غالباً ما يتصدّر الطبيب الفلسطيني المختص في الجراحة التجميلية والترميم، غسان أبو ستّة، عناوين الصحف الغربية قبل العربية عند كل عدوان جديد يشنه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ العام 2008، ذلك أن أبو ستّة، أستاذ طب النزاعات في الجامعة الأميركية في بيروت، اعتاد أن يكون من أوائل الأطباء الواصلين إلى مستشفيات القطاع للمساعدة في عمليات الإسعاف والعلاج للجرحى المصابين في الحروب المتلاحقة على هذه البقعة الجغرافية التي وصفتها صحيفة “لوموند” الفرنسية بأنها “أكبر سجن مفتوح في العالم”.
الحروب المتكررة لجيش الاحتلال تجاه قطاع غزة، أكثر من ستة حروب منذ عام 2008، أكسبت أبو ستّة خبرة ليس على المستوى الطبي فقط، بل امتدت إلى المستوى السياسي، وهو ما نكتشفه بالفعل من قراءتنا لحواره المشترك مع الصحفي الفلسطيني ميشال نوفل الصادر بعنوان “سرديّة الجرح الفلسطيني… تحليل للسياسة الحيوية الإسرائيلية” عن منشورات رياض الريس (2020)، والذي يفتتحه الثنائي بإطار نظري يقرأ استخدام الاحتلال الإسرائيلي لنظرية السياسة الحيوية التي ابتكرها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984).
إطار نظري لفهم سياسة الاحتلال تجاه قطاع غزة
تخلص تطبيقات السياسة الحيوية في المستعمرات في نهاية المطاف إلى إفراغ الأراضي المطلوب السيطرة عليها من سكانها الأصليين أو احتلالها تمهيداً للاستيطان، سواء أكان ذلك عبر الإبادة الجسدية أو بالهيمنة عليها عبر كثافة إمدادها بالمهاجرين القادمين من أوروبا، ويمكننا العودة في هذا الشأن إلى تاريخ السكان الأصليين في الولايات المتحدة، على سبيل المثال لا الحصر. أما فيما يخص الحالة الفلسطينية فإن الاحتلال الإسرائيلي لجأ إلى سياسة “التطهير العرقي الذي يصل إلى حد الإبادة الجسدية”، حيثُ تمكن من “تفريغ فلسطين المحتلة عام 1948 من حيوتها البشرية وطