لنشهد على حجب لا تكمن خطورته في المنع فقط، بل يعمل على احتكار الأصوات من حوله، ويخضع الواقع لدلالات تخلق منه وعياً زائفاً، يقدم القاتل على أنه ضحية، ويتصرف مع الضحية وكأنها غير موجودة، ليكون القتل أكثر شمولاً، طالما لا يحوي بعداً إنسانياً، ولا يستند على حق مشروع لشعب يمتلك أحلامه الشخصية بالتحرر.
"عندما يمحى شعب بأكمله من القصة فإن إغراء محوه تماماً تصعب مقاومته"
ستارهوك / مناضلة يسارية أميركية
يحاول المصور الإخباري حشر ظهره في زاوية غرفة الطوارئ المتكدسة بالجثث، محاولات فاشلة متكررة لكي تلتقط عدسة الكاميرا امتداد الأكفان البيضاء الموشحة بلون الدم الأحمر، تلمح مذيعة الأخبار كون عدد الشهداء في قطاع غزة يقارب العشرة آلاف ضحية، أكثر من نصفهم من النساء والأطفال.
إنها لحظة الوضوح. تريد إسرائيل أن تتفوق بالمزايا الإنسانية وهي ترتكب إبادة جماعية بحق أهالي قطاع غزة، لتلمع الرؤية الرومانسية لدور الضحية الذي يضمن خلودها ويكسبها حق القتل "المبرر" بحجة "الدفاع عن النفس" الذي تدعمه أمريكا، ومستعمرون كلاسيكيون مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لترتكب إسرائيل أكبر مجزرة منذ النكبة "تأسيسها" عام 1948 في العتمة بعد محاصرة القطاع وقطع الكهرباء والاتصالات، مستخدمة ما يعادل قنبلتين نوويتين لتكون حصة الفرد في القطاع عشر كيلو من المتفجرات.
رافق هذه الرؤية ممحاة كبيرة من أساطيل الإعلام الغربي، أفرغت الفلسطيني من محتواه حد ابتذاله، حجبته من الحكاية ليكون بلا سياق إنساني، وجمعت الضحايا في أرقام مضللة، ليكون الإسرائيلي فقط الذي يقتل أما الفلسطيني يموت، وعندما اكتشفوا أن الكاميرا يمكنها أن تكون لاسامية أيضاً وهي تصور المجازر! تكرس التضليل ليتم شيطنة الفلسطيني، وتغطية حسم الصراع بأكثر الأساليب وحشية ودموية، باقتباس تصريحات رسمية تبرر الجريمة بهستيريا دينية يقودها تفوق حضاري "إنه صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام"، كما جاء على لسان نتنياهو. ليتم تطويع جميع عناصر التوازن الداخلي والخارجي، لقصف المستشفيات والمدارس ومخازن الطعام، لتبرير القتل في الظلام، دون أي شاهد. لينتقل هذا الحجب الممنهج إلى الشارع، لقمع التظاهرات الشعبية والطلابية والنقابية والمجموعات الناشطة المتضامنة مع فلسطين والداعية لوقف الإبادة الجماعية، لنرى العالم الذي وضع قانوناً دولياً إنسانياً، وأقام المحكمة الجنائية الدولية، والقائم على التنوير والحداثة بمفكريه وفلاسفته، هو ذاته الذي يدعم احتلالاً استيطانياً يحاصر ما يقارب 2 مليون شخص ليرتكب بحقهم إبادة جماعية، مدعومة بدوافع تفوق عرقي، وأسباب دينية، لنشهد المخيلة الاستعمارية التي لم تمحى تماماً، وصلت في فرنسا لحد اعتبار التضامن مع فلسطين جريمة يعاقب عليها القانون وتغريم الصحفيين الذين يوثقون التحركات التضامنية مع فلسطين.، وفي ألمانيا والنمسا قمعوا بشكل ممنهج التحركات وفرضوا عليها ملاحقات جنائية وسط قيود صارمة.
انضمت المؤسسات الثقافية والأكاديمية ودور العرض لحملة الحجب العالمية لكل ما هو فلسطيني أو متضامن مع فلسطين، أو يعبر عن رأي يدعو لوقف الإبادة الجماعية، ليصل مستوى الحجب المباشر لكل ما هو عربي ومسلم، لتواجه الثقافة العربية تحدي الإلغاء والإقصاء من مشهد ثقافي عالمي، لا يعمل فقط على محو صوت الضحية، بل يعمل على إلغاء هويتها الثقافية برمتها، بدأ بحجب تسليم جائزة LiBeraturpreis للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي من قبل معرض فرانكفورت عن روايتها "تفصيل ثانوي" لاتهامات بعداء السامية، لتتوالى بعدها الإلغاءات وتتكثف عملية الحجب، لنرى تعبير "العداء للسامية" كيف أصبح يحمل دلالات أكثر، ونكتشف لا سامية لا يملك فيها من هو غير مؤيد لإسرائيل الحق بالتلميح لوجود الفلسطيني أو حقه بالتعبير عن نفسه، لا سامية جديدة لم تعد تقتصر على كره اليهود كأفراد وجماعات أو نقد محتمل للسياسة الإسرائيلية، لتشمل اليوم في لحظة وضوح الإبادة، تفكيكاً مركباً للإنسانية لا يحرمك فقط من حق إدانة الإبادة الجماعية، بل يفرض تجريداً ممنهجاً لفكرة وجود الفلسطيني كإنسان، له حكاية قد يحكيها، أو لوحة قد يظهر فيها، أو ينتمي لشعب له أدواته للتعبير عن نفسه، أو رموزه للظهور، ليأخذ التعبير أكثر الأمثلة شمولية ووحشية عندما يضم جميع المواطنين الفلسطينيين تحت مسمى المنظمات "الإرهابية"، لتكون الإحصاءيات والأرقام هي المكان الوحيد الذي يطل من خلاله الفلسطيني على العالم.
يكمن جوهر الحجب اليوم على إلغاء سياق الاحتلال الذي يبني الجدران ويداهم الأحياء ويعتقل النساء والرجال، ووجود شعب محتل يطور أسئلته لا ليصل لأجوبته فقط، بل ليبرر معنى وجوده أيضاً، ولربما إلغاء عرض مسرحية "وهنا أنا" من إعداد مسرح الحرية في جنين، من قبل بلدية شوازي لو روا، مثالاً لهذا السياق.
المسرحية التي ألفها الكاتب العراقي حسن عبد الرازق يؤديها الفنان أحمد طوباسي التي وتروي سيرة حياته، في رحلة الكشف عن معنى وجوده في ظل وجود تناقضات الاحتلال وقيوده، وتعرض تحولاً لسيرة حياة فلسطيني قاوم بالسلاح واعتقله الاحتلال، ليخرج من المعتقل ويقرر المقاومة من خلال الفن والمسرح، وتنتهي باغتيال مدير الفرقة ومرشده في هذا المسار جوليانو مير خميس. لنرى مع بدء العدوان الدموي والمدمر على قطاع غزة (عملية "السيوف الحديدية" الإسرائيلية)، كيف تم احتكار المشهد الذي يعبر فيه الفلسطيني عن نفسه وبنفسه، لا يريدون له أن يذكر العالم بكونه مازال قادراً على الكلام، أو يظهر الجوهر الإبداعي لحكايته. ليصرح أحمد طوباسي بعد أن تقرر عرض المسرحية في أرض خلاء! تم تحويلها إلى موقع فنيّ، وذلك "لأسباب فنيّة" بحسب التبرير الرسمي "الأمر لا يتعلق بالوقوف إلى جانب فلسطين أو إسرائيل، بل المطلوب إعطاء الفنانين فرصة وإنقاذهم من مشكلات السياسيين"، والذي نرى من خلاله أقسى احتمالات الفنان الفلسطيني لتبرير وجوده، كونه يمكنه أن يكون خارج السياسية -وهذا مستحيل طبعاً- لأن العالم وصل لمرحلة من الحجب صار يرى فيها فكرة وجود الفلسطيني الذي يروي حكايته، هي فكرة مرعبة وإشكالية وربما بحد ذاتها قد تعتبر عداءاً للسامية.
كما سحبت إدارة دار كريستيز في نيويورك، عَمَلين فنيّين، للفنان التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي، كان مقرراً بيعهما في مزاد الدار لفنون الشرق الأوسط الحديث والمعاصر، في 9 نوفمبر في لندن. لوحة "المثلم" التي تحوي تحوي رجلاً مقنعاً بكوفية حمراء زاهية والتي استلمها أيمن بعلبكي من الثورات العربية والانتفاضة الفلسطينية، أما لوحة "المجهول" فهي لرجل يرتدي قناعاً يحميه من الغاز المسيل للعيون، وعلى رأسه شريط أحمر كتب عليه "ثائرون". أما سبب الحجب بحسب تعبير مسؤول في كريستيز "الدار تلقّت شكاوى عديدة الأسبوع الماضي، حول العملين الفنيين، وسُحبت اللوحتان بسبب سوء فهم لموضوع الأعمال، وربطها بـ"التطرف الإسلامي" في ظل العدوان الإسرائيلي على غزة، ومحاولة مواجهته من قبل "كتائب القسام". ولكن حتى سبب الحجب يبدو إشكالياً، خاصة بعد تصريح الفنان التشكيلي اللبناني أيمن بعلبكي كون "كريستيز تتبع إجراءات معينة عند سحب الأعمال الفنية من المزاد، على سبيل المثال إذا كان يُعتقد أنها مزورة أو إذا كانت هناك أسئلة حول المصدر" وهذا فعلياً لا ينطبق على أعماله.
ما هو واضح تماماً، أنه كلما زادت ضرورة تمجيد "إسرائيل" ودعمها، زادت حدة محو الفلسطيني، لا ليشمل حكايته الشخصية فقط، بل ليشمل كل ما يذكر به عقائدياً، وأن ليس الفلسطينيون وحدهم من قد يحرمون، بل الحجب قد يصل إلى احتمالات يجب أن يدفع أي فنان من الشرق الأوسط ثمناً مقابل عجز الغرب عن إدراك البديهيات، كون اللثام الأحمر أو الأسود جزء من الثقافة العربية، ولا يعني أصلاً الإسلام السياسي. ولكن مع ذلك وصلت فوبيا المؤسسات الثقافية إلى مرحلة الهذيان من كل ما هو فلسطيني أو عربي أو مسلم، واستعادت وعياً بدائياً في تقدير الموقف، دفعها بشكل مباشر لإلغاء وحجب كل نقيض لما رسمته الإيديولوجية الغربية عن نفسها، والحذر بالتعامل مع كل ما هو مختلف عنها.
أخيراً، ما فعلته الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي تحت مسمى الحرب على "حماس" في قطاع غزة، كانت أداة كشف يتعرف من خلالها وجدان شعوب العالم على حكاية الشعب الفلسطيني، ونضاله المغيب ضد نظام فصل عنصري، كانت لحظة وضوح أدركت فيها الكثير من المجتمعات أن هناك شعباً ينتمي لسياق تاريخي لم يسمح له بالتعبير عنه، لربما هذا ما تدركه حكومة الاحتلال الآن والحكومات الداعمة لها، بالنظر اليوم إلى الفلسطينيين سياسياً وثقافياً كونهم عديمي الهوية، ولا يمكن النظر إليهم إلا بعيون إسرائيلية.
وتحديداً هذا ما حدث عندما حاول رئيس تحرير مجلة "إي لايف/(eLife)" العلمية (مايكل آيزن) التضامن مع فلسطين، تم قمعة بالطرد، بسبب نشر مقال ساخر من موقع "ذي أونيون" (The Onion)، حمل المقال عنوان "انتقاد المحتضرين في غزة لعدم استخدام آخر كلماتهم لإدانة حماس"، ولم تذهب مجلة "Artforum" المختصة بالفن المعاصر، أبعد من ذلك، عندما وقع رئيس تحريرها ديفيد فيلاسكو بياناً يدعم فلسطين ويدين جرائم إسرائيل في غزة، وقع من قبل 8 آلاف من الفنانين وأمناء معارض وأعضاء في مجتمع الفن حول العالم. لنشهد على حجب لا تكمن خطورته في المنع فقط، بل يعمل على احتكار الأصوات من حوله، ويخضع الواقع لدلالات تخلق منه وعياً زائفاً، يقدم القاتل على أنه ضحية، ويتصرف مع الضحية وكأنها غير موجودة، ليكون القتل أكثر شمولاً، طالما لا يحوي بعداً إنسانياً، ولا يستند على حق مشروع لشعب يمتلك أحلامه الشخصية بالتحرر.
لنكتشف في النهاية أننا نعيش في عالم غير ناضج، يدعي التقدم والتفوق الحضاري والثقافي ويتغنى بحرية التعبير، ولكنه لا يخجل باستعارة أساليب قمعية دكتاتورية للحجب عندما يتعلق الأمر "بإسرائيل"، كأن يحذف متحف "بيلفيدير" في فيينا اسمين فلسطينيين من إهداء أحد الأعمال، وهما علي من لبنان وفراس من فلسطين، ما دفع المجموعة صاحبة العمل إلى سحبه، لنشهد على هستيريا غير قادرة على قراءة الحاضر، بل تسعى جاهدة للهيمنة على الحاضر والماضي والمستقبل، ما يلغي وجودنا كفلسطينيين، جعلت من نفسها أداة لإسكات صوت الضحية، للتحول اليوم إلى ثقافة هجومية، غير قادرة على إعادة النظر في ذاتها، قبل أن تعيد النظر في الآخرين.