يستأنف كتاب “مفهمة فلسطين الحديثة: نماذج من المعرفة التحررية (٢)” الصادر حديثًا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالتعاون مع جامعة بيرزيت، جهوده البحثية والمعرفية لـ”مفهمة فلسطين: هوية وقضية” التي بدأت بصدور الجزء الأول من هذا المنجز المعرفي في العام 2021، والذي تناول عناصر الأرض، الناس، والحكاية، بينما يركز الجزء الثاني على عناصر المخيال، الميدان، والثقافة، وهو من كتابة ثمانية باحثين وباحثات، بالإضافة إلى بحث تاسع أنجزه محرر الكتاب عبد الرحيم الشيخ.
فلسطين المخيالية
تتبّع عروبة عثمان في الدراسة الأولى “معاداة السامية ونسختها المعاصرة: اليهودي عدوًا لفلسطين الصهيونية” تمثّلات “فلسطين الصهيونية” باعتبارها شكلًا من أشكال معاداة السامية، منطلقة من سؤال رئيسي يبحث في كيفية تشكيل “فلسطين الصهيونية” حاضنة مركزية للطروحات المعادية للسامية عبر ثلاث مستويات صهيونية، تلخصها بـ”الفكرة الأيديولوجية، والإنتاج الثقافي الطوباوي، والممارسة الفعلية على الأرض”؛ وهي محاولة بحثية تطمح لإعادة “كتابة فلسطين الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها الفلسطينيين على أساس المنافحة عن مبدأ تحرير اليهودية وتجربة الاضطهاد اليهودي من قبضة اليهودية”، إذ تبحث هذه الدراسة في تاريخ تشكّل معاداة السامية والصهيونية الغربيتين من خلال تحليلها لأوجه السامية وتمثّلاتها في كتابات المنظر الصهيوني ماكس نورداو.
كما تقف الدراسة عند طوباوية الأيديولوجيا اللاسامية في رواية “صورة المستقبل” للكاتب مناحم إدموند أيزليز، قبل الانتقال للحديث عن الأيديولوجيا الصهيونية لمعادة السامية المعاصرة عبر إظهار عوامل تشكّلها وعواقبها على كل من الصهيونية والمسألتين اليهودية والفلسطينية، ومن ثم مناقشة طروحات حنة أرندت، جوديث بتلر، بشير بشير، وعاموس غولدبرغ “المتعلقة بالأخلاقيات اليهودية و”أخلاقيات الاضطراب” المنخرطة في نقد عنف الدولة الصهيونية وتمثّلها في الصورة التاريخية للمضطهِدين”؛ إذ تبني هذه الدراسة خطًا زمنيًا متواصلًا ما بين 1882، تاريخ صدور رواية أيزليز، وصولًا إلى يومنا الراهن الذي يشهد النسخة الأكثر حداثة عن معاداة السامية من أوروبا إلى “فلسطين الصهيونية والفلسطينية”.
وتقدم نتالي سلامة في دراستها “فلسطين كمقاربة أخلاقية بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية” كشفًا عن الصور المتناقضة لفلسطين في المخيال المسيحي، وهو كشف يقارن بين المفهمة العالمية لفلسطين المتمثّلة بخطاب المسيحية الغربية المتمركزة في أوروبا من جهة، والمفهمة المسيحية الشرقية المتمركزة عربيًا في الخطاب الوطني المسيحي الفلسطيني من جهة أخرى؛ وعلى هذا الأساس تتناول الدراسة مفهمة فلسطين كمكان جغرافي اصطدمت فيه المسيحية الاستعمارية الغربية بالمسيحية الفلسطينية الأصلانية “بصفتها صاحبة الأرض ووجهة الرسالة”، وتنتقل بعدها لدراسة الخطاب اللاهوتي الفلسطيني كخطاب مضاد “للمسيحية الاستعمارية والمسيحية الصهيونية”.
تخصص سلامة في نهاية دراستها حيزًا لـ”وثيقة وقفة حق كاريوس من أجل فلسطين” التي صدرت في عام 2009، باعتبارها من “أبرز تجليات التضاد بين المسيحية الغربية المُصهينة والمسيحية الشرقية التحررية”؛ إذ تسعى هذه الدراسة إلى طرح إطار “لمفهمة فلسطين كحالة مفارقة، كون فلسطين، كمكان جغرافي، قد التقت فيها وعلى نحو تصادمي المسيحية الاستعمارية الغربية بالمسيحية الشرقية”، موضحة أنه فيما دعمت المسيحية الغربية قيام الاستعمار الاستيطاني بتبنيها مزاعم يهود العالم بفلسطين على أساس “الوعد الإبراهيمي”، فإن هذا الوعد من منظور المسيحيين الفلسطينيين لم يكن سوى “غزو صهيوني سرق أرضهم، وطرد شعبهم، وقطع مسار تطور هويتهم الوطنية والقومية”.
