من مقال نشرته الشاعرة وسام الطويل في 24 ديسمبر 2022
في مجتمعٍ تكثّفت فيه عمليات القمع السياسي، واستحوذت فيه أنظمة أبوية استبدادية واستعمارية، واُستُعملت فيه “أدوات ساذجة وتسطيحية”، لإفراغ الحركات السياسية النسوية من أي نضال، كانَ من المخاطرة والجنون أن أكتب بهويتي الحقيقية. أنقل هنا من دون اسم مستعار حتى، قصة الأختين وسام وفاطمة الطويل…
في صبيحة يوم 6 يناير/ كانون الثاني 2023، عندَ الساعة 1:45 دقيقة، ألقت وسام رسالتها الأخيرة على تطبيق واتساب قائلة: “العيلة ضربتنا، المباحث سلّمتنا، ونحنَ في بيت عماد، شوي و هيودّينا عالطابق السادس، اعملي أيّ إشي، مش ح تعرفي حاجة عنّا، احنا انتهينا.” منذُ تلك اللحظة، لم تصلني أي كلمة من الأختين. وقد أعربت منظمة العفو الدولية في بيان لها صدرَ في تاريخ 12 يناير/ كانون الثاني 2023، عن قلقها الكبير إثر تسلّمها الرسالة ذاتها، وبعدَ معرفتها بأنَّ جهاز الأمن الفلسطيني “حماس” سلّم الفتاتين لذويهم المُعنّف عماد الطويل، المتواجد في مخيّم يبنا بمدينة رفح شمال قطاع غزة. وبحسب منظمة العفو فإنَّ أجهزة الأمن الفلسطينية ألقت القبض على الأختين، دونَ أي تهمة أو أمر قضائي، إلى مختار العائلة الذي اقتادهم إلى منزل ذويهم المُعنف. وفي واقع الأمر، فإنَّ وسام وفاطمة منذُ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، كانتا في حالة من اللااستقرار، تتنقّلان من منزلٍ لآخر، ومن مركز لآخر؛ خشية تعرضهما لكمين عائلي أو حكومي يحول دونَ بقائهما بعيدًا عن دائرة الخطر الذي يحدق بهما.
سِفر الخروج
في أغسطس/آب 2022، تمكنّتا وسام وفاطمة، من الفرار من منزل والدهما بعدَ حثّهما على الانتحار وتهديدهما بالقتل، وتعريضهما للتجويع المتعمّد وعدم السماح لهنَّ مغادرة غرفتهما. وسجنَ عماد الطويل كلتي الفتاتين في غرفة على الطابق السادس، التابع لعمارته، الواقعة في جنوب قطاع غزة، حوالي الأسبوع. وهي ليست المرّة الأولى التي يُقدِم فيها عماد على حبسهما وتعنيفها والتنكيل بهنَّ، بحجّة “تأديب الفتاتين وتقويم سلوكهما”.
سجنَ عماد الطويل، ابنته وسام بدايةَ، ما حثَّ الأخت فاطمة، على التواصل مع الجهات المعنية والتشكّي لها على سلوكيات والدها وعنفه الدائم. لم تستجبْ الجهات بالشكل المطلوب لمكالمات فاطمة، بل عرّضتها للخطر. ففور معرفة والدها بتواصلها، اقتادها هي الأخرى، إلى الغرفة في الطابق السادس والتي تقبع فيها وسام.
فور هروبهما من المنزل، تعمّد الوالد المُعنِّف استخدام صفحته على السوشيال ميديا لنشر الأكاذيب والادعاءات الباطلة بصفته بطلا مناضلا مُستهدفَا، ومُلاحقَا من الاحتلال الإسرائيليّ وبأنَّ جهات مجهولة أقدمت على اختطاف بناته. الأمر الذي دفعَ الأختان لنشر فيديو على صفحتهما، تنفيا فيه الذرائع والتهّم الموجّهة إليهنّ من قِبَل والدهما حول اختطافهنَّ، مؤكدتان أنهما هربتا بكامل قواهنَّ العقلية، دونَ ضغط من أي جهة، للنجاة بأنفسهنَّ خارج منزل معنفهنَّ. وقتها طالبت الفتاتان المؤسسات المحلية والحكومة الفلسطينية حمايتهنَّ وإلقاء القبض على المتّهم بعد أن حاول قتلهما بقارورة غاز وضعها في غرفتهما، آمرهنّ بالانتحار البطيء: “انْتَحِرْن”.
ولجأت كل من وسام وفاطمة في المرة الأولى إلى مركز “حياة لحماية وتمكين النساء” في قطاع غزة، وتعاونت حينها إدارة الشرطة المجتمعية بالتواصل مع وجهاء وكبار عائلة الفتاتين وبحضور عمهما يوسف الطويل ومختار العائلة صالح الطويل، على “فضّ الخلاف بين الوالد والفتاتين”.
