عطش
كانَ في المنزلِ وردٌ
لم يألَف يديّ تسكبانِ له الماء إن عطشَ
كان قد تعوّدَ أن يشربَ المطرَ مِن ثدي السحابة.
أمدّ يَدي أرجوجةً للوردِ، لا يكتفي.
أسكبُ قلبي لهُ، لا يرتوي.
أغرسُ رمشاً وتداً في ظلّهِ وأصابعي سلّماً،
ولا يتّكئ الورد على رمشي، لا يصعدُ أصابعي سلّما.
يبسَت سمائي والعصافيرُ جفَتها، والسحابةُ.
إنني التيهُ، لا هَديَ لي
لا مستقَرّ لقلبي،
إلّا حين أعتادُ ثانيةً أن أحملَ أباريقَ الماءِ
من البئرِ التي هجرَتها الدموعُ،
من البئرِ التي هي أقربُ للترابِ الرطبِ
منها إلى السماءِ اليابسة.
وحدك والبلاد
وحدكِ تذهبينَ إلى النومِ
بشمسٍ في ثيابكِ،
ومساءٌ بمليون نجمةٍ وقمرٌ
عالقٌ في أكمامِ ثوبكِ.
وحدكِ
تنهضينَ مِن شقوق العتمِ
خضراءَ كغصنِ زيتونٍ،
بيضاءَ كقلبِ عاشقةٍ ينهبهُ جرحانِ وجرح،
سمراءَ ككحلٍ في رموش العين.
وحدكِ تعبُرين العتبة،
خُطاكِ تَستدرجُ الضوء حيثما وطأت،
فيحتفلُ بكِ الصبحُ
وتُشبهكِ البلادُ
ثم وحدكِ والبلاد.
مقبض باب
هنالكَ فأسانِ يَحتَطِبانِ خُطاك إلى المَوقدِ الباردِ،
إلى سفرٍ يابسٍ في الرماد،
وظلّان يَختطفانكَ،
عتمٌ أدَرتَ لهُ ظهركَ وصبحٌ يُخبّئُ شَمسَهُ عنكَ.
هنالكَ وَهمانِ يحتضنانكَ يا قلبُ،
أمسٌ لغيرِكَ دفءُ يديهِ،
غدٌ ليسَ يزرعُ وردَهُ في جَفنِكَ،
حذاءهُ أضيقُ مِن قدمَيك وعيناه مُهترئة.
فلا تَمتطي صهوةً غيرَ نبضِك، يا قلبُ
غيرُ نبضِكَ لا يُسعفك.
هنالكَ بين الصحاري التي تَطعنُ بالرملِ كلّ صهيلٍ
وبين اخضرارٍ يُعرّشُ في خفقِكَ،
مقبضُ باب. وما بين هذا الخراب
وبين اخضرارٍ يُعرّشُ في خفقِكَ، مقبضُ باب.
هنالكَ ما بين يأسٍ يُحاصرُك،
وفأسٍ تُخاصرُك،
ومحراث موتٍ يُعلّقُ أشواكَ مِخلبِهِ في زوايا العيون،
هنالكَ خفقتُكَ التي نَشزَت في اليباب،
ومقبضُ باب.
فلا تَمتَطي نَصلَ هذا الرمادِ ووشمَ الصدأ.
لكَ القلقُ الأبديّ وصهوةُ نبضِك، هاجسُك المُتعثّرِ،
وكِسرةَ ضوءٍ على العتبات.
لكَ القلق الأبديّ ومقبضُ باب.
لاجئ
يومَ كنتُ صغيراً أمسكَت أمّي يدَيّ وقالَت:
سنملأُ جرّةَ ماءٍ من النبعِ “عينِ القَصَب”
ونجتازُ هذا الخراب،
تَعلّق بأطرافِ ثوبي
وثَبّت عيونَكَ في الأرضِ يا ابني لتَحفظَ وقعَ خطايَ،
تَتبّع رنينَ الخلاخِلِ في قدمَيّ لتَنجو.
إذا غبتُ عنكَ فلا تَنتظرني،
ولكن تَذكّر: هنالكَ شمسٌ تمدُّ يدَيها إليكَ برفقٍ
إذا اختارَ قلبُكَ من ضوئها دَربَهُ،
هنالكَ دربٌ إلى الصبحِ يُفضي. فلا تَنتظرني
ولكن تَتبّع رنينَ الصباحِ على وسنِ تحتَ جفنِك،
ورائحةَ الوردِ فوقَ سريرِ طفولتِكَ العاثرة.
……
منذُ كنتُ صغيراً
ظلّ خيطٌ ناسلٌ من ثوبِ أمّي
عالقاً في يديّ.
عيناك أنت
رغمَ أنّ الخرابَ يعمّ
هنالك عينانِ تنتبهانِ إلى نجمةٍ
سكبَت وَجهَها قبلاً فوقَ خدّ الحبيب.
تُضيئانِ حلكةَ هذا المساء.
رغمَ هذا الخراب، ورغمَ احتفالِ الحرائقِ فوقَ جذوعِ الشجر،
هنالك غيمٌ طريٌّ تدفّقَ من ثديهِ الماء
حين تعثّر في مَشيِهِ النهرُ أو نَهرَتهُ حصاةٌ.
هنالك كفّانِ تنتَصرانِ لوردِ الحدائقِ،
تَرتديان الحقولَ فتُزهرُ فوقَهُما شهقةُ البُرعُمِ،
تَسندُ الأرضَ كفّانِ لا تَتعبانِ من البحثِ عن شهقةِ البُرعُمِ.
رغمَ هذا الخراب، ورغمَ الجناحِ الذي خذَلَت خفقَهُ
ريشةٌ هشّةٌ كسرَتها الرياحُ،
هنالكَ قلبانِ يكتفيانِ بحلمٍ وحيدٍ كظلّ الغريبِ،
صغيرٍ كلفتَتِهِ الخائفة،
جميلٍ كصبحٍ تعوّد ألّا يخيبَ وألّا يُخيّبَ قلبينِ يكتفيانِ
بصُبحَيهِما فيهِ، يغفِرُ ما كانَ قبلَهُ من غفوَةٍ ونُعاس.
هنالكَ عينانِ تَستَدرِجانِ إلى العتمِ نجماً،
ويَقطرُ من بينِ جفنَيهِما الضوءُ،
عيناكِ أنتِ.
طريق
بكيتُ لأنّ حذائي ضيّق
ونصفُ الطريقِ إليكِ ازدحامٌ ووعرُ
ونصفٌ فلاةٌ وقفر.
بكيتُ لأنّ الوصولَ إليكِ مراوغةٌ في الصلاةِ
سجودُ المحبّين فوقَ سجاجيدَ كفر.
بكيتُ لأنّكِ تنأينَ عنّي
وفأسُ الخرابِ تُحطّب جذعي
تُهيّئني للمواقدِ قوتاً،
ألَم تحترق في لهيبي كفٌّ تحاولُ إخمادَ قلبي!
أكونُ الطريقَ، أكونُ الصلاةَ، الشجر،
أكونُ المواقِدَ، كلّ المواقِدِ أن يدفأ القلبُ فينا،
وأن تبرأ النارُ مِن أوجُهِ الاحتراقِ
وتَبقى على وَهجِها
رسولةَ ضوءٍ
وتَبقى على جَمرِها
رسولةَ دفءٍ.
أكونُ الطريقَ،
أكونُ الصلاةَ، الشجر.