مقدمة "كتاب الضحية: آداب الصدمة (التروما)" لرامي ابو شهاب

2024-01-18 02:00:00

مقدمة
House of Grace, Abed Abdi

نتوسل عبر هذا الكتاب وضع ممارسة نقديّة خطابية تتقاطع مع الدّرس النقدي باتجاهاته المختلفة، غير أنّ مركزها "دراسات الصّدمة" في تشكّلها المبدئي القائم على الدّارسات النفسيّة، غير أنها سُرعان ما تقاطعت في حوار أشبه بممارسة عابرة أو بَينيّة عبر اتصالها بالدّارسات الثقافيّة كما الدّارسات النّسوية، وخطاب ما بعد الكولونيالية،

مقدمة

تتحدد قيمةُ الأدب عبر قدرته على أنْ يُثير وَعي الأسئلة التي تتصلُ بالتّجربة الإنسانية، ومن هنا تتأتى قيمة الذّاكرة بوصفها ذاكرةً لغويةً تختزن الصّور التي تنتج عن التّجربة كي تُعيد تموضعها في سِياق التّاريخ؛ ولهذا يمكن النظر إلى هذا الكتاب على أنّه نتاج محاولة رصد ما يمكن أن نطلق عليه ذاكرة الصّدمة، وتجليّاتها في الوعي عبر اللغة·

يأتي هذا الكتاب في سياق مشروع تطوير خطاب ما بعد الكولونيالية لا على مستوى النقل والتنظير والاكتناه للخطاب، وهي تجربة سبق أن قدمتها في كتابي "الرسيس والمخاتلة" الصادر عام 2013 من منطلق بأن فعل التلقي العربي قد عانى من إشكاليات منها التّأخر في التقاط هذا التوجه على الرغم من وجاهته، لثقافة عانت من تبعات الاستعمار، ويمكن أن نضيف محدودية القدرة على استثمار هذا الخطاب عبر تفعيل توجهات نقدية جديدة، أو تطوير روافد تتصل بإشكاليات عميقة تقع في صلب الخطاب، فمعظم الدّراسات العربية احتفت أو استغرقت في ظاهرة إدوارد سعيد، أو أنها عانت من عوائق نظرية وتطبيقية على مستوى الفهم والإجراءات، وهذا ما أشرت إليه في كتابي، غير أنّ القيمة الحقيقية للخطاب تتأتى من القدرة على تشقيق مقولات أو رؤى نقدية جديدة تستلهم مفردات الخطاب، وقد حاولت الاجتهاد من خلال استثمار علاقة الخطاب بالشتات في كتاب "في الممر الأخير سردية الشتات الفلسطيني من منظور ما بعد كولونيالي" الذي صدر عام 2017 كي يكون تطبيقاً على توجهات نقدية تتصل بالخطاب ما بعد الكولونيالي، ومن ثم وضعت كتاب "خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربية" 2021، وفيه تقاطع غير فصل مع نظرية الخطاب عبر توجهات نقدية على مستوى التطبيق، بيد أن إيماني بحيويّة المقولة النقدية قادني إلى تأمّل الخطاب ضمن مستوى آخر، وأعني الآثار والتداعيات التي يمكن أن تنتج عن متلازمات الهيمنة، والسلطة، والاستعمار، وما يمكن أن يقود من نواتج تتصل بالصدمة؛ ونعني البواعث، والتجليات، والامتدادات، كما الصّيغ، وهي روافد قد تبدو حاملة لقدر من الاتّساع، ولكن هذا يتأتى من الرغبة في اكتناه الصّدمة ضمن بُعد شمولي·

على الرغم من أن اللغة نموذجٍ تواصلي غير أنها تتجاوز ذلك لتُمسي محاولة تحفيز للوعي، وفي بعض الأحيان على العكس من ذلك قد تعلق في الحدث، وبناء على ذلك فإنّ فاعلية الأدب تَبرز ضمن هذه العلائقيّة الجَدليّة التي نسعى من خلالها إلى تمكين فرضيّة اتخاذ الخِطاب في بُعديه الأكثر حساسيّة، ونعني تمثُّل الحدث أولاً، ومن ثم رصد الامتدادات التي يمكن أن ينتجها·

وهكذا نتصل بالأثر، وقيم التركيب (الصّيغ) التي تعصف بالبنى اللغوية التي تسعى لأن تعيد إنتاج التّاريخ بكل ما ينطوي عليه من توتر؛ من منطلق أنّ التّاريخ يعدّ جزءاً من سردية الإنسان، ولكن هذا لا يمكن أن يتحقق إذا ما وردنا التّاريخ بطابعه الأرشيفي، إنما ينبغي أن نتقدم خطوة بهدف اختبار هذا في الخِطاب، وما يحتمله من إعادة إنتاج الذّاكرة بصيغٍ أكثر فاعليّة على مستوى التلقي·

