ما إن يصل أحدنا إلى محطّة القطار في قرية لانميزان جنوب غرب فرنسا، لن يحتاج من يدلّه على الطريق إلى سجن جورج إبراهيم عبدالله. من هناك، إلى بوابة السجن، الأشد حراسة في فرنسا كما أُخبرت، صورٌ لجورج ولعلم فلسطين وللرموز الشيوعية تدلّك على الطريق إليه.
مسير ساعة من المحطة إلى السجن، على كل أعمدة الكهرباء والإنارة، ومعظم صناديق البريد المعدنية، والموزعة على طرفي الطريق، حتى على بعض الأشجار، صورٌ لامعة ملوّنة منتشرة كالنّجوم في فضاء القرية النائية شبه الخالية من سكانها، متوزّعة على جانبي الطريق، تحدّده.
جورج حاضر طوال السنة في الطريق ما بين المحطة والسجن، بحضور رفاقه كلّ أكتوبر، يلصقون على الأعمدة ذاتها، صوراً أكثر وأكثر لجورج وفلسطين والشيوعية، تتراكم الصور فوق بعضها، وستتراكم أكثر كل سنة ما لم يتحرّر جورج، على الأعمدة التي قد يسقطها يوماً ثقلُ الملصقات الصغيرة بحجم راحة اليد، المتراكمة فوق بعضها، والتي صار وجه جورج عليها مألوفاً لأهالي القرية، كما للنادلة في البار في محطّة القطار وقد ألصقت واحدة من صور جورج على صدر تيشيرتها.
من محطة القطار، إلى شارع رئيسي، فتَقاطعه مع آخر، إلى ممر ضيّق، محوّط بالأشجار، وطينيّ، إلى آخر مفتوح على تلال ومزارع، إلى الشارع الرئيسي حول السجن، حول سياجه المعدني الأخضر، وخلفه بعشرين أو ثلاثين متراً السور الاسنمتي الرمادي الضّخم، وأبراج المراقبة العالية، وعناصر الشرطة الفرنسية بزيّها الكحلي تقف جانباً، تنظر إلى رايات حمراء وأعلام فلسطين تخفق تحت الشمس. “الطقس جميل” تردّدت كثيراً بين القادمين، تخلّلت هتافاتهم.
شيوعيون ويساريون ومناصرون للقضية الفلسطينية أتوا من عدّة نقاط في فرنسا، ومن إسبانيا، إلى هذه القرية الخضراء السّاكنة، القريبة من الحدود الإسبانية، ليغنّوا في مسير ساعة “جورج عبدالله لن ننساك، سيكون رفاقك دائماً هنا” ليعلوا الصوت الجماعي أكثر كلّما اقتربنا من الباب الرئيسي لهذه الكتلة الاسمنتية الهائلة. ما إن وصلنا إلى الشارع المحوّط للسجن حتى بدأت الشعارات والأغاني تعلو، تعلو لتجد منافذ إلى زنزانة جورج اللبناني الفلسطيني المعتقل لأكثر من ٣٢ عاماً.
***
لم أستطع المشاركة ولو بهتاف واحد، لم أستطع المشي معهم، لم أحكِ كلمة. أردت فقط الاستماع إليهم، تجوّلت بينهم، كل منظّمة بدأت بهتافاتها وأغانيها: الحزب الجديد المناهض للرأسمالية، ضربة مقابل ضربة، بي دي إس، الإنقاذ الأحمر العربي، قسم من الحزب الشيوعي الفرنسي وجبهة اليسار، بعض الأنارشيين، وآخرون يحملون أعلاماً حمراء مطبوع عليها صور جورج، وهنالك من حمل راية مطبوع عليها صورة لأحمد سعدات.
لم أستطع المشي بينهم، خرجت عن الجموع طوال المسير لأراهم جيداً، لألتقط صوراً، لأحفظ جيداً الأعلام الآتية من كل ناحية إلى باب السجن المركزي. يصرخون بأصوات عالية ومتداخلة، سمعتها جيّداً، أصواتهم أغانيهم. على باب السجن، كما طوال الطريق، لم أهتف، بقيت صامتاً، أتساءل فيما إن كان الصوت يصله لجورج في الداخل، أتفحّص المكان كأني أبحث عن إجابة، عن خلل في الكتلة الاسمنتية الميّتة أمامي تنفذ منها الأصوات.
في القرية الفرنسية النائية الخالية، صور لجورج عبدالله ولعلم فلسطين ولرموز شيوعية، صور تحوّط السجن، جورج في كل مكان في الطريق إلى السجن، في كل مكان حول السجن، كما هو في داخله. جورج، من زنزانته، يحاصر سجّانيه.
حمل المتظاهرون الحجارة، إحداهن عادت بحجر صارت تتباهى به أمام آخرين في الباص أثناء عودتنا، حملوا حجارة وصاروا يدقّون بها على السياج المعدني، رأيت صغاراً يفعلونها، رأيت عجائز، إحداهن بالكاد تستطيع المشي، أتت، بتيشيرتها الخضراء “قاطعوا إسرائيل”، تدقّ بثقل على السياج. لم يستغرق رنين ودقّات الكثيرين وقتاً كي يكون منسجماً، كي يكون نداءً واحداً، تداخلَ الإيقاع العالي مع الهتافات، صارت نشيداً واحداً، بلحن وغناء. قلت لنفسي أن الأصوات كلّها، هكذا، ستصل حتماً إلى جورج، ربّما كما تصلني وأنا واقف على جنب، أنظر إليهم وأستمع لهم.
***
في القرية الفرنسية النائية الخالية، صور لجورج عبدالله ولعلم فلسطين ولرموز شيوعية، صور تحوّط السجن، جورج في كل مكان في الطريق إلى السجن، في كل مكان حول السجن، كما هو في داخله. جورج، من زنزانته، يحاصر سجّانيه.