أثارت مواقف زياد السياسية الأخيرة زوبعة بين محبيه، فالثائر الساخر وقف ضد الثورة، والشيوعي السابق اصطف خلف أعداء الأمس (الامبرياليين) مخافة المد الديني. رغم ذلك، بقيت مسرحيات زياد حاضرة، ولم يؤثر موقف صاحبها على قيمتها، من ذلك، مسرحية «فيلم أميركي طويل» التي تُعرض كفيلم في صالات بيروت اليوم بعد أن كانت قد عرضت على الخشبات اللبنانية في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية عام 1980.
في خضم الحرب الأهلية اللبنانية، في بيروت الغربية، في الضاحية الجنوبية تحديداً، يقبع مشفى للمجانين، أو للمتأذين نتيجة الحرب بمعنى أدق. يحوي المشفى داخله أنماطاً من الخارجين عن المجتمع، منهم من فقد عقله تماماً، ومنهم من جاء إلى المكان كونه أدمن المخدرات وخرج عن إطار (الأسوياء)، وآخر أحالت منه الحرب الأهلية المجنونة إلى صابئ باحث عن الحقيقة. تعكس هذه الشخصيات غير المتزنة الأثر النفسي والعقلي للحرب الأهلية، فهاني (سامي حواط) تلازمه عقدة هوية جذرية، ما إن يرى أحداً حتى يبرز له جواز سفره، ولن يبرح مكانه حتى يؤذن له الآخر بالمرور، في مفارقة ساخرة للتهديد الوجودي الذي تشكله حواجز الأمن والعسكر المتناثرة على كل الأراضي اللبنانية. كذلك يعمل زياد على محاكاة الهراء السياسي عبر الجدل البيزنطي الدائم بين نزار (محمد كلش) الناشط السياسي اليساري الذي وقع في فصام بين مبادئه وقسوة الواقع السياسي، وعبد الأمير (رفيق نجم) الدكتور الجامعي الذي دأب على تأليف كتاب يسعى فيه إلى كشف المؤامرة فوقع في فخ التناقضات الحادة التي تعصف بالحالة السياسية. “شو هي المؤامرة؟!” كذلك يصرخ الأخير، يسمع إجابات عدة، لا يقتنع، “مين ورا هالمؤامرة؟”، يجيبه الطبيب أن هناك مؤامرة، وفي نهاية المداورة ينهار الرجل وهو يصرخ “بدي أسماء، بعرف في مؤامرة بس مين ورا هالمؤامرة..”. يسخر العرض بالمؤامرة، تشعر كأنه يتكلم بلسان اليوم، فـ”المؤامرة” مازالت مستمرة، لا بل إن “الفيلم الأميركي الطويل” لم ينتهِ بعد.
وإذا كان العرض حينها يحاكي “العصفورية اللبنانية”، فاليوم يحاكي “العصفوريات العربية” إن صح التعبير. المؤامرة شماعة الجميع في الحرب اللبنانية، كبرت في الحرب السورية حتى استحالت “مؤامرة كونية”، والفكر الإقصائي الذي تعرض له المسرحية في النهاية ترعرع وأخذ أشكالاً أقسى وأكثر راديكالية من الذي كان عليه قبل ثلاثين عاماً،
لا تحضر الحشيشة مع جوزيف صقر في شخصية أبو ليلى على أنها “قضية اجتماعية خطيرة يجب معالجتها”، إنما يطرح القضية بروح طريفة تحاكي روح نبتة “القنب الهندي”، لا يفهم طوال الوقت لمَ هذا الاهتمام بملاحقة مدخنيها وهي تساعد على نشر “السلام” وهو ما يفترض أن الجميع يسعى له. ” أنا برأيي يدخنوا الطرفين بينحل الموضوع” كذلك يطرح صقر الحل، فسيجارة الحشيش تفضي إلى نتائج أنجع من هذا الهراء السياسي المستمر إلى اليوم. أما رشيد، الشخصية التي لعبها زياد، فقد ذهب فيها حد الانفجار من الواقع، فرشيد الغاضب دائماً، والتائه في غمرة أسئلة دون إجابة، يعكس بذاته ضياع الفرد العربي في الصراعات الطافحة في منطقته، ورغم الهامش الكوميدي الواسع الذي يلعب فيه زياد/رشيد، إلا أن هناك بعداً تراجيدياً في مآل الضياع والتشويش الذي آل إليه الإنسان العربي بسبب الأنظمة السياسية القائمة منذ عرض “فيلم أميركي طويل” إلى اليوم.
يلعب زياد في المكان الأكثر مرونة وخطورة في الأداء (مشفى المجانين). في فضاء كهذا يتسع هامش تصرفات الشخصيات، فهي مجنونة وأفعالها غير معقولة، لذا لا يحكمها إطار واقعي صارم يحدد أفعالها، ولعل هذا ما نجح فيه الرحباني، فالشخصيات -على تواضع أداءها المسرحي- تتحرك بأريحية على الخشبة، لا التزام في قواعد أداء واقعي نفسي صارم ومحدد، لا يخلو العرض من الفوضى أحياناً، بيد أن تلقائية الممثلين وعفويتهم وانسجامهم جعلتهم قريبين من جمهورهم الذي حضرهم في وقت عرض المسرحية، وجمهور الفيلم الباحث عن متعة الصورة التي لطالما تخيلها وهو يسمع تسجيل المسرحية.
لا يوجد في الفيلم مجالاً للحديث عن الألوان واللقطات والمونتاج… الخ. العمل توثيقي وليس فيلماً منتهياً، كذلك تعلن الشركة التي ساهمت في مونتاج ومعالجة تصوير المسرحية التي قامت به الراحلة ليال عاصي الرحباني عبر كاميرا سوبر 8، بيد أن هذا التوثيق يعيد طرح الأسئلة التي طرحتها المسرحية في عرضها قبل ستة وثلاثين عاماً، وإذا كان العرض حينها يحاكي “العصفورية اللبنانية”، فاليوم يحاكي “العصفوريات العربية” إن صح التعبير. المؤامرة شماعة الجميع في الحرب اللبنانية، كبرت في الحرب السورية حتى استحالت “مؤامرة كونية”، والفكر الإقصائي الذي تعرض له المسرحية في النهاية ترعرع وأخذ أشكالاً أقسى وأكثر راديكالية من الذي كان عليه قبل ثلاثين عاماً، وبدلاً من تجاوز الدين نحو العلمانية، عادت المنطقة في صراعها إلى أصول إثنية، ووصل “زمان الطائفية” إلى طور الازدهار اليوم.
كل ذلك جعل من «فيلم أميركي طويل» مسرحية معاصرة، تتجاوز الزمن، لتطرح أسئلة مازالت عالقة في شباك الوضع العربي الراهن، وربما لو تخلص المجتمع العربي من أسئلة المسرحية وتجاوز قضاياها، لكنا نكتب الآن عن مسرحية متحفيّة نتأمل ماضينا فيها لا نتفكّر حاضرنا المراوح في المكان ذاته. ولعل حلم “البلد” الذي طالب به زياد في مسرحيته، لم يعد حكراً على البلد اللبناني، بل صار حلماً فلسطينياً وسورياً ومصرياً..الخ، يراود الشعوب التي غدت جراء أنظمتها السياسية “أرطة عالم مجموعين” والباقين “مفروطين كل شوي في بلد”.