“حذار منه، فهو لا يحب الموسيقى”
وليام شكسبير
ظاهرتان انتشرتا كالهشيم في النار: بروز أعمال (غير) فنية مغرقة في الهبوط من جميع النواحي، وفي نفس الوقت إدانة أو تحريم أعمال فنية أو تراثية واعدة بحجة أنها لا تتماشى مع عاداتنا وتقاليدنا، مع جنوح فج نحو احتكار تعريف تلك العادات والتقاليد ضمن قوالب أيديولوجية جامدة، بل جعل هذا التعريف مهمة أمنية من ضمن مهام وزارة الداخلية. وقد صاحب هاتين الظاهرتين هجوم حاد على الثقافة الفلسطينية ورموزها البارزة.
في زمن الهزائم والتراجع الحضاري وغياب المشاريع القومية الكبرى وانحسار المقاومة يبرز الفن الهابط، ويصبح ملاذاً، بالذات للجيل الصاعد الذي عادةً ما يشكل القاعدة العريضة للترويج لهذا النوع من “الفن”. مع هزيمة 67، وما تبعها من هزائم متلاحقة، ظهرت “سلامتها أم حسن” و “السح الدح إمبو”… وصولا إلى ظاهرة شعبولا! لا يتميز هذا النوع من “الفن” بغياب الكلمة ذات البعد الجمالي وحسب، بل يصبح “صف” الكلمات الخالية من المعنى، بأي شكل كان، إبداعاً يُحتفى به. وهكذا تصبح “البنطلون” و”الليدن” و”الخبيزة” وصولا إلى “يا إمي ألطمي” و”إت إز” أغاني هي في أحسن حالاتها مسلية للفيسبوكيين/ات المراهقين/ات، وكلها تتميز بقبح صوت المؤدي/ة، بل تحوله إلى صراخ مصحوب بموسيقى مزعجة وخط موسيقي واحد يسمى “لحناً”. وهكذا يختلط التهريج بالفن ويحاول التغلب عليه، ويتم قياس مدى “النجاح الفني” .من خلال عدد اللايكات والتعليقات وصولاً إلى مقابلات تلفزيونية على فضائيات تحمل أجندات واضحة تعمل على تغييب وتزييف الوعي الجمعي
يتحدث المفكر الثوري فرانتز فانون في فصل كامل من كتابه الأشهر “المعذبون على الأرض” عن أهمية الثقافة الوطنية، كجزء من الثقافة الإنسانية، في بناء وعي جمعي وفردي يمهد للحظات الحسم التحررية. كما تحدث المفكر إدوارد سعيد بإسهاب عن العلاقة بين الثقافة والإمبريالية، وقبله كتب غسان كنفاني عن “أدب المقاومة”. وقد فهمت دولة الأبارتهايد الإسرائيلي مدى أهمية الثقافة والفنون في تعزيز وترسيخ مكانتها بين الأمم كدولة “ديمقراطية” و”حداثية” “تحترم الفنون والثقافة” في إطار ديمقراطي غير إقصائي! ولذلك، قامت بحملة الهاسبراة الدعائية ووظفت لها الملايين من الدولارات واعتبرت كل فنان ومثقف إسرائيلي “جندياً” في هذه الحملة التي تعمل على تبييض وجهها الملطخ بدماء الأبرياء.
والحقيقة أن أنجع وسائل التصدي للهاسبراة الإسرائيلية يكون من خلال نشر الفن الفلسطيني. الرقص والغناء والرسم والنحت… الخ. كيف يمكن التعبير عن الهوية الفلسطينية المركبة بدون اللجوء للفن؟ وإلا لماذا غادرت وزيرة الثقافة الإسرائيلية، ميري ريغيف، القاعة عندما قُرئ شعر درويش أمامها؟ ولكن لأننا نعيش مرحلة تصحر ثقافي غير مسبوقة فإننا لا يمكن أن نفهم هذه الظاهرة بدون الربط بين التعصب الفكري والتشدد من ناحية والضحالة الثقافية من ناحية أخرى.
وفي هذا السياق الإقصائي برزت الظواهر التي تمت الإشارة إليها فترى دعوات، بل تحريض، من أكاديمي في معسكر اعتقال كبير اسمه غزّة، يعاني من ظروف اضطهاد مركب نتيجة استعمار استيطاني، لإقرار “قانون زندقة” بملاحقة ومعاقبة (بالموت غالباً) كل سجين ينظر للعالم بطريقة مختلفة، فكرية كانت أم فنية.
أذكر في هذا السياق تجربة شحصية من خلال حوار لي مع مثقف مرموق من جنوب أفريقيا حيث أراد استفزازي فقال “لدينا مانديلا، فمن عندكم؟”. قلت: “لدينا إدوارد سعيد”، فرد قائلا: “أنحني احتراما”.
ثم جاءت دعوة من محاضر جامعي آخر، في السجن الكبير ذاته، يقترح عنواناً لرسائل ماجستير عن “الانحرافات الاعتقادية في الشعر الفلسطيني المعاصر: محمود درويش نموذجاً”، ثم يذكر أنه يوجد شعراء آخرون لهم “تخبيصات” ويؤكد أنه موضوع يستحق الكتابه كون هؤلاء الشعراء تم تمجيدهم وتقديمهم على أنهم عظماء في أشعارهم مع أنها مليئة “بطامات مهلكات”. ثم برزت، ومن السجن ذاته كذلك، إدانة حادة لأحد أبرز مكونات التراث الفلسطيني، الدحية البدوية، واعتبارها “جعاراً” و”كلاماً أعجمياً” غير مفهوم!
كل ذلك يأتي في سياق ثقافة سائدة تحتقر الفنون بأشكالها المتعددة وتعتبرها نوعاً من أنواع “الخلاعة” و”المجون”!
إن الفنون، بالذات الغناء، كثيراً ما تكون أداة مقاومة فعالة. من لا يريد أن يفهم ذلك، ليقرأ عن دور ميريام مكيبا (ماما أفريكا) وعبدالله إبراهيم وهيو ماسيكيلا في الترويج للنضال ضد الأبارتهيد وملاحقتهم ونفيهم نتيجة لذلك.
ولكن لماذا كل هذا الحقد الأعمى على الفن والثقافة؟ هل فلسطين التي نريد ونستشهد من أجلها أفضل بلا درويش وسعيد وكنفاني؟ بلا دحية؟ وبقوانين زندقة؟ ما هو العالم بدون بابلو نيرودا أو ماياكوفسكي أو شكسبير أو توماس هاردي أو ناظم حكمت أو لوركا أو فيرجينيا وولف أو درويش أو أم كلثوم وفيروز والشيخ إمام؟ عالم بلا موسيقى أو فولكلور ورقص شعبي!
أذكر في هذا السياق تجربة شحصية من خلال حوار لي مع مثقف مرموق من جنوب أفريقيا حيث أراد استفزازي فقال “لدينا مانديلا، فمن عندكم؟”. قلت: “لدينا إدوارد سعيد”، فرد قائلا: “أنحني احتراما”.
ألم يردّ الرئيس الفرنسي شارل ديغول عندما اقترح عليه بعض مستشاريه اعتقال جان بول سارتر بالقول: هل تريدون مني اعتقال فرنسا كلّها؟