أسأله: ما الوطن يا غسان؟
أرض البرتقال الحزين، يقول لي، خيمة أم سعد، بندقية منصور العائد إلى صفد، إطار أصفر خلف صورة متروكة على جدار البيت لـ”عائد إلى حيفا”، وصهريج أبي الخيرزان، والوطن “هو ألا يحدث ذلك كله”!
يسألني: ما الوطن؟
لم أعش فيه، ولكنني أعرفه، أقول له.
ربما التقينا أنا وهو يتيمين على موائد اللئام زمن اللجوء. ربما كان معي في الطابور ذاته أمام أبواب مخيم اليرموك المحاصر، بانتظار “كرتونة” المساعدات، وربما وقفنا معاً والخوف ثالثنا تحت ظل قذيفة عمياء لا نعرف إن كانت ستصيبنا أم تصيب أحداً سوانا.
أسأله: هل تعرف أنت يا غسان كيف أعرف أنا وطناً لم أعش فيه؟
يقول لي: هي ارتجافات قلبك لنداء يأتيك من بعيد أو من قريب، يستنهضك: ” لك شيء في هذا العالم فقم”.
أقول له: ارتجف قلبي عشقاً وخوفاً وشوقاً. قبل أن يرتجف لذاك النداء، فاختلط عليّ الأمر، وهذه القذائف وهذا النحيب يصمان الآن أذني عن أي نداء.
لعلي يا غسان عرفت الوطن في شهادة الميلاد والكرت الأزرق. ربما هو مرّ بي عبر الحدود وتركني وحيداً. ربما لم يمر، وقف، كما أقف، ينتظر تأشيرة سفر. ربما هو كان ذلك العجوز الذي واسى نفسه حين واساني بأن كلانا ممنوع من العبور. ربما هو تقمص جواز السفر الذي بيدي، أو كان ظلي في الانتظار وفي الحصار، وكان أسيراً مثلي، وربما كنت أنا وهو مجرد فكرة لم تحدث!
ألم تقل لي يوماً يا غسان: “تسقط الأجساد لا الفكرة”؟ ما لها الأفكار اليوم في زمننا هذا تموت أيضاً!
ربما أنت لم تخطئ، ولم تسقط الفكرة ولم تمت. ولكنني أموت الآن.
ذلك حكم القذيفة عليّ، يوم مزقتني وأطاحت بي خارج الفكرة، أتراه الوطن مثلي لم يكن فكرة، فمات معي، أو مات قبلي دون أن أعرفه؟
مهلاً. سأعيد ترتيب كلماتك، كما يقتضي حبي لك/ ثقتي بصدق كل ما تقوله.
قلت: “تسقط الأجساد لا الفكرة”، ثم قلت: “الفكرة النبيلة غالباً لا تحتاج للفهم، بل تحتاج للإحساس”. ودون هذا الإحساس الفكرة تموت، والوطن فكرة، هذا ما أفهمه على الأقل منك.
سيموت الوطن إذاً، ما دام وجوده كفكرة رهن إحساس بنا، وهذا الإحساس نفتقده اليوم تحت القصف، ربما هو مات، فمات الوطن معه.
تسألني ما الوطن يا غسان؟
الوطن فكرة، إحساس، لحظة دفء وأمان، هو أي من الاحتمالات السابقة أو أي احتمال يشبهها، هو أي احتمال آخر، غير تلك الرقعة البالية التي يتباكون عليها، ويتاجرون بها، ويستعبدوننا باسمها ويقتلونا فداء لها.
الوطن “هو ألا يحدث ذلك كله”، هكذا قلت، هكذا الآن نتفق.