وكأن عام 2016 يفرغ ما في جعبته من نكسات قبل أن ينتهي. رحل المفكر السوري صادق جلال العظم عن عالمنا قبل أيام. سقطت حلب. اهتزت أركان الثورة السورية التي حملها العظم سفْراً عى ظهره المتعب. ذهبت المدن في حروب دينية قوامها فكرٌ ديني إقصائي لطالما سعى العظم إلى تهديمه. مات المفكر. ماتت المدينة، وبقي الفكر الديني حياً.
قبل 50 عاماً، تحديداً عام (1969)، كتب العظم كتابه «نقد الفكر الديني»، أثار زوبعة قي المنطقة، حوكم العظم. بُرئ. ولولا الصدفة، لكان مصيره كما مصائر المفكرين الأحرار الذي ضربوا جذور الفكر الغيبي كحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة… ممن طالتهم يد الغيبيين التي سطت على منطقتنا اليوم. وكي لا يندرج الكلام هنا تحت مظلة سليلي فكر المؤامرة السلفية على العالم “المدني” العربي، أنوّه أن يد الغيبين تشمل كل الأطراف القائم قتالها على الفكر الديني على اختلاف مرجعياتها الدينية والإثنية.
منذ صدوره إلى الآن، يفخر الجميع بقراءة «نقد الفكر الديني»، قراء وصحفيون ومفكرون، وزاد هذا الفخر بعد رحيل العظم قبل أيام، إلا أن حدود القراءة هذه وقفت عند حد الاطلاع النظري، ولم تتجلَ في ممارسة عملية لـ”نقد الفكر الديني”، لا بل إن ما حصل منذ صدور الكتاب في أواخر الستينات هو العكس تماماً، فالفكر الديني الذي كان كامناً في العقل العربي الحديث حينها، وسعى العظم إلى الكشف عنه في وجه التفكير العلمي، أصبح اليوم ممارسة عملية تشهدها الساحات العربية، وأصبح الفكر السائد بلا منازع، ليس على الجبهة السورية وحسب (التي يتجلى فيها ممارسة هذا الفكر بوضوح)، إنما يندرج ذلك على كل القضايا العربية الراهنة، فالفكر الديني في المنطقة أصبح اليوم خصباً أكثر من أي وقت مضى في تاريخ العرب الحديث.
حينما كتب صادق جلال العظم كتابه هذا، كان يسعى لتطويق الفكر الغيبي بالأدلة الدامغة المستمدة من الفكر العلمي، مفنداً “مأساة إبليس، ومعجزة ظهور العذراء” عبر مسائلة البدهيات، والوقوف عندها، واستثارة الأسئلة الجذرية حول أقاصيص الفكر الغيبي وممارسته، بيد أن ما نقده العظم حينها، هو (فعلياً) نقد التفسير الديني الذي يقضي بإحالة كل أمور الدنيا إلى الغيب والقدر، وذلك ما جاء في مشروع متكامل للعظم بدأه بـ «النقد الذاتي بعد الهزيمة» إبان نكسة 1967، وأتمه فيما ما بعد بـ «نقد الفكر الديني» و «ذهنية التحريم» و «ما بعد ذهنية التحريم».…
بعد الهزيمة تعالت الأصوات التي أرجعت الهزيمة لابتعاد الشعوب العربية عن الله، وأحالت ضياع فلسطين وتشتت المنطقة العربية إلى ارتكاب الجماهير المعاصي التي كانت (العلمانية) وما تزال أجلّها وأكبرها عند دعاة الفكر الديني. من هنا، دأب العظم في نقده للفكر الديني على ضرب التفسير الغيبي للحال العربية، واستبداله بتفسير علمي منطقي يقوم على التحليل والاستدلال بدلاً من الابتهال والدعاء. ما حصل فيما بعد كان العكس تماماً، إذ تفشى التفكير الديني وطرائقه في المنطقة، وتحول مع تقادم الأيام إلى ممارسة عملية تسعى للهيمنة على سبل التحرير والتحرر التي كانت مفتوحة على جميع الجهات على اختلاف توجهها. زد على ذلك مساهمة الأنظمة العربية في تجذير هذا الفكر في الخفاء مدعيةً علمانية زائفة تهاوت عند أول حراك شعبي عربي هدد أركانها.
لم يقف العظم في «نقد الفكر الديني» عند حدود كشف هشاشة التفكير الماورائي، إنما هاجم أيضاً الموقف التصالحي للقوى التحررية مع الفكر الديني على اعتبار أنه موروث وتقاليد لا يجب المساس بها، على عكس حركة التنوير الأوروبية التي لعبت فيها القوى الثورية الدور الأكبر في فصل الدين عن الدولة والمجتمع. رحل العظم وما برحت القوى اليسارية العربية تحابي هذا الفكر، ولعل أبرز مثالاً على ذلك، موقف القوى اليسارية العربية اليوم التي تهاجم الفكر الديني ممثلاً في الثورة وتتعامى عن الفكر الديني الحامل للأنظمة العربية. وذلك تحديداً ما سعى العظم إلى كشفه ونقده في مقولته “العلوية السياسية” التي طرحها إبان الثورة السورية، فالفكر الديني ليس حكراً على الشعوب الغارقة في ظلمات الغيبيات، بل أيضاً هو المحرك الأساس في السياسة العربية، وهو الوتر الذي لعبت عليه هذه الأنظمة في طمأنة شعوبها حتى انفجرت الأخيرة على شكل راديكالية دينية حينما ضاقت بها سبل العيش مع هذه الأنظمة. ولا عجب في أن تظهر كل هذه الميليشيات الدينية الثورية أو الموالية للأنظمة، في أرضية خصبة دأبت فيها الأنظمة السلطوية السياسية والدينية على زرعها والاعتناء بها طوال عشرات السنوات.
إن ما سعى إليه العظم سابقاً، هو “الضرب بالمطرقة” في الفكر الديني كي لا يبقى الإنسان العربي حبيس خيارين: الانضمام إلى قوافل الفكر الديني، أو الالتحاق بركب الديكتاتوريات الجديدة التي تحابي هذا الفكر، وسعت وتسعى إلى توسعته وفرضه كما هي حال عالمنا العربي اليوم. فتح العظم باب نقد الفكر الديني بعد أن كان من التابوهات، وعلينا اليوم ــ أكثر من أي وقت مضى ــ أن ندخله ونبحث فيه عن أسئلتنا الحاضرة، ونسعى لتطبيق هذا النقد (عملياً)، كما فعل العظم قبل نصف قرن.