ويستعرض محمد الشربيني في دراسته “فلسطين في المخيال الإسلامي” مكانة فلسطين في المخيال الديني الإسلامي انطلاقًا من النصوص الدينية المؤسسة لهذه المكانة بمقارنتها بالتجربة التاريخية والخطاب السياسي، فضلًا عن تحليله لمحطات فارقة في تاريخ فلسطين منذ “العهدة” العمرية حتى اللحظة الراهنة، مشددًا على أنه “لا يمكن النظر إلى الإسلام بالاعتبار الوطني المحلي منفصلًا عن بعده العربي الذي يشكل فيه الإسلام الأغلبية الرسمية، وعمقه الدولي، إذ إن معظم المسلمين من غير العرب”.
من هنا، فإن هذه الدراسة تناقش المكانة الدينية لفلسطين من خلال “النصوص التوفيقية” التي كانت محض فكرة في صدر الإسلام إلى أن قامت الجيوش العربية في فترة حكم الخليفة عمر بن الخطاب (634 – 644) بحركة توسعية شملت السيطرة على فلسطين، والذي نتج عنها أن أصبحت فلسطين “ملكًا للمسلمين كافة”، وبعدها تنتقل الدراسة لمناقشة مكانة فلسطين في الحقب التاريخية المتتالية منذ ضمها إلى الحكم الإسلامي سنة 638 حتى لحظتنا الراهنة، ثم تتطرق في النهاية لمناقشة موقف التيارات الإسلامية المركزية من القضية الفلسطينية، والتي تتمثل بـ”اتجاهات الإيقاف واتجاهات الفعل” حيال تحرير فلسطين.
فلسطين الميدانية
يقدم عبد الرحيم الشيخ في دراسته “التضامن مع فلسطين: الأسود، والأبيض، والرمادي” قراءة للتاريخ النضالي لجامعة بيرزيت – التي يرجع تاريخ تأسيسها إلى عام 1924 – باعتبارها “نموذجًا مصغرًا لنضال حركة التحرر الوطني الفلسطيني ضد الحركة الصهيونية ودولة الاستعمار الاستيطاني (إسرائيل)”، متتبعًا بين الرصد والأرشيفي والإنثوغرافي كتابة تاريخ التضامن مع فلسطين بالتركيز على مبادرات المثقفين اليهود، سواء أكانوا إسرائيليين أو غير إسرائيليين، ممن استلهموا معنى التضامن من كتابات أملكار كبرال، ألبير كامو، وحنة أرندنت (الأسود، الأبيض، والرمادي)، على امتداد ثلاث لحظات تاريخية يحددها ما بين عامي 1967 – 2023.
وهو في هذا الشأن يزاوج “بين التحقب التاريخي للأحداث والتأطير الفكري لسياقاتها”، في ظل مساعي قراءة آثار التحولات الدائمة في الخطاب السياسي الفلسطيني “من “التحرير” إلى “الدولانية” وعودة “الحقوق” إلى مسار أنماط التضامن مع فلسطين، ولا سيما في حالة المثقفين اليهود”، وهو إذ يؤكد على إن الدراسة “ليست سجلًا تاريخيًا، ولا لائحة تصنيفية للبوصلة الأخلاقية لهؤلاء المثقفين”، فإنه يشير إلى أنها محاولة لتدشين “مرجعية أصلانية غير استشراقية وغير مُصهينة لمعاني التضامن اليهودي مع فلسطين” على امتداد ثلاث مراحل تاريخية، يحددها بـ: سنوات اللامبالاة 1967 – 1980، سنوات العطف 1981 – 1993، وسنوات التعاطف 1993 – 2023.
ويركّز بلال محمد شلش في دراسته “التقوا في الأسر: مقاتلو الأرض المحتلة (حزيران/يونيو 1967 – أيلول/سبتمبر 1970)”على مناقشة المقاومة المسلحة التي انطلقت بدماء قديمة/جديدة ما بين عامي (1967 – 1970)، و”تجلى أثرها في أكثر من بقعة من فلسطين الواحدة الأسيرة، من دون تمييز أو استثناء”، مستنداً في ذلك على تجربة انطلقت من منطقة نابلس خلال الأعوام عينها، بتقديمه قراءة تجسد فلسطين الواحدة عمليًا بعد حزيران (يونيو) 1967 في تجربة المقاومة الفلسطينية المسلحة، عبر توثيق بعض جوانب هذه التجربة “المتأثرة بسياقات محلية وعالمية متعددة، والمولّدة للمقاومة اليومية والمتفاعلة معها”.
