لا تروي الفنانة الفلسطينية تمام الأكحل حكايتها وبعضاً من حكاية زوجها الفنان إسماعيل شموط في هذا الكتاب، إلاّ لتروي حكاية جيل النكبة الذي وجد نفسه في عراء التاريخ، فحاول أن يعيد صوغ هويته بالألوان والكلمات، وأن يجمع مِزَق ذاكرته كي يعيد تأسيس الحلم الفلسطيني.
بين يافا حيث ولدت الفنانة، واللد حيث ولد زوجها، مسافة مصبوغة بدماء الضحايا. القوارب التي أخذت أهل يافا إلى المنافي، وأمواج مسيرة الموت التي صنعت أحد الفصول المأسوية في حكاية اللد، تلتقي على قماشة لوحة وفي مسيرة حياة.
تروي تمام الأكحل شموط حكايات النهاية التي صارت بداية، ففي ذلك الليل الفلسطيني الطويل لم يبق سوى ضوء الإرادة، وألق التمسك بالحياة. من خيوط هذا الضوء أعادت الفلسطينيات والفلسطينيون نسج حكايتهم وبناء حياتهم وتأسيس ثقافتهم.
الحكايات التي نثرتها الفنانة على صفحات كتابها هذا، تفتح لنا نافذة نُطل منها على البدايات، وكيف تحول ركام البلد إلى حجارة بنت وطناً منفياً من وطنه، فصار وطن جميع الفقراء والمضطهدين في العالم العربي وفي العالم.
يخطىء المؤرخون الذين ينسبون تأسيس منظمة التحرير إلى قرار اتُّخذ في القمة العربية في سنة 1964، فالمنظمة كوطن منفي بدأت في اللوحات والروايات والقصائد، وبعد ذلك جاء المستوى السياسي كي يمأسس ما صُنع في كفاح الكلمات والألوان، وفي موت الفدائيين البطولي وهم يعانون بطش المحتل وعسف الأنظمة العربية.
تمام وإسماعيل شموط كانا جزءاً من تلك العاصفة التي وجدت في المنظمة بيتاً لمَن فقد بيته، وهما في تجربتهما يدعواننا إلى إعادة قراءة الثقافة بصفتها مقترباً للدفاع عن الحياة، واستيلاداً للحي من الميت.
الفتاة التي شقت طريقها بنفسها في بيروت، وذهبت إلى مصر حيث تابعت دراستها الفنية، ستلتقي بنصفها الفني الثاني في القاهرة التي كانت تواجه العدوان الثلاثي، والتي فتحت أمام العرب أفقاً سرعان ما تلاشى بعد هذا التاريخ بأحد عشر عاماً في رماد الهزيمة الحزيرانية المروعة.
يمكن أن نقرأ هذا الكتاب في مستويين:
المستوى الأول كشهادة امرأة من أجل تحررها الشخصي وكفاحها وحيدة في مواجهة الفقر والتشرد والضياع.
المستوى الثاني كحكاية جيل رسم أبجدية فلسطين الجديدة: من سميرة عزام إلى غسان كنفاني، ومن محمود درويش إلى شفيق الحوت. صحافيون وشعراء وروائيون وفنانون تشكيليون، قرروا ترميم الروح بالحلم، واستعادوا فلسطين بالكلمات التي تحولت إلى فعل مقاوم.
حكاية المرأة تستحق أن تُقرأ على حدة، وتقارَن بنصوص فدوى طوقان وسحر خليفة، والتي يشكل التمرد الفردي واللغة النسوية جزءاً تكوينياً من خطاب التحرر الوطني، إذ لا تحرر من دون حرية المرأة ومساهمتها الإبداعية والنضالية.
أمّا حكاية ذلك الجيل فأسست للأجيال اللاحقة جذوراً. كانت الثقافة تتكامل مع النضال الوطني من دون أن تخضع لأي سلطة، لأن حريتها صنعها المثقفون وهم يجمعون فتات النور من العيون التي أطفأتها النكبة، معلنين أن بناء لغة المقاومة هو شرط الوجود لوطن يواجه ممحاة التاريخ المنقلب..
كان جيلاً آتياً من أماكن أيديولوجية وفكرية وسياسية متنوعة، لكنه اكتشف أن شرط التنوع في بيئة مهددة بالاندثار هو الوحدة، وأن مقاومة المحتل ممكنة وضرورية في إطار وطني جامع. نجح الشموطيان في بناء لوحة الألم لأنهما كانا جزءاً من هذا الكل من دون أن تذوب تجربتهما الفردية فيه.
كانا من أبناء تلك المرحلة التي لم تترك للفردانية متسعاً، لكن مساحة الفن كانت لهما أرضاً شاسعة وبلا حدود، فصنعا لنا اللوحة الفلسطينية الطالعة من النكبة، ليعبّدا للأجيال اللاحقة حرية التحرر من الهوية التي صارت إنجازاً راسخاً.
في هذه المذكرات نتعرف إلى بعض من ملامح امرأة، وكثير من تجربة فنانَين بحثا عن فلسطين في كل مكان، ليجدا أن الوطن مرسوم على أرواح الفلسطينيين، وأن الحكاية حين تُروى تستدرج حكايات أخرى نهاية لا لها.