يختبر التّاريخ الإنساني منذ بداية تخلّقه أحداثاً تخلّف الكثير من الوقائع النفسيّة، فالإنسان منذ الأزل يسعى إلى تدوين تجربته التي تبدو في انزياحها أقرب لاختبار الألم، والخيبة، فتبرز في الواجهة تلك الوقائع التي تحمل وعي الارتطام، كما نطالعها في نصوص قديمة منها جلجامش، والإلياذة، وأديب ملكاً، وغيرها من الخِطابات التي تصطدم بما يمكن أن ننعته بوعي الصّدمة الأولى·

يأتي ارتطام الذّات بالألم والصدمة نتيجة أسباب متعددة: كالحروب، والتّهجير، وتجربة العبودية، والقمع، والتعذيب··· إذ يمكن أن يطال ذلك الوعي الفردي أو الجمعي، ومن هنا تتشكل قيمة الذّاكرة بوصفها مخزناً لهذه الذكريات التي تعلق باللغة، ولا سيما في بحثها عن نماذج للتخلص من التّداعيات بهدف التّعافي، أو على العكس من ذلك أن تبتكر صيغاً جديدة للتاريخ؛ ولهذا يمكن تبرير جَدلية الحوار حول قيمة الاعتراف، ومقولات المغفرة أو التّسامح لدى الفلاسفة الذين يبقون تحت سطوة تأويل التّاريخ، والتّجربة، وما يَكمُن بينهما من ذاكرة ربما تُوّرث للأجيال اللاحقة، غير أنّ وعي الشّعوب سوف يبقى الأكثر قدرة على التّذكر، مع مطالبة دائمة بالاعتذار، فينتج عن ذلك صدام حضاري قوامه التّنازع على المروية أو السّردية، مما يعني بصورة أو أخرى إنتاج تصوّر الصّدمة على المستوى الخِطابي؛ ولهذا تلعب كل من الذّاكرة، والأرشيف، والآداب، والنصوص، والفنون عامة··· دوراً مركزياً في هذا الجَدل الدائر·

لقد اندفعت أسئلة هذا الكتاب من أجل محاولة بناء سردية لا تستهدف تحقيق فعل المقاومة، أو بناء قيمة مُضادة أو موزاية فحسب، إنما هي ترغب في خَلخلة مركزية التّمحور التي تطال مركزية الألم والصّدمة في الخِطاب الذي ينتهج مفهوم الضّحيّة، فمركزيّة الضّحيّة التي تشكلت مع الهولوكوست ما فتئت تُعيد تجديد التّعاطف الغربي، في حين أنّ الضّحيّة الحقيقية تتناسى، ومن هنا فإن مفهوم الصّدمة لا يعلق فقط بمحاولة بناء قيم مُتنازع عليها إنما يستدعي إلى الذّاكرة الأدوات أو المنهجيّات التي خلقت الصّدمة في الوعي عبر نقلها إلى سِياقات مُستحقة·

يتأمل هذا الكتاب في محاوره الصّدمة Trauma عبر مُقاربة تعتمد المفهوم، والمرجعيّات المعرفية· لا بد من الإشارة إلى أنّ هذا الكتاب سعى في محور نظري إلى تكوين مفاهيمية أدب الصّدمة، ومرجعياتها، فانطلقنا من التقديم المفاهيمي انطلاقاً من تنظيرات "كاثي كاروث" تُعضدها دراسات أخرى، غير أنّ القيمة المحورية للتنظير تنطلق من العمل المحوري والعميق لسيغموند فرويد الذي تمكن من وضع المُسوّغات العميقة لخلق مستوى علمي لمفهوم الصّدمة انطلاقاً من تحليلاته المُتبصرة، والتي شكّلت ذخيرة للباحثين نحو تأسيس نظرية تتصل بآداب الصّدمة، وتلقيها، ونقدها منطلقين من مقولة أساسية للباحثة "كاثي كاروث"، ونعني بأن مركزية الصّدمة تتجاوز الفعل النفسي لتُمسي ظاهرة ثقافيّة واجتماعية تعيد تشكيل فهمنا للتاريخ، والتعامل معه·

