انتهى المؤتمر السابع لحركة فتح منذ أيام واتضحت معالم البرنامج السياسي للحركة قائدة النضال الوطني الفلسطيني المعاصر. سأحاول في هذه المقالة نقد نقطة محددة وردت في البرنامج لأهميتها في تحديد الهدف النضالي للحركة الوطنية الفلسطينية في القرن الواحد والعشرين، بعد مائة عام من إعلان وعد بلفور المشؤوم. ينص البيان الختامي للحركة على أن الهدف هو “إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967، وإنهاء الاحتلال العسكري لأرض دولة فلسطين، وايجاد حل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين استناداً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194”.
من الواضح أن هذا يأتي في سياق إعادة تجديد الهدف الوطني المركزي الذي قامت حركة فتح بتحديده وتوجيهه منذ سيطرتها على اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. كما أنه يأتي في سياق ما تعتبره الحركة “واقعية سياسية”، أي حل الدولتين، دولة فلسطين على 22 % من فلسطين بجوار دولة إسرائيل على 78% منها. هذا هو صميم اتفاقيات أوسلو التي شكلت نقطة تحول هائلة نحو عملية تراكمية أدت في المحصلة النهائية إلى ما وصلنا اليه من برامج سياسية تتناقض في جوهرها مع النضال الوطني الفلسطيني.
إن التضخيم الإعلامي الهائل الذي صاحب عقد المؤتمر، وما صاحب ذلك من تهديد بانشقاقات داخل الحركة، ليس على أسس سياسية، إنما تعبر كلها عن نهج كان يتنامى بشكل متصاعد، نهج مرتبط بعملية “أسلوة” تتميز بفساد هائل، والتخلي عن الشعارات الثورية التغييرية التي كانت سائدة في مرحلة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، بالإضافة إلى نمو خرافة ما يسمى حل الدولتين العنصري بأي ثمن كان.
لا يأخذ حل الدولتين، وهو بجوهره إقصائي، الذي تبنته حركة فتح العيوب الأساسية التي وقعت بها اتفاقيات أوسلو التي لم تشمل آليات تطبيق قرار الأمم المتحدة 194 المتعلق بعودة اللاجئين، ولا الحق بالمساواة الكاملة لـ 1.4 مليون مواطن فلسطيني من سكان دولة إسرائيل على اعتبار أن قضيتهم يتم التعامل معها كقضية إسرائيلية داخلية لا يحق للمفاوض الفلسطيني التطرق لها.
وبناء على ذلك تبرز مجموعة من الأسئلة المؤلمة التي تم التغاضي عنها لمدة 23 عاماً من خلال اتباع سياسة غرس الرؤوس في الرمال، وإنكار الواقع، مع ادعاء العكس، وأن اي أطروحات أخرى، ومنها حل الدولة الديمقراطية العلمانية، هي أطروحات “طوباوية”.
ولكن ماذا لو رفض الفلسطينيون حل الدولتين، وهو جوهرياً عنصري، حتى لو تم الادعاء بوجود تأييد أممي له؟
لا يأخذ حل الدولتين، وهو بجوهره إقصائي، الذي تبنته حركة فتح العيوب الأساسية التي وقعت بها اتفاقيات أوسلو التي لم تشمل آليات تطبيق قرار الأمم المتحدة 194 المتعلق بعودة اللاجئين، ولا الحق بالمساواة الكاملة لـ 1.4 مليون مواطن فلسطيني من سكان دولة إسرائيل على اعتبار أن قضيتهم يتم التعامل معها كقضية إسرائيلية داخلية لا يحق للمفاوض الفلسطيني التطرق لها.
أصبح من المعلوم للقاصي والداني أن اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، دون اعتراف الثانية بحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية ولا حتى حقه بتقرير المصير، يرتبط بطرحِ براجماتي يقوم على أساس تجنب توجيه اللوم للطرف الفلسطيني من قبل الولايات المتحدة وبالتالي ما يعقب ذلك من نتائج وخيمة. والحقيقة أن عدم التزام إسرائيل بتجميد الاستيطان الذي لم يتوقف منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، وتخليها عن التزامها الشكليّ بحلّ الدولتين-السجنين، وبالتالي توجيهها رصاصة الرحمة لهذا الحل الذي يقوم على الفصل بين السكان الأصليين على أساس هويتهم الدينية، مسلمة ومسيحية، ومجتمع الاستعمار الاستيطاني بهويته الإثنية-الدينية (اليهودية-الأشكنازية) يجعل إمكانية تطبيق الهدف الوطني الجديد-القديم لحركة فتح مستحيلاً.