تبعًا لذلك، فإن شلش يعمل في دراسته على توثيقها “توثيقًا مجهريًا انطلق “من أسفل” لغرض تجاوز التغييب والمحو الذي واجهته هذه التجربة وآثارها لأسباب متعددة”، متتبعًا في هذه الرحلة التوثيقية تجربة حركة القوميين العرب/الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي اتخذت من نابلس مركزًا لها، وما مثلته من استمرار لمسيرة التنظيمات الفلسطينية المسلحة، وأثر الحرب في وحدة مقاتلي فلسطين “الأسيرة”، ثم ينتقل إلى توثيق لحظة ثانية يصفها بأنها استمرار لهذه التجربة بعد محاولة المنظومة الأمنية الإسرائيلية القضاء عليها، أو “قطعها”، غير أنها أكدت أن “وحدة مقاتلي فلسطين “الأسيرة” لم تقتصر على اللحظة الأولى لاجتماع كل فلسطين في الأسر”.
وتتبّع ياسمين قعدان في دراستها “نفاذية المقاومة: تحوّلات المشروع التحرري الفلسطيني بعد انتفاضة الأقصى (2000)” أزمة عدم تحقق مشروع التحرر الوطني في فلسطين، وخصوصًا بعد انتفاضة الأقصى في عام 2000، مقدمة قراءة لظاهرة العمليات الفردية ضد الاستعمار الصهيوني، والمنظومة الخطابية التي شوّهت معاني العنف الثوري في معركة التحرر من الاستعمار، حيثُ ترى أن الإشكالية المركزية تكمن في “كون عملية تجريم العنف وإسقاط “إرهابيته” على الفلسطيني وحده، وفي المقابل يستشري الاستعمار الصهيوني في ترسيخ بنية العنف لديه على الأجساد والأزمنة والأمكنة الفلسطينية”.
تبني قعدان دراستها على أربعة محاور متصلة، تبدأ بـ”التأطير الاجتماعي للمنظومة الخطابية المجرّمة للعنف الثوري”، ثم تنتقل إلى إيضاح “بنية العنف الاستعمارية التي تتيح في الوقت توسيع مسامات نفاذية المقاومة”، وبعدها تقدم رصدًا لـ”لحظات التدفق عبر رؤية العنف الثوري في شكل العمليات الفردية”، وفي النهاية تتبّع “الرد الاستعماري على هذه العمليات على نحو يعيد إنتاج الفشل الاستعماري نفسه في أسر الرغبة في مقاومته المتدفقة”.
فلسطين الثقافية
تطرح رولا سرحان في دراستها “الذاكرة السوية في فلسطين (1908 – 2008)” شكلًا تأسيسيًا لمفهوم “الذاكرة السوية” باعتباره شكلًا من أشكال الذاكرة الجمعية، والذي “يتجلى حضوره في السياقات الاستعمارية، كما في السياقات السياسية القمعية”، وهي بذلك تبحث من خلال الحيز الذي يتحرك من خلاله الفاعلون الاجتماعيون في تشكيل ذاكرتهم، ويشكل الإعلام أحد روافده؛ إذ تعالج هذه الدراسة “الذاكرة السوية” مفاهيميًا، بالاستناد إلى خصائصها الأساسية الخمسة، ممثّلةبـ: ذاكرة الآن هنا، ذاكرة تؤسس للذاكرة المستقبلية، ذاكرة متوسطية بخطاب نقدي، ذاكرة تتموضع فيها النكبة كحد ملازم لكنه قابل للتخطي، وذاكرة تتسم بالسيولة والتجدد.
وعليه، تحاول سرحان في هذه الدراسة تقديم “الذاكرة السوية” كـ”نموذج ذاكراتي يتخلّق ذاتيًا في المراحل التي تشكل تحديًا وجوديًا للتجربة الفلسطينية، باعتبار أنها ضرورة لاستمرار الفلسطيني قادرًا على تعريف ذاته”، إضافة إلى بحثها في المساحة التي يجتمع فيها الإعلام بالذاكرة، والإعلام بالتاريخ، باعتبار “أن كلًا من الذاكرة والتاريخ يشكل مفاعيل أساسية في إعادة إنتاج الجماعات لنفسها وكجماعات متخيّلة”، وذلك في محاولة الإجابة عن أسئلة متعددة تندرج في سياقات الذاكرة السوية، وتدور حول ما الذي تعنيه نظريًا؟ وما هي علاقتها بالذاكرة الجمعية؟ وما هي أبرز سماتها؟، ومن ثم تنتقل للبحث في سؤال العلاقة التي تجمع الإعلام بالذاكرة السوية، وكيفية تشكّل نمط محدد من الإعلام “حيزًا مساربيًا” لعمل الذاكرة السوية.