يبحث هذا الكتاب تعالق الصدمة مع الخِطاب عبر واجهة الأدب ضمن السّياق العربي، ونعني السّردية التي اتخذت ثلاثة توجهات أو نماذج، وفيها تقف التّجربة الفلسطينيّة في المقدمة نَظراً لتاريخيتها، وعمق تجربتها، علاوة على كونها تتمركز في مواجهة سردية أخرى، ونعني السّردية الصهيونية التي احتكرت معيارية الصّدمة؛ ولهذا وضعنا محوراً يعرض صورة شموليّة لتموضع تجربة الصّدمة الفلسطينيّة عبر طيف من الخِطابات والنصوص والتجارب في محور يعني بالسرد ضمن رؤية كلية، ومن ثم اختبرنا تمثيل الصدمة عبر تجربة الشاعر محمود درويش -في محور ثانٍ- معتمدين على نموذج يختبر مجموعة "أثر الفراشة" التي تختزل معنى الاستعادة لظاهرة الصّدمة على مستوى التّعريف والتفسير، على الرّغم من أنّ ثمّة مجموعات أخرى للشاعر عينه، كما تجارب أخرى لشعراء فلسطينيين يمكن أن تنطوي على مفردات الصّدمة في أبعادها الخِطابية، ولا سيّما تلك التّجربة التي تتصل بالنكبة، والنكسة، وحصار بيروت، وغيرها من الأحداث، غير أنّ "أثر الفراشة" نتج بفعل الحساسيّة الزمنيّة لخطاب حمل آثار الوعي التّاريخي بالصّدمة، وتمكنها في المفردة الشعريّة·

في حين يمكن النّظر إلى التجربة الثانية بوصفهما نتاج تجارب طارئة ظهرت في مُستهل القرن الواحد والعشرين، ونعني الغزو الأمريكي للعراق بما احتمله من تبعات إمبرياليّة، بالتّوازي مع إطلاق جنون من العنف أسهم في تشويه الذّات لتبدو هذه التّجربة في سِياقها الأكثر وضوحاً عبر رواية "فرانكشتاين في بغداد" التي نختبر من خلالها الوعي الإمبريالي، وتقاطعه مع العنف والألم والصّدمة، ولا سيّما في السّياق ما بعد الكولونيالي·

في حين أن التّجربة الثالثة تبدو ممثلة لمرحلة نتاج الربيع العربي، وتداعياته، كما تختزنها التّجربة السّورية التي بَدت على قدر كبير من التعقيد تبعاً لحجم المعاناة، وعنفها، ولا سيّما على الذّات كما نعاينها في رواية "ديمة ونوس" بعنوان "الخائفون"، ولكن قبل ذلك فإن ثمّة اختزانات كما اختزالات أعمق لمعنى الخوف الذي يمكن أن يؤول قراءة التّاريخ في علاقته مع السّلطة التي أنتجت ثقافة الخوف كما يمكن تتبعها في أشعار محمد الماغوط، وبوجه خاص "مجموعة الفرح ليس مهنتي" وتأتي بوصفها نوعاً من الإرهاص الذي سبق وعي الربيع العربي وبهذا، فإننا نقرأ وعي الصّدمة في نسق ثقافي يعتمد الأسباب والنتائج، والتمظهرات والأشكال والصيغ من أجل رصد ظاهرة الخوف، وامتدادها·

نتوسل عبر هذا الكتاب وضع ممارسة نقديّة خطابية تتقاطع مع الدّرس النقدي باتجاهاته المختلفة، غير أنّ مركزها "دراسات الصّدمة" في تشكّلها المبدئي القائم على الدّارسات النفسيّة، غير أنها سُرعان ما تقاطعت في حوار أشبه بممارسة عابرة أو بَينيّة عبر اتصالها بالدّارسات الثقافيّة كما الدّارسات النّسوية، وخطاب ما بعد الكولونيالية، بالإضافة إلى النماذج المعرفية الإدراكية، علاوة على الاستفادة من النماذج التحليلية للأدب، من منطلق أن مفهوم الصّدمة يبدو عابراً للحقول المعرفية كونه ينطلق من قيمة الحدث والتّاريخ، وما ينتج عن ذلك من بحث صيغ الذّات على المستوى الجمعي، فيختبر التمثيل، ووقائع اللغة، والتقنيات والأساليب من أجل تمكين المقصدية التي تكتنز في الوقائع الأدبية النصية من أجل تكوين وعي جديد لفهم ما نعنيه بأدب الصّدمة، ونقدها، وهي مُقاربة نقديّة ربما غير مسبوقة على المستوى العربي، مما ينقلها إلى خانة الاجتهاد التي تحتمل الكثير من الملحوظات التي يمكن أن تُطرأ، ولكنها يمكن أن تثير تفاعلاً آخر يمكن أن يعدّ إضافة لهذه المُقاربة النقديّة·

وختاماً، أرجو أن يحقق هذا الكتاب غايته التي تتمثل بتفعيل دينامية الفعل النقدي، علاوة على تمكين جانب مهم في النضال النقدي عبر تقويض مقولات مركزيّة تتصل باحتكار مقولة الضّحيّة، فضلاً عن إعادة تعريف هذا المفهوم ضمن سِياقات الفعل الكولونيالي والسلطوي، وقيم الهيمنة، وما يَكمُن خلف ذلك من حساسيات ثقافيّة تعتمد وقائع تاريخيّة تحتاج للكثير من التأمل والبحث والتحليل·

صدر الكتاب أخيراً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.