بطريقة ما استهديتُ إلى رابط صفحة «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» على موقع يوتيوب، حيث تعرض جلسات مؤتمرها الذي انعقد مؤخراً تحت عنوان «الثقافة الفلسطينية إلى أين؟»، في جامعة بيرزيت. فبدأتُ بمشاهدة بعض الڤيديوهات حسب اهتمامي بالمتحدّث والموضوع. لو كنت في البلد لحضرت ما استطعت عليه من الجلسات، ولكتبت شيئاً عن المؤتمر الهام فكرةً وموضوعات. إنّما، وبمكاني، دائماً، خارج البلد، انتبهت إلى ذكرٍ في الجلسات لمسألة الهويّة الثقافية الفلسطينية، وكان ذلك باقتراح أحد المتحدثين باستبدال «الثقافة الفلسطينية» بـ «الثقافة في فلسطين» في عنوان المؤتمر، فكان أن بدأتُ بكتابة هذه الأسطر لما وجدت في الاقتراح نفياً للقسم الأعظم من الفلسطينيين وبالتالي من النتاج الثقافي الفلسطيني.
في اليوم، أو الزمن، الذي تُطرح فيه فكرة الثقافة “في فلسطين” بدل “الفلسطينية” نجد كثيراً من المساهمين الأساسيين في النّتاج الثقافي الفلسطيني، أفراداً قبل مؤسسات، غير مقيمين في فلسطين ولا منتجين لأعمال أدبية وفنية من داخل البلد، ومعظمهم (منهم العديد من فلسطينيي المخيمات خارج الوطن، والشتات) لم يحصل أن كانوا في فلسطين لحظةً. بالتالي، لن تشملهم تسمية “الثقافة في فلسطين” كما أن أي تسميات أخرى لن تشملهم، لا “الثقافة في سورية” ولا “الثقافة في لبنان” ولا الثقافة في فرنسا وألمانيا والسويد وقد صارت كلّها أماكن جديدة لشتات فلسطينيي سوريا من هؤلاء.
يقودنا الحديث عن الثقافة المرتبطة بفلسطين إلى الحديث عمّا هي فلسطين بالنسبة لكلٍّ منّا. هي (عندي) ليست مكاناً جغرافياً مستقلاً مكتملاً تقع عليه دولة وفيها مواطنون يتم إحالة الثقافة التي ينتجونها إلى الدولة والمكان، وهذه الحال الطبيعية لأي بلد/دولة، لكن ليس فلسطين. والمتحدّث، بالمناسبة، دعم اقتراحه بمثال فرنسا! رغم ذلك فقد كان مخطئاً، فالفرنسيون، بالعكس، يرون في الثقافة الفرنسية المنتَجة خارج الأرض الفرنسية (خارج الإكزاغون) مكوّناً أساسياً لثقافتهم، فلا يُقال “الثقافة في فرنسا” بل “الثقافة الفرنسية”، وهذا غير “الفرانكوفونيّة”، وهو مبحث آخر.
ليست فلسطين المكان الفلسطيني الوحيد، هنالك المخيّمات وهي كلّها أمكنة فلسطينية وإن مؤقّتة، إنّما عمرها من عمر الاحتلال. والأكثر شمولاً من هذا كلّه هو أنّ فلسطين هويّة اختيارية أكثر من كونها هويّة متوارثة. وكذلك، فلسطين الثورة والانتفاضة والقضيّة ليست فلسطين السلطة. الأولى تشمل، مكانياً، العالم كلّه، مبتدئة من المخيمات داخل الوطن وخارجه، والثانية محدودة، بأحسن الأحوال، بما تبقى من مناطق “أ”. الأولى جعلت فلسطين معياراً للقضايا العادلة في العالم والثانية جعلتها تجمّع “إن جي أوز” وشرطياً لمحتلّها.