وتبحث سهيلة عبد اللطيف في دراستها “تمثّلات الهوية في السرد القصصي الفلسطيني خلال الحكم العسكري (الإسرائيلي)” تمثّلات الهوية في السرد القصصي الفلسطيني الذي أنتج في الداخل الفلسطيني المحتل خلال فترة الحكم العسكري الإسرائيلي، أو ذلك الذي تناول فترة الحكم العسكري إطارًا لأحداثه. وهي في ذلك، تختار كنموذج للتحليل الأعمال الروائية “المتسلِّل” و”حيفا في المعركة” و”بتهون” للروائي توفيق معمّر، إلى جانب روايات “بوابة مندلباوم” و”حين سَعِدَ مسعود بابن عمه” و”الوقائع الغريبة في اختيار سعيد أبي النحس المتشائل” للروائي إميل حبيبي، من خلال التركيز على كيفية تصوير كل منهما لـ”تعامل فلسطينيي الداخل المحتل مع هويتهم في فترة الحكم العسكري”،
وتشير عبد اللطيف إلى أن ما تريده من هذه الدراسة يبرز في الإضاءة على “اهتمامات القراء في مجالات تقاطع علم الاجتماع والتاريخ والسياسة والأدب المهتمين بحركة تطور الهوية الفلسطينية بصورة عامة، وتطورها في فترة الحكم العسكري “الإسرائيلي” بصورة خاصة”، وهو كذلك، يتقاطع مع أعمال الباحثين في “مجال الثقافة والهوية الفلسطينية وتعبيراتها في الأدب”، عبر تزويد القراء بتحليل نماذج سردية لانعكاسات الهوية في الأدب الفلسطيني في الداخل المحتل خلال فترة الحكم العسكري، والتباينات في التعامل مع الهوية بين الأدباء التي قد تصل أحيانًا إلى حد التناقض.
وتحاول منتهى عابد في الدراسة الأخيرة “الجسد الفلسطيني المثلي: بين الاستعمار والاستشراق” تأطير أهم المراحل التي تخللت إنتاج معرفة كويرية منهجية فلسطينية بتسليطها الضوء على عمل مؤسسة “القوس”، وتفنيد السجالات العالمية والإسرائيلية التي تعرقل توطين الهوية الجنسية في السياق الفلسطيني، وذلك من خلال التركيز على “استحداث مقارنة بين المنهجية المعتمدة لنزع الصورة الاستشراقية والاستعمارية عن الشخصية الكويرية الفلسطينية من خلال نزع الهيمنة الغربية، في مقابل المنهجية المعتمدة لدمج الهويتين الوطنية والمثلية تحت إطار لا صهيوني”.
وهي بذلك تذهب إلى البحث في معاناة النساء والأجساد اللامعيارية مع أساليب العنف المتعددة التي تستهدف الجسد الفلسطيني “صهيونيًا وفلسطينيًا” وتتم “إزاحتها خارج مشروع النضال التحرري الفلسطيني بصفتها أجسادًا مهمشة لا تندرج ضمن خطاب التحرر الوطني”، فضلًا عن تقصي التغيرات في منهجية المنظمات الكويرية ابتداءًا من اتفاقية أوسلو (1993) وصولًا إلى تأسيس جمعية “القوس” (2001)، وانفصالها لاحقًا، وبشكل كلي، عن السياق المثلي الإسرائيلي في عام 2007، وتبعات حراكها في الوقت الحالي بما يتضمن التغيرات التي طرأت حتى عام 2020، عبر التركيز المكاني الذي يقارن بين الضفة الغربية وشرقي القدس في مقابل تل أبيب “باعتبارهما السياقين المتقارعين والمستهدِفَين للجسد المثلي الفلسطيني”.
نهاية، يمكن القول إن أكثر ما يميز هذه الرحلة البحثية–المعرفية–التحريرية التي بدأت كمشروع أكاديمي متعدد التخصصات في عام 2020، هو محاولة الباحثين والباحثات طرح نماذج من المعرفة التحررية التي من شأنها لا الإضاءة على مكوّنات العنوان فقط، بل المساهمة أيضًا في حدّها مفهوميًا ومنهجيًا، على الطريق الطويلة لمفهمة فلسطين الحديثة.