسيَّة والعدالة. من دون تحقيق المساواة والعدالة، ومن دون إنهاء عنف الدولة الذي تمارسه إسرائيل التي تأسَّست هي نفسها على العنف، فإنَّه لا يمكن تصوُّر أيّ مستقبل، بما في ذلك مستقبل لسلامٍ حقيقيّ، ولا أقصد بالأخير ذاك "السلام" باعتبارِه تعبيراً ملطَّفاً عن التطبيع الذي يُبقي على بُنى كلٍّ من عدم المساواة، وانعدام الحقوق، والعنصريَّة على حالها. بيد أنَّه لا سبيل لتحقيق المستقبل الذي نصبو إليه إن لم نظلَّ أحراراً في تسمية كلَّ أنواع العنف، ووصفها ومعارضتها، بما في ذلك أشكال عنف الدولة الإسرائيليَّة كافَّة، ومن غير أن تترافق أفعالنا هذه مع الخوف من الرقابة، أو التجريم، أو الاتِّهامات الخبيثة والكاذبة بمعاداة الساميَّة. أريدُ عالماً يعارضُ التطبيع مع الحكم الاستعماريّ، ويدعم حقَّ الفلسطينيِّين في الحرِّيَّة وتقرير المصير؛ أريدُ عالماً تنعتق فيه الرغبات العميقة لكلِّ سكَّان تلك الأراضي بالعيش المشترك في مناخٍ تسوده الحرِّيَّة واللاعنف والمساواة والعدالة. لا شكَّ أنَّ كثيرين يرون هذه الآمال ساذجة، بل حتَّى مُستحيلة. ومع ذلك، يتعيَّن على البعض منَّا أن يتشبَّث بها بكلِّ ما أوتي من قوَّة، رافضاً تصديق أنَّ البنى السائدة الآن ستظلُّ كذلك للأبد. ولتحقيق هذا نحتاجُ إلى شعرائنا وحالمينا، مجانيننا الجامحين، الذين يعرفون كيفيَّة تنظيم الصفوف.