لم تنتهِ القصة هنا..
لا حماية من المُعنّف
في ديسمبر، هربت الفتاتان مجددا، من منزل والدهما، الذي استقبلهما على حدّ تعبير وسام “بكسر زجاجة ماء على رأس أختها فاطمة.” وبعدَ تحقيقات كان يقوم بها خلال ساعات الليل الطويلة، واستجوابهما وحبسهما مجددا، تمكنتا من الفرار فجرًا، على الرغم من تعريض نفسيهما لمخاطرة أكبر. واتجهتا إلى بيت الأمان الحكومي التابع لحركة حماس.
بالتوازي، شكلّ والدهما المُعنّف لجنة من مخاتير ووجهاء مدينة رفح، للضغط على الحكومة بتسليم الفتاتين دون قيد أو شرط لأبويهما، الذي لم يتوقف عن نشر الأكاذيب، إضافة للتهديدات التي كان أشهرها، ما قاله على صفحته فايسبوك في بث مباشر: ” إذا قتلتهن، في زلمة في البلد بيقدر يحبسني أكتر من 6 شهور؟”، وهو الذي يعلم تمام العلم أن جريمة مثل هذه بموجب القانون الفلسطيني، لن تقعده في الحبس لأكثر من 6 شهور بالفعل! ولجأ بيت الأمان الحكومي بالتعاون مع الشرطة المجتمعية يوم الأحد، 13 تشرين الثاني/ نوفمبر، بعد الضعط، على تسليمهما رغما عنهنَّ إلى أقربائهنَّ، بعدَ مقاومة شديدة من الفتاتين، ومناشدة من المجتمع الدولي والمحلي والنافذين لحمايتهنَّ.
“قرار عودتكم أصبح قراراً حكومياً وستغادرون حتى لو بالسحل والاجبار” – بيت الأمان الحكومي
بيوت الأمان ليست أمانًا
من المعروف أنَّ لوائح بيت الأمان الحكومي تنصّ على أنَّ المعنفات اللواتي يهربنَ إلى هذا المكان، لا يمكن إجبارهنَّ على العودة، مهما طالت مدّة مكوثهنَّ، لكن في واقع الحال، لا تزال هذه التعليمات معلّقة. تقول وسام في هذا السياق، أنَّ “البحث عن سياسات حكومية آمنة للنساء في بلادنا، ما هو إلا أمر متعب ويأخذ حيز الاستنزاف المطلق للمرأة لتصل إلى حدّ الاستسلام والتسليم بما يقوله المُعنّف، كون مراكز بيوت الأمان ما هي إلّا مساحة لاستراحة محارب، هكذا أجابتها مشرفة بيت الأمان بعد نقاش حادّ عن الدور السيء التي تلعبه في إيجاد حلول جذرية للنساء اللواتي يلجأن إليها (أي لمراكز الأمان).”
وتؤكدّ وسام في حديث جرى بيني وبينها (قبل تسليمها للأب) أنه لا يمكن للمعنفات التصرف براحتهنّ، ويتم اتخاذ إجراءات غريبة ومتناقضة كمنع الضحية من امتلاك هاتف داخل بيوت الأمان، أو نشر أي منشور يتعلق بحالتها في حال وافق بيت الأمان إبقاء الهاتف معها. ففي اليوم العالمي للمرأة الفلسطينية كتبت وسام على حائطها على فايسبوك:(….)” ولأنَّ نضالنا كفلسطينيات في وجه العنف الأسري، هو في كلّ أشكاله نضال ضد الاحتلال ومنظومته الاستعمارية. نحنُ لا نسعى إلى تفتيت قيم الأسرة وإلى العصيان كما يروج البعض، بل نريد النجاة، ونريد لكلّ نساء وفتيات غزة أن يحصلنَ على حقوقهنَّ كاملةً بالأمان والحياة والكرامة والحرية. لا تنسونا ولا تنسوا كل الفتيات العالقات في دائرة العنف المجتمعي والأسري.” لكن، بعض انقضاء نصف ساعة، أجبرت سلطة حماس الفتاتين على محو المنشور، بحجة حمايتهما من الضغوطات التي قد تتعرضنَ لها.
