كيف تغطي إعلامياً إبادة جماعية؟ (ترجمة)

2024-05-09 02:00:00

كيف تغطي إعلامياً إبادة جماعية؟ (ترجمة)
By the Deathbed, Fever, Edvard Munch, 1893

وحتى عندما يولون الاهتمام، فإن تاريخ التغطية الإعلامية العالمية للإبادات المختلفة لم تكن مُرضية/جيدة. فعلى سبيل المثال، في أعقاب الإبادات التي وقعت في رواندا والبوسنة أوائل التسعينيات، انتُقدت تغطية وسائل الإعلام الغربية بسبب فشلها في أن تصف بدقة الأهوال التي تحدث هناك بطريقة تحشد الرأي العام العالمي لفعل أي شيء لوقفها. 

كتبها باتريك غاثارا لـ The New Humanitarian، ونشرت في ٨/١٢/٢٠٢٤.

 

في أي يوم نشهده، في أي نشرات إخبارية نشاهدها، تحصد العديد من الصراعات والأهوال حول العالم الأرواح التي لم يتسن لنا معرفة قصصهم وتتسبب في معاناة إنسانية جسيمة. بينما أكتب هذه المقالة الآن، يرصد موقع ”سيادة القانون في النزاعات المسلحة“ 110 نزاع مسلح على الأقل، وفيضانات مميتة في دول متفرقة في شرق إفريقيا بالإضافة إلى اليمن، وإيطاليا، وجمهورية الدومينيكان، وما يزال الناس في أفغانستان ونيبال والمغرب يعانون من التأثيرات الكارثية للزلازل التي حدثت هناك، وهُجرت قرية بأكملها في أيسلندا بسبب انفجار بركاني وشيك.  

من المستحيل لأي شخص متابعة كل هذا ناهيكم عن الصحافيين العاملين على تغطية الأزمات والطوارئ الإنسانية. لكن بعض الأزمات يدوي صوتها عاليًا وتجبر العالم على توليه اهتمامه إليها. كنت في الصومال عام 2011 عندما وقع أمر كهذا. لأشهر ظل الناس يموتون يوميًا بسبب الجوع ومضاعفاته. دقت المنظمات الإنسانية ناقوس الخطر لكن دون جدوى. وبدا العالم مصابا بالصمم لا يستطيع سماع مناشداتهم حتى يوليو/تموز حين أعلنت الأمم المتحدة وقوع البلاد على أعتاب المجاعة. فجأة، أصبحت الصومال محط اهتمام العالم: تصارع المراسلون وأطقم القنوات الإخبارية ومشاهير المذيعين من جميع الشبكات الإعلامية العالمية الشهيرة للوصول إلى هناك ونقل الصورة. حضر السياسيون وكبار المسؤولين. تدفق الغذاء، في البداية بواسطة الطائرات ثم بعد ذلك بالسفن. غيرت تلك الكلمة ”المجاعة“ مع انسحاب جماعة ”الشباب“ المسلحة في مقديشيو بعد بضعة أسابيع مجرى الأمور كليًا.   

يحظى مصطلح ”إبادة“ هو الآخر بتأثير مشابه على الاهتمام العالمي مشيرًا إلى الجريمة التي تفوق كل الجرائم الأخرى. صكها المحامي اليهودي البولندي رافائيل ليمكين عام 1944 في ضوء الأهوال التي حدثت في الهولوكوست. وهو مصطلح لا يشير إلى مجرد القتل الجماعي للأفراد، وإنما إلى المحاولة المتعمدة لمحو جماعة بأكملها. يعرف ميثاق الأمم المتحدة للإبادة، الذي صادق عليه أكثر من ثلاثة أرباع دول العالم، الإبادة على أنها ”أفعال مرتكبة بنية التدمير، سواء الكلي أو الجزئي، للجانب القومي والإثني والعرقي أو الديني لجماعة ما“. تتضمن تلك الأفعال القتل، ”الضرر الجسدي الخطير أو النفسي“، الفرض المتعمد ”لظروف معيشية مدبرة لتتسبب في الإتلاف المادي“، مع محاولة منع الإنجاب أو التخلص من الأطفال. 

