اليوم يكمل الشاعر الفلسطيني عامه التسعين، بسيسو الذي مات عام ٨٤، كان يمكن أن يبقى حياً إلى اليوم، لاثني وثلاثين عاماً إضافية، يكتب المزيد من الشعر والنثر ويبقى دائماً شيوعياً أصيلاً.
بسيسو كان الأكثر جهراً بشيوعيّته من بين “رفاقه الزّملاء”، إميل حبيبي وتوفيق زيّاد، محمود درويش وسميح القاسم في شبابهما، وكذلك غسان كنفاني كيساري، وآخرين. كان الأكثر “حزبيّة” في نصوصه مقارنة بآخرين غلّبوا البعد الإنساني والطبقي في نصوصهم، رغم أنّه كان الأقل حزبيّة بالمعنى التنظيمي الفعلي للكلمة. كان الأكثر ثوريّة، كان كمن يكتب بالمنجل لا بالقلم، لكنّه، رغم ذلك، لم يُقرَن اسمه بالشيوعية كما اقترن بالشعر.
ليس هذا التفاضل في الاقتران أمراً محموداً أو مذموماً، بل حقيقة بسيطة لا أعتقد بأنّ بسيسو كان سعيداً جداً بها، وقد تكون كثافة الحضور الشيوعي في نصوصه أتت تعويضاً عن ذلك، تعويضاً عن غياب البنية التنظيمية التي أراد فعلاً بسيسو الانتماء إليها، بنية صلبة اسمها «الحزب الشيوعي الفلسطيني». فبين «عصبة التحرر الوطني» وبين إلحاق شيوعيي قطاع غزة بالحزب الشيوعي المصري، وإلحاق رفاقهم في الضفة الغربية بالأردني، ورفاقهم في الداخل بالإسرائيلي، وبين نشوء “جبهات” يسارية في الشتات، ضاعت فكرة أن يكون هنالك حزباً شيوعياً فلسطينياً قوياً ومستقلاً وموحّداً (بالكسر وبالفتح) ينتمي إليه الشاعر الذي اشتغل باكراً على تشكيل الخلايا الشيوعية في غزة.
لا حزب شيوعيّ لتاريخنا الفلسطيني “يقرع كالضفدع”، لكن مناضلون وأدباء شيوعيون، وتراثهم. لنتذكّر اليوم أحد أجملهم. لنتذكّر اليوم معين الشيوعي، كما الشاعر، لنتذكّره كما أحب دائماً أن يكون.
فكانت نصوصُه هي الحزب الذي أراده، وكان أن عبّر عن “عضويّته” من خلال لغته. وهذه اللغة هي الباقية. اليوم وهو في التسعين من عمره، لم يبق منه غير لغته، شعره ونثره، الحزب الحقيقي الذي التزم به بسيسو، أدبه العقائدي الثوري الكفاحي، الإنساني الصّارم الرّقيق، والأبدي.
ولأنّ الباقي هو أدبه ولغته، تغلّب بسيسو على السّجن المصري الذي امتصّ من عمره ٦ سنين (١٩٥٥-١٩٥٧ و ١٩٥٩-١٩٦٣) لأنّه شيوعي، وذلك في زمن عبد الناصر الذي كان كثيرون، رفاق لبسيسو وتنظيمات فلسطينية ومثقّفون، يجدون فيه المخلّص للعرب من إسرائيل. عبد الناصر الذي كان يصادق الاتحاد السوڤييتي من جهة ويعتقل الشيوعيين الغزيين والمصريين من جهة ثانية.
فكتب بسيسو تجربته في السجون المصرية، في كتابه «دفاتر فلسطينية» : “رائحة البول تملأ الزنزانة، تريد أن تفعل شيئاً، فتبدأ باكتشاف جدران الزنزانة وبابها الحديدي. هذه هي جزيرة الفلسطيني: أربع شجرات من الطوب الأصفر المدهونة بالشيد الأبيض، والسماء هي باب الحديد.”
كتب في “دفاتره” تجربته في الاعتقال من غزة والترحيل إلى مصر والتنقل بين السجون هناك، حيث عاش تجربة حزبيّة نقيّة، كتب عن التعذيب في كل منها حتى إطلاق سراحه وعودته إلى فلسطين: “سماء فلسطين. لقد بدأنا نقترب. يتحول كل إصبع في يدك إلى ناي. الرفاق يندفعون نحو الشبابيك، يصرخ رفيق: محطة رفح الفلسطينية. الهواء الفلسطيني.” فكانت تجربة المُهمّش، الشيوعي الغزّي النموذجي.
كتب إلى أن رحل، تجربة هي من بين الأنقى والأوعى في تاريخ النضال الفلسطيني، وهي تجربة شخصية أكثر منها حزبية، حيث صار الحزب بين دفّات كتبه. كتب أكثر ما نقص تاريخنا، الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي أمكن أن يشبه قصائد لمعين بسيسو وقد كتب: “لا تحجم / أقدم واقرع / كالضفدع / أجراسك للمستنقع.”
لا حزب شيوعيّ لتاريخنا الفلسطيني “يقرع كالضفدع”، لكن مناضلون وأدباء شيوعيون، وتراثهم. لنتذكّر اليوم أحد أجملهم. لنتذكّر اليوم معين الشيوعي، كما الشاعر، لنتذكّره كما أحب دائماً أن يكون.