إحياء الخطاب الذكوري بقالب نسائي
يختلف الجناح النسائي في حركة حماس الإسلامية المسيطرة على قطاع غزة، عن مفهوم الحركة النسوية الإسلامية، التي برزت في بداية تسعينيات القرن الماضي في أفريقيا الجنوبية، والتي تسعى إلى تأويل النصوص المقدسة من منظور يخدم ويتماشى وحقوق المرأة، والبحث في التراث وإعادة إحيائه من وجهة نظرها وفتح باب الاجتهادات. ففي غزة، تُعيد التجمعات النسائية التابعة لحركة حماس بناء الخطاب الذكوري، فهي تستقطب، تنشر أيديولوجية الحركة، تنشر مفاهيم وخطاب وتُنشىء قاعدة نسائية تؤيدّ أفكار السلطة وتدعمها. وما تعرضت لهُ وسام وفاطمة في بيت الأمان الحكوميّ يؤكدّ تماهي النسوة مع النظام العشائري الذكوري وأيديولوجية حركة حماس. فقد سُمح للجنة المخاتير ووجهاء رفح، بالتوجه كل يوم إلى بيت الأمان الحكومي لحثّ الفتاتين على العودة، واختراق مبدأ خصوصية المكان، معرضين ضحايا العنف الأسري للخطر. وقد أردفت وسام ذات مرة بالقول: “تعرضنا لضعوطات نفسية إلى حدّ العنف المعنوي، لقد كذّبونا وأرادوا أن نعود بالقوة وحينَ أغلقنا باب الغرفة على أنفسنا، حاولوا اقتحامها.. وقالت لي مرشدة بيت الأمان: إنَّ مكوثكنَّ هنا ما هي إلا استراحة محارب.. آخرتكم رح ترجعوا على دار والدكم.”
غياب القوانين التي تحمي… وطغيان العشائرية
لا وجود لنصّ قانوني واضح في قطاع غزة يشير إلى معالجة ظواهر العنف الأسري، ولم يتمّ تعديل قانون العقوبات الفلسطيني منذ أن تمّت صياغته في زمن الحكم العثماني وفي الفترة الإدارية المصرية. ولمْ نسمع قط بأي دعوى قضائية تحت بند التمييز القائم على العنف الاجتماعي والعنف المنزلي في القطاع. فقد حاولتا وسام وفاطمة استخدام الإجراءات القانونية لكن سرعان ما تمّ تقويض حركتهنَّ ومنعهنَّ الذهاب إلى المحكمة من قبل حركة حماس. وقالت وسام: تواصلتُ مع العديد من المحامين الذين أعربوا عن خوفهم من الخوض في هذه القضية. قائلين لها: لا مصلحة لدينا في المشاركة برفع هذا النوع من القضايا التي تعتبر خاسرة، ومربكة للمجتمع وخصوصيته.
وفي سؤال طرحناه عن عدد النساء اللواتي تمّ قتلهنَّ في عام 2022، تجيب بدور حسن، الباحثة الفلسطينية في منظمة العفو الدولية: “سُجلت أكثر من 29 حالة، قُتلنَ في الضفة الغربية وقطاع غزة العام الماضي، أكثر من 9 حالات في قطاع غزة، هذه الحالات المُعلن عنها فقط. أما الحالات الأخرى التي تصلنا، فتكون: قتل لأسباب غامضة، انتحار، تصويب خاطئ للسلاح، عدا عن الحالات التي لم نسمع بها قط.” وتضيف:” هناك صعوبة كبيرة في معرفة الأرقام الدقيقة والصحيحة للنساء اللواتي يُقتلن بسبب العنف الأسري. فالكثير من حوادث القتل لا تترجم لملفات ولا يتم رفعها إلى النيابة العامّة وهذه مشكلة خطيرة. والكثير من الحالات يتمّ التستر عنها بالتواطؤ مع الشرطة الفلسطينية.”
وتعمل الآن WCLAC وهي منظمة فلسطينية مستقلة بالتعاون مع مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي على متابعة الإجراءات القانونية والمسارات التي تقوم بها الشرطة في قطاع غزة، حينَ تتوثق حالات القتل نتيجة العنف المنزلي. ومتابعة الطريقة التي تستخدمها الشرطة مجتمعيا وقانونيا في هذه الحالات. ليتوضح للمنظمات مصير الفتيات والنساء اللواتي يُقتلن، والعقاب الذي يترتب على الجاني. وعن حالات العنف المعنوي/الجسدي الذي يمارس على النساء الفلسطينيات في القطاع تقول: لا يمكننا معرفة الأرقام الحقيقية لحالات العنف ضد النساء الغزاويات، نظرا للتستر الشديد وعدم الإفصاح، والخوف من العائلة، العشيرة، والقبيلة من مسألة العار ومن مسائل أخرى ترتبط بطبيعة البيئة المحافظة.