لكن وصف وضع ما على أنه إبادة أو إبادة محتملة لن يضمن تدخل دولي لوقفه. فقط منذ أكتوبر الماضي، حذر المستشار الخاص للأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة من إحتمالية وقوع إبادات في الصراعات الواقعة في إثيوبيا والسودان. ووصف 36 خبير أممي آخرون أفعال إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة بـ”إبادة في طور الحدوث“. لكن بالرغم من ذلك، تظل التدخلات الدولية لمنع التصعيد قليلة وإذا ما استثنينا قصف غزة فإن الاهتمام الإعلامي العالمي إزاء التحذيرات أو الصراعات الأخرى قليل. 

وحتى عندما يولون الاهتمام، فإن تاريخ التغطية الإعلامية العالمية للإبادات المختلفة لم تكن مُرضية/جيدة. فعلى سبيل المثال، في أعقاب الإبادات التي وقعت في رواندا والبوسنة أوائل التسعينيات، انتُقدت تغطية وسائل الإعلام الغربية بسبب فشلها في أن تصف بدقة الأهوال التي تحدث هناك بطريقة تحشد الرأي العام العالمي لفعل أي شيء لوقفها. 

هناك العديد من الدروس المستفادة من رواندا تحديدًا، والتي يمكن أن نستخلص كثيرًا منهم من مجموعة أوراق وتأملات لصحافيين وأكاديميين تحمل عنوان ”الإعلام وإبادة رواندا“. أول هذه الدروس هو حاجة المراسلين إلى إطلاع أنفسهم وجمهورهم على تاريخ وسياق الصراع. لم يتواجد في رواندا الكثير من الحضور الإعلامي العالمي عندما بدأ الصراع. وحتى المراسلين القلائل الذين حضروا أخذوا وقت طويل حتى يفهموا ما يحدث وينقلونه بدقة. في أحد فصول كتابها، تقول الصحافية الاستقصائية ليندا ميلفيرن أن الصحافة الغربية أساءت تفسير الصراع في بادئ الأمر ووصفته على أنه ”أحقاد قبلية قديمة.. أفعال وحشية قبلية لا يمكن التحكم فيها ولا يمكن فعل أي شيء إزاءها“.

 درس آخر هو أهمية الخبرات المحلية. بينما تشاركت التغطية الإعلامية للإبادات الجماعية في القارة الإفريقية ذات النبرة اللاإكتراثية، تكشف لنا المقارنة بين التغطية الصحافية لجريدتين إفريقيتين رئيسيتين في كينيا ونيجيريا وتلك في الصحف الغربية الكثير. توصل الدكتور إيمانويل سي. ألوزي، دكتور التواصل الإعلامي في جامعة غفارنرز الحكومية بولاية إلينوي أن ”التقارير الصحافية في كلتا الجريدتين حاولت اكتشاف خلفية الأزمة وتداعياتها الكبرى. وهذا أمر هام إذا ما وضعناه في سياق الاتهام المعتاد للصحافة العالمية بالفشل في فعل هذا. ويمكن أن يعزي قدرة الصحافة الإفريقية على نقل خلفية الصراع إلى فهمهم العميق للمسائل الكامنة المؤثرة في القارة“.   

وبينما يمكننا القول أن الساحة الإعلامية تغيرت بشكل جذري آخر 30 عامًا مع صعود الإنترنت إلا أن هذه الدروس تظل ملائمة للتغطية الإعلامية للإبادات اليوم. تلقت وسائل الإعلام العالمية في نقلها للقصف العنيف على غزة انتقادات مشابهة تضمنت استخدام مجازات لا إنسانية، تجاهل السياق التاريخي، وتصوير قتل الفلسطينيين كأمر مأساوي لكنه مقبول. ولكن على عكس ما حدث في رواندا، حدث أمر هذه المرة قلب الموازين تمامًا وهو تمكن الصحافيين والنشطاء الفلسطينيين من تخطي القائمين على وسائل الإعلام والوصول مباشرة إلى الجماهير الإلكترونية بالصور والشهادات ووصف الرعب الحادث هناك دون أي تجميل.