الحديث في ما إن كانت فلسطين مكاناً جغرافياً هلامياً مفتّتاً أو إن كانت مكاناً معنوياً عالمياً، يطول، لكن كي لا نبتعد كثيراً عن علاقة النتاج الثقافي الفلسطيني بما تبقى من أرض فلسطين، أي بالمسموح به إسرائيلياً، أذكّر بأن هذه العلاقة مرتبطة عضوياً باتفاقية أوسلو، فقبلها كانت الثقافة الفلسطينية عالمية تمثّل ما ذكرته أعلاه، وكانت تصدر أساساً عن فلسطينيين خارج الأرض المحتلة: كنفاني ودرويش وجبرا والعلي وشموط وسعيد وبسيسو وأبو شرار وناصر ودحبور وآخرون كثر، اختلف سبب تواجدهم ومدّة هذا التواجد خارج فلسطين، إنّما كان كامل نتاج معظمهم ومعظم نتاج بعضهم خارج الأرض المحتلة، أين هم إذن من تسمية «الثقافة في فلسطين»؟
وحال هؤلاء مستمر لدى آخرين، فقسم أساسي من النتاج الثقافي الفلسطيني اليوم يُنتج في الخارج، سينما وأدباً وفكراً وفناً. وقسم أساسي من مجمل النتاج الثقافي الفلسطيني يُنتج في الأراضي المحتلة عام ٤٨، دون أن ينفي كل ذلك أن قسماً أساسياً آخر كذلك يُنتج في الأراضي المحتلة عام ٦٧، إنّما ليس أياً من هذه وتلك يختصر كامل الثقافة الفلسطينية، فهذه أشبه بالفلسطينيين أنفسهم، المشتتين خارج الوطن وداخله.
مع أوسلو، بدأت الثقافة الفلسطينية ترتبط لا بالمكان الفلسطيني، بل بالمكان الذي أتاحته الاتفاقية، في وقت كانت دائماً مرتبطة بالأمكنة الفلسطينية، والأمكنة تعني الفلسطينيين، حيث تواجدوا، وذلك كلّه يحيل إلى فلسطين-الفكرة وليس فلسطين-الدولة. هل يجدر بي أن أذكّر هنا بقول شاعرنا ذاته “ما أكبر الفكرة.. ما أصغر الدولة”؟ وأيّ دولة!
مسألة ارتباط الثقافة الفلسطينية بالضفة الغربية تحديداً، كما يروّج له أفراد ومؤسسات معنيّة بالترويج لما هو في صالح السلطة الفلسطينية ومموّليها، مسألة سياسية بامتياز، فلا مبرّر “معرفي” لذلك، لا سوسيولوجياً ولا تاريخياً ولا جغرافياً، إلا السياسي المعني بتعريف “الفلسطيني” ونتاجه الثقافي بما يناسب السلطة، مستبعداً فلسطينيي الدّاخل (في الـ ٤٨) وفلسطيني الشتات والمخيمات، وفلسطينيي غزة إلى أن تستلم سلطةُ “فتح” الحكمَ فيها.
ليست الثقافة الفلسطينية هي تلك التي تخرج من مناطق تابعة (نظرياً فقط طبعاً) إلى السلطة الفلسطينية، ولا بالتالي تلك التي تباركها وزارة ثقافة هذه السلطة، ولا مكان للنتاج الثقافي الفلسطيني غير هويّته، وهذه الهوية أكبر من المكان الذي لم ننله، إنّها هويّة النّاس.
فلسطين، الأرض، هنا هي أحد مكوّنات الهويّة الفلسطينية وليس العكس، لذلك يمكن لأحدنا أن يجري مؤتمراً عن “الثقافة في فلسطين” (على أن تشمل كل الأرض الفلسطينية من حيفا إلى غزة)، نعم، لكن “الثقافة الفلسطينية” مسألة أخرى، الأولى هي من مكوّنات الثانية، وليست بديلة عنها. أين نذهب بتاريخ الثقافة الفلسطينية والأسماء المذكورة؟ أين نذهب بجغرافيا الثقافة “الفلسطينية” اليوم، ومعظمها مشتّت، ولم يُنتج “في فلسطين”.