“تلزمون أنفسكم بأفكار ليس لها أدنى الصلاحية على بعد بضع مئات من الأميال، وليس الشرق والغرب سوى خط من الطباشير رسمه أحدهم أمام أعيننا كي يثير فينا جنون الخوف”، إن نقداً جذرياً كهذا الذي يقدمه فردريك نيشته هو عين ما يمر به الإنسان الفلسطيني في الشتات في غمرة الحروب الأهلية العربية على كل جانب. قد لا يأتي النقد ممن يعرفون نيتشه ويحذون حذوه في كتبهم، ولا من أولئك السياسيين المتناثرين قرابة كل طرف من أطراف الحرب، لكنه أتى من تصرف الشعب الفلسطيني الذي اختار ترك هذا المكان/الوطن ربما إلى الأبد.
خرج الفلسطينيون في 1948 وهم يظنون أن خروجهم مؤقت، ولا زال هذا الاعتقاد حاضراً طيلة سبعة وستين عاماً. بداية في الأردن وانطلاق الثورة الفلسطينية، مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية والخروج من بيروت، ومن ثم أوسلو وشيخوخة الثورة الفلسطينية، وصولاً إلى الثورة السورية ونتائجها الديموغرافية الجذرية على الفلسطينيين.
وجد الإنسان الفلسطيني نفسه أمام تساؤلات جذرية حول مفهوم الوطن/Home، إلى أي وطن/مكان أنتمي؟ من عمان إلى بيروت ومن بيروت إلى دمشق والآن من دمشق.. إلى أين؟ في عمان وبيروت كان الخروج سياسياً عسكرياً، ليس للشعوب دور في اختياره. هيئات وسلطات سياسية هي الموكلة بالخيار الجديد. في دمشق تلاشت هذه السلطات، ضاعت الفصائل في أروقة مفاوضات السلام. ولم يعد الشتات واحداً من أولوياتها بعدما فُرغت من محتواها الثوري.
هكذا وجد الشعب الفلسطيني في الشتات وعاصمته مخيم اليرموك، نفسه وحيداً أمام تراث هائل من شعارات حق العودة والقومية العربية ووحدة التاريخ واللغة، اختبرها سابقاً ولامس وهميتها، لكن في سوريا كانت نهائية. ليس هناك ملجأ عربي. لبنان (رسمياً) يتقوقع ضمن حقد قديم. الحال ذاته في الأردن. وسورية، التي كانت الملجأ الدائم ــ رغم الأثمان المطلوبة ــ تقع في بسوس أهلية طويلة الأمد. حتى فلسطين أصبحت اليوم أبعد من أي وقت مضى. فالثورة انتهت فعلياً في أروقة المفاوضات. ومنظمة التحرير الفلسطينية التي لطالما وجد الفلسطينيون فيها ملاذهم من الأنظمة العربية، غدت نظاماً عربياً تمارس ذات الأدوات القمعية، ولا تعنيه ما يجري في الشتات بقدر عنايته بالتنسيق الأمني مع إسرائيل.
وجد الإنسان الفلسطيني نفسه خارج المكان مرة أخرى. دورة شتات ثالثة، لكنها هذه المرة أكثر اتساعاً، وأكثر سعياً نحو ما فقده الفلسطينيون لسنين طويلة.. المواطنة.
لم تمنح الحرب السورية رومانسية ثورية للفلسطينيين كما هي حال الحرب الأهلية اللبنانية. منذ أمد بعيد، رفض البعث الوجود الفلسطيني المسلح في دمشق. لن يكرر تجربة الأردن وبيروت، ليبقى الفلسطينيون “لاجئين” لا فدائيين. من هنا، لم يكن مفاجئاً سقوط اليرموك كمخيم في معمعة الحرب السورية. بذلك، وجد الإنسان الفلسطيني نفسه خارج المكان مرة أخرى. دورة شتات ثالثة، لكنها هذه المرة أكثر اتساعاً، وأكثر سعياً نحو ما فقده الفلسطينيون لسنين طويلة.. المواطنة.
بسقوط مخيم اليرموك أكبر مخيمات اللاجئين في الشتات، سقطت الأيقونة الكبرى للوطن/فلسطين. تفتت ثنائية مكان اللجوء/مكان العودة. انهار مكان اللجوء ليترك فلسطينيي الشتات أمام اختبار هشاشة الشعارات القومية العربية. لم يعد لفلسطيني الشتات اليوم هماً قومياً. ترفض دول هذه القومية احتواءهم، فلماذا الإيمان بها؟ ذلك لسان حال الفلسطيني الذي يقطع أميال في طريقه إلى أوروبا التي منحته ما لم يمنحه إياه “الوطن العربي”. فهناك لاجئ مواطن، وهنا لاجئ فقط.
لا ريب أن جموع اللاجئين الفلسطينيين إلى أوروبا، خرجت بدافع الحياة قبل أي دافع آخر. لكنها بهذا التصرف الفطري، تؤكد كفرها بالوطن العربي كمكان “إقامة مؤقتة للفلسطينيين”، واختيارها “الآخر” الأوروبي كمكان إقامة دائم في العقد المنظور. لم ينتظر الفلسطينيون هذه المرة أمل العودة إلى مخيمهم كما اعتادوا، بل خرجوا مع جموع السوريين المخذولين أيضاً من كذبة القومية الكبرى. لم تمنح الدول العربية (التي تشكل الوطن) حقوق المواطنة لأي فلسطيني، منها من اتكأ على المقاومة وشماعة رفض التطبيع، ومنها من رفضهم جملة وتفصيلاً. سيقف الفلسطيني ساعات وربما أيام في المطارات العربية لأتفه الأسباب، لن يكون حاله هكذا وهو يحمل جوازاً أوربياً! وطالما ستتقدم كلمة فلسطيني أي جنسية عربية أخرى (فلسطيني سوري، فلسطيني أردني..الخ) لأصبح (فلسطيني/هولندي، بلجيكي، ألماني..الخ)، كذلك تردد الجماهير الحالمة بالفردوس الأوروبي.
إذا كان الفلسطينيون في الشتات جعلوا من مخيماتهم في البلدان العربية أيقونات تعكس مفهومهم عن الوطن/فلسطين، فإنهم بخروجهم إلى أوروبا اليوم، يتركون جذر مفهومهم عن الوطن/Home، ويحيلون أيقوناتهم المحطمة إلى رمز، ولربما أكثر ما نحتاجه اليوم، دراسة سوسيولوجية معمقة تجيب عن لماذا لم يبق للفلسطينيين على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