تسببت زيادة قدرة الجماهير الإلكترونية للضغط على وسائل الإعلام مع العمل الشجاع للصحافيين الفلسطينيين، الذين يتم قتلهم هم الآخرون بالعشرات، في تغيرات محدودة لكن ملحوظة في نبرة التغطية الإعلامية الغربية. هناك على سبيل المثال إصرار أقل على مطالبة الفلسطينيين وداعميهم بـ”إدانة حماس“ قبل الاستماع إليهم واستعداد أكبر للتشكيك في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين. وندد الصحافيون العاملون في شبكة بي بي سي ”بالمعايير المزدوجة في كيفية رؤية المدنيين“ ووقع 300 صحفي أسترالي تقريبًا خطاب عام يحث ”رؤساء غرف الإعلام على الشفافية في تغطية الفظائع المرتكبة من قبل إسرائيل مثل ما يفعلون مع تلك الخاصة بحماس“. هذا يعكس مطالبات مارك دويل، مراسل بي بي سي، الذي قضى في إبادة رواندا وقت أطول من أي مراسل آخر من محررينه أن ”هذا تضليل خطير.. أن يوصف القتل على أنه ببساطة ’ذبح للمدنيين’ أو ’قتل جماعي’ بدون ذِكر مَن قتل مَن“.

تتعدى المسؤولية الأخلاقية للصحفي مجرد الاعتراف البسيط بأن من الممكن أن تكون هناك إبادة. ترى دكتورة الدراسات الإعلامية، لورين كوجين، أن ”نقل الصورة بتلك الطريقة التي تجعل الجماهير الإعلامية لا تكترث بالضحايا في الأماكن البعيدة“ هو فعل صحافي ضار وطالبت بأخلاقيات صحافية جديدة تعترف بالجانب الإنساني للصحافين الذين يعدون جزء من هذا العالم المتصل. وقد اقترحت أن التغطية الأخلاقية يجب أن ”تشجع المشاهد على أن يرى الضحايا مستحقين للإغاثة“، وتعزز من صوت الجماهير، وتؤكد على الالتزامات الاجتماعية للمساعدة في وضع حد للمعاناة.  

هناك دعوة حول العالم لتطوير أطر أخلاقية مشابهة تسلط الضوء على المعاناة وما ينتج عنها من استجابات، بما في ذلك قواعد السرد القصصي الأخلاقي الموضوعة للمنظمات الإنسانية. أحد هذه الأطر القوية هو القضاء على المنظور الاستعماري، وهو أمر تبنته The New Humanitarian كجزء من خطتها الخماسية وتعرفه على أنه قص الحكايا الإنسانية من منظور ومصلحة المجتمعات المتضررة في المقام الأول بالإضافة إلى إزاحة سيادة المنظور الغربي.

تطلب عملية هدم المنظور الاستعماري أن يسأل الصحافيون أنفسهم السؤال الذي طرحه الباحثان ريتشارد ستوبارت وكاثرين فورمان: ما الذي يفعلونه، من الناحية الأخلاقية، في الصراعات (أو في أماكن الأزمات الإنسانية)؟ هل يشبعون رغبة تلصصية لمعرفة ما يحدث أم أن عملهم يخدم هدف أكبر كأن يعطوا الضحايا الحق في نقل الحقيقة وينكرون على الجمهور راحة الجهل وعلى المعتدون الصمت المتواطئ؟

في ظل وقوع جريمة الإبادة يتحتم علينا التعاطف مع الضحايا بدلًا من الاختباء خلف قناع ”الموضوعية“ الزائف، أن نتحدى السرديات التي تصور القتل على أنه أمر غير مفهوم، أو ضروري، أو حتمي، أو لا يمكن تفاديه، وأن نتعمد سرد القصص التي تظهر إنسانية الضحايا وستحث الجماهير على التعاطف معهم مما سيعجل بالتدخل لوقف الفظائع.  

في التاسع من ديسمبر/كانون الأول من كل عام يحتفل العالم باليوم الدولي لإحياء وتكريم ضحايا جرائم الإبادة ومنع هذه الجريمة، بالإضافة إلى اعتماد ميثاق منع ومعاقبة جرائم الإبادة. ربما هذا وقت جيد لتتأمل وسائل الإعلام العالمية كيف لتغطياتها أن تساعد العالم في تحقيق هذه الأهداف.