وبالعودة للنتائج التي كانت يمكن أن تنجم عن عدم الرضوخ للضغوط الأممية فهي تتلخص بإيقاف المعونات المالية التي قامت على أساسها السلطة الوطنية الفلسطينية، التي تم الترويج لها على أساس أنها “نواة” الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا زالت تشكل شريان الحياة الوحيد لها ومبرر وجودها فلسطينياً. 23 عاماً من الاقتصاد الاستهلاكي غير المنتج، المعونات المرتبطة بضمان أمن دولة إسرائيل، أديا لنشوء طبقة ريعية من البرجوازية الجديدة غير الأصيلة ارتبطت مصالحها عضوياً بالترويج لحلٍ عنصريٍ يقوم على وهمٍ عبثي وسراب ما هو إلا امتداد لفنتازيا ابتدعها مهندسو نظام الابارتهيد المقيت من خلال التركيز على صنمية “الاستقلال” الوطني على بقعة من الأرض يتم حشر السكان الأصليين بها مع إعطائهم علماً ونشيداً وطنياً و”جيشاً” من الأجهزة الأمنية تعمل على حماية مصالح الطبقة الحاكمة.
ولكن، لأن المساواة لم تكن في يوم من الأيام جزءاً من الخطاب السياسي الفلسطيني، تم تصغير مفهوم التحرير، أي الحرية والعودة والمساواة التي يضمنها حل الدولة الديمقراطية، إلى استقلال الضفة الغربية وقطاع غزة وتسميتهما “فلسطين” من خلال الادعاء بواقعية هكذا حل.
ولكن ما لا تريد هذه الواقعية الفلسطينية أن تراه هو أن 23 سنة من تطبيقها قد أدى إلى حصار إسرائيلي على غزة حوّل القطاع، حسب منظمات حقوق الانسان الدولية، إلى “أكبر سجن مفتوح على سطح الكرة الأرضية”، على الرغم من ادعاء “تحريره!” والأخطر هو إنهاء حلم تلك “الواقعية” بالاستقلال من خلال قيام “إسرائيل” بالاستمرار بقضم ما تبقى من الضفة الغربية، أو ما تحلم الحركة الوطنية الفلسطينية بأن يكون الدولة الفلسطينية المستقلة. أضف لذلك تكملة بناء نظام الأبارتهيد في الضفة الغربية من خلال مواصلة بناء جدار الفصل العنصري. وهكذا تقوم “إسرائيل”، كما فعلت منذ 68 عاما حتى يومنا هذا، بخلق حقائق على الأرض يصعب تغييرها، لكن هذه المرة بغطاء فلسطيني رسمي يحلم بدويلة على 22% من أرض فلسطين التاريخية.
وهنا يبرز السؤال التالي: ما هو تفسير حركة التحرير الوطني الفلسطيني لمفهوم حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، إذا لم يشمل ذلك اللاجئين، ومواطني إسرائيل من الفلسطينيين؟ ولماذا يتم تفسير ذلك وكأنه يتعارض مع الواقع الدولي؟ هل حق تقرير المصير يقتصر على إقامة دولة فلسطينية مستقلة لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة؟
إن أسوأ ما قامت به اتفاقيات أوسلو، بعد كامب ديفيد، هو تصغير الشعب الفلسطيني إلى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الذي تحول إلى جيتو إسلاموي معزول ومكروه من قبل النخبة السياسية الحاكمة المعترف بها دولياً، بعد فترة أوسلوية كانت قد تباهت بجعله بانتوستان يعيش على بوادر “حسن النية” من الاحتلال ومعونات غربية.
كنت قد جادلت في مقالة سابقة أن إنتصارات إسرائيل في عدة حروب (48 ،67 ،82)، وبعد حصولها على اعتراف فلسطيني وعربي ودولي “بحقها” في ممارسة سياستها كدولة استعمار استيطاني على 78% من أرض فلسطين، كانت قد رغبت بالدخول في مرحلة جديدة ، مرحلة تتميز بتشكيل وعي جديد لدى الشعب الفلسطيني المحتل. وهنا بالضبط يكمن خطر أوسلو الوجودي. إن عملية الأسلوة، وفي هذا الإطار النيوصهيوني، يعني خلق خطاب إيديولوجي جديد يؤدي إلى إزاحة كاملة لوعي الضحية واستبداله بعقلية أحادية الجانب من خلال خلق خرافة جديدة دائمة الانزلاق ولا يمكن تحقيقها، على نمط حل الدولتين الذي أعاد مؤتمر فتح تبنيه.