اقتصرت السينما التسجيلية السورية قبل اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011 على أسماء قليلة من المخرجين السوريين، يبقى أهمهم حتى يومنا الحالي، بلا استثناء، الراحل عمر أميرلاي، الذي اشتغل على نحو 19 عمل وثائقي متنوع المضمون، وعرض قصصًا مختلفة تميزت بتنوع أمكنتها.
بشكلها العام كانت السينما السورية قبل تلك الفترة، تتجه أكثر نحو الأفلام الروائية لتلقيها الدعم من “المؤسسة العامة للسينما” المهيمنة على كافة الأعمال الصادرة حتى عام 2008. بعدها سُمِح للقطاع الخاص بإنتاج أفلام روائية تحت ضغوط، من بينها اختيار دمشق عاصمة للثقافة العربية، لكنها لم تناسب ذائقة أفرع المخابرات.
وكان للسوريين عام 2011 موعد مع صعود السينما التسجيلية بأصوات شابة، تشكلت بوادرها الأولى في مهرجان “دوكس بوكس” سنة 2008، ويمكن اعتبارها المرحلة التمهيدية لما قبل الثورة. إلا أن هذا النمط السينمائي بلغ ذروته منذ بداية عام 2012، وأنتج عشرات الأفلام التسجيلية بدعم من المنظمات غير الحكومية لجيل جديد كبر من الثورة السورية.
خلال المرحلة اللاحقة لانطلاقة الثورة، كثفت المنظمات الداعمة من منحها للسينما التسجيلية، وحصد العديد منها جوائز في مهرجانات عالمية، وتعتبر مشاركة فيلم “ماء الفضة” لأسامة محمد في الدورة الـ67 لمهرجان كان السينمائي، من المشاركات المميزة في أحد أهم المهرجانات السينمائية العالمية، رغم أنه لم يكن مشاركاً في المسابقة الرسمية.
ولا ضير من التنويه بأن عمل محمد يعد من الأفلام البارزة في الواجهة العالمية للسينما التسجيلية الراصدة لانتهاكات النظام، لما يحمله الأخير من اسم، لكنه في الوقت ذاته لم يخرج عن إطار المقاطع المنشورة على موقع “يوتيوب” سوى بالسرد الشفهي الذي رافق العرض، فالفترة المقبلة ستشهد مقاطع أقسى تم تداولها عبر وكالات الأنباء المعارضة.
كذلك يمكن أن نتحدث عن الفيلم التسجيلي الذي أطلقته شركة “نتفليكس” منتصف أيلول/ سبتمبر الفائت، للمخرج أورالندو فون إيسينديل بعنوان “الخوذ البيضاء”، لكن الشريط المنتج من إحدى أهم شركات السينما الأمريكية لم يلقَ إقبالاً جماهيرياً رغم عشرات المقالات التي نشرت في الصحافة العالمية، وكان صدوره مرافقاً للحملة الدولية التي دعمت متطوعي الدفاع المدني – أبطال الفيلم – الذي يحاكي إنقاذهم للمدنيين في مناطق المعارضة من قصف النظام، فيما على الطرف الآخر نجد أن الصحافة العالمية والعربية بدأت تروج بشكل مكثف للفيلم الروائي الذي سينتجه الممثل جورج كلوني عن المجموعة نفسها.
قبل عامين تقريبًا حاولت التواصل مع عدد من المخرجين والمنتجين الشباب الذين شاركوا في صناعة أفلام تسجيلية تحاكي الواقع السوري، من بينهم أسماء حصلت على جوائز في مهرجانات عالمية، كان الهدف إعداد تحقيق موسع عن هذا النمط السينمائي الذي عاصر الثورة، ورؤية المشاركين للتمويل المفرط من قبل المنظمات الداعمة، لكن المشروع فشل بسبب عدم تجاوب الأسماء المختارة مع الأسئلة.
كان الهدف من التحقيق التركيز على الأسباب التي جعلت المنظمات المانحة تدعم السينما التسجيلية، وابتعادها عن دعم الأسماء القديمة إلى جانب الجديدة، ما مصير هذا النمط السينمائي، ومدى تأثير التمويل المقدم على هذه السينما فنيًا.
معظم الأسماء الفنية التي حاولت الانخراط في مجال العمل السينمائي وجدت نفسها أمام معضلة الكلفة المادية، وهذا يندرج في إطار تأسيس عدد كبير من المخرجين الأوروبيين لما يعرف بـ”السينما المستقلة”، كأعمال الدنماركي لارس فون ترير، وهو ما لا يتناسب مع توجهات الذين أرادوا العمل على أفلام تسجيلية بسبب غياب الدعم المالي.