قضايا النساء… معارك سياسية لا تنتهي
في حديث أجريناه مع الناشطة النسوية مهاد حيدر(عضو في المسيرة العالمية للنساء-فرع لبنان) حول السيطرة السياسية على أجساد النساء، توضح أنَّها ظاهرة ليست حديثة. فمنذ اكتشاف الإنسان الملكية الخاصة، تحولت النساء كأجسام قادرة على التوالد والإنجاب، إلى شيء، يمكن استخدامه في القضايا التجارية العالقة بين عشيرتين، أو في الحروب كغنائم أو كهِبات لوقف الصراع بين قبيلتين. ويدّعي ليفي شتراوس في هذا السياق: “هي(المرأة) ليس لها هوية ولا هي تُبادل هوية مقابل أخرى. هي تعكس هوية مذكرة على وجه الخصوص عبر كونها موقع غيابها.”
فسابقاً كان يتم وهب النساء لإعلان حالة السلام، ولتعزيز الروابط السياسية والعلاقات التبادلية بين قبيلتين، عشيرتين، كون المرأة يُنظر لها كأنها آلة إنتاج يتمّ استثمار جسدها لحاجات ديمغرافية، واجتماعية وتجارية بحتة. وفي سؤالنا عن الدور الذي لعبته السياسة، في إقصاء قضية وسام وفاطمة والتلاعب بحقيقة تعنيفهما من قبل والدهما، أجابت: “استخدم الأب المُعنف نظرية المؤامرة، واستند بخطاباته على تلفيقات، وأكاذيب واختلاقات كتهديدات من الاحتلال الإسرائيلي ومن أيادٍ خارجية.
حين تابعنا صفحته، وجدنا أنه في كل منشور وفيديو، يأتي على ذكر عملية اختطاف ابنتيه، يتكلم تارة عن الجمعيات الماسونية ومرة أخرى عن إيدي كوهين، الصحفي الإسرائيلي، وعن خليات نائمة، جرى إيقاظها نظرا لطبيعة عمله السابق كمناضل، داخل السجون الإسرائيلية وحارب أثناء الانتفاضة الأولى وغيرها.
هذه الادعاءات الكاذبة، الخطاب الذي يرتكز على العاطفة، وعلى زج التهديدات الخارجية وسط قضية تفيد بتعنيف فتاتين هاربتين، حرّكت الروح القبلية والعشائرية لدى المساندين للأب المُعنف ولخطابه. فتحولت قضية وسام وفاطمة إلى قضية رأي عام، شغلت الشعب الفلسطيني بعد الادعاء بخطفهنَّ من الأعداء، وغابت عن أذهان المجتمع الحقيقة والخطر الذي تتعرض لهنَّ الفتاتين من التعنيف الأسري.
“فإما حياة تسرّ الصديق، وإما مماتٌ يغيظ العدا”
في 3 فبراير/شباط، نُشرت صور للفتاتين، على منصة فايسبوك مع مجموعة من الوجهاء الذين زاروهم، في منزل والدهما، إلا أنه وبحسب تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الذي نشرته مؤخراً: “مصادر موثوقة أكدت أنَّ وسام وفاطمة ما زلنَ مسجونات في الطابق السادس دون هواتفهنَّ أو وسائل اتصال أخرى.” وأعربت هيومن رايتس عن قلقها وطالبت سلطات غزة بأن تضمن بشكل عاجل سلامة وحرية الشقيقتين البالغتين المحتجزتين قسراً في منزل والدهما، والمعرضتين لخطر جسيم. وقالت الباحثة في مجال حقوق المرأة روثتا بيغم لهيومن رايتس ووتش: يجب على سلطات حماس في غزة أن تضمن بشكل عاجل سلامة المرأتين وحرية الحركة، بما في ذلك مغادرة منزل والدهما إلى مكان آمن من اختيارهما ، والتحدث بحرية واستقلالية عن وضعهما”.
وأكدت وسام في تواصلها سابقا مع هيومن رايتس ووتش أنّها تعرضت هي وأختها فاطمة للعنف المتكرر من قبل والدهما بعد عودته إلى قطاع غزة في سنة 2019، بعد غياب دامَ حوالي 12 عامًا. وفي التفاصيل أدعت وسام أنَّ أباهما رمى جهاز التلفاز على أختها فاطمة لخروجها من المنزل دون إذنه، وحين حاولت وسام الدفاع عنها، حبسهما معاً في الطابق السادس قرابة الـ 35 يوما. ولم يسمح لهما مغادرة الغرفة إلا لاستخدام المرحاض مرتين في اليوم.
في آخر ظهور لها كتبت وسام على حائط الفايسبوك، الذي استحوذ عليه والدها عبر سطوه على هاتفها النقال: “فإما حياة تسرّ الصديق، وإما ممات يغيظ العدا”… منذ ذلك الحين، لم نسمع أية أخبار واضحة عن الشقيقتين.