وساعد محدودية التمويل، وغياب المعدات المطلوبة في العمل على إنتاج قصص متكررة باختلاف الزمان والمكان، وكانت معظم اللقطات أقرب لتقارير إخبارية، وفي أحيان كثيرة تظهر أفعال الأشخاص مصطنعة. كما لمس ندرة في الأعمال المدرجة تحت تصنيف “ديكو – دراما”، كونها تحتاج تمويلًا كبيرًا لا يحصل عليه بالسهل، وربما لذلك لم تستطع أن تقدم السينما التسجيلية نمطًا جديدًا، هي حتى اليوم لم تصل بعد للفيلم الحدث، أو المؤثر على القضية السورية المعقدة، وليس نافلاً القول إنها لا تزال في مراحلها التجريبية الأولى.
ومن المعروف أن أي عمل سينمائي يحتاج نصًا مكتوبًا مهما اختلفت أشكاله، في الأعمال التي أنتجت خلال الثورة تتشابه كافة القصص المصورة، ويلاحظ ذلك بسبب الاتجاه السائد للجهات المانحة، التي تركز أكثر على بنود محددة تتناسب مع السياسة الدولية، وتنصب في دعم قضايا حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، الجملة الأخيرة منسوبة للمنظمات عينها.
خلال السنوات الفائتة اعتبر المخرجون الشباب السوريون أن السينما التسجيلية هي الرائجة، وهذا حق طبيعي لا ينقص من قيمة أعمالهم، أو حتى يجعلنا نتفاداها، وللحقيقة لا تزال الأصوات الشابة في مراحل التجريب الأولى من كافة الجوانب الإبداعية. ولذلك بعد أكثر من خمس سنوات من هذا الكم الهائل للسينما التسجيلية نحتاج لإعادة قراءة هذا المنتج من ناحية نقدية، مثل باقي المنتجات الثقافية الأخرى.
وأول الأعمال التي تحتاج لهذا القراءة هي الأفلام الحاصلة على جوائز في مهرجانات عالمية، لأن غالبيتها مُنح الجائزة لتكون بمثابة تطهير للذات السياسية الغربية، أي أنها تُدرج في إطار التعاطف مع قضية السوريين التي باتت تؤرق العالم الدولي، وتبيّن للجمهور المحلي أنهم يناصرون الشعوب المقهورة، ومن المعروف أن جمهور السينما التسجيلية محدود، عكس الروائية التي تملك مشاهدين متنوعي الأنماط، وهو ما يمكن أن يؤثر إيجابًا على الرأي العام من ناحية المساعدة المقدمة للسوريين.
الاستغلال كان أكثر وضوحًا في مفاوضات المخرجين الغربيين مع سوريين لتصوير رحلة لجوئهم للدول الغربية، وتصبح المقتلة السورية موازياً للهجرة عبر البحار السبعة، سلعة مطلوبة في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهذا شيء واضح للجميع، وتحول لأمر واقعي، إذ أن المقاطع المنتشرة عبر موقع “يوتيوب” تجعلك تنتج سلسلة مئوية عما حدث في سوريا، تفوق ما أنتجته قناة “الجزيرة” في عمل “حرب لبنان”، بسبب وفرة المخزون التوثيقي على المواقع الإلكترونية والمدونات الشخصية.
وهنا نصل للسؤال الأهم: ماذا قدمت السينما التسجيلية خلال هذه الأعوام غير أنها تم استثمارها من قبل المنظمات الداعمة؟ كتلة من الأموال ذهبت لإنتاج أعمال هي، في نسبة كبيرة منها، لا تتعدى كونها أرشيفاً، مصوراً لتقرير إخباري يمكن عرضه على إحدى القنوات الفضائية.
ما معنى اليوم أن تدرج مقطعاً لبرميل يسقط فوق رؤوس المدنيين بعد كل هذا الدمار، أو إظهار قوات النظام وهي تعذب أحد الشبان، فيما تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن مجازر جماعية واستخدام لأسلحة محرمة دولياً. توجد أسئلة بحاجة لأجوبة حول مدلول هذه الأعمال الوثائقية التي لم يخشَ منها النظام السوري، مثلما خاف عندما أطلق عمر أميرلاي “طوفان في بلاد البعث”.
لسنا بحاجة للتذكير بأن هذه الأعمال ستكون في المستقبل أرشيفاً للباحث المستشرق في تاريخنا المعاصر، كما لمراكز الأبحاث الحديثة، لكن علينا أن نعيد قراءة هذا المنتج، والتفكير أكثر في جعله ليس فنيًا فقط، بل قصة تسجيلية حقيقية، حتى لو تأخرنا بضع سنين أخرى، لا ضير في ذلك طالما أن السبب جعل الآخر يستمع لقصتنا مثلما نريد نحن لا مثلما تريد الجهات الدولية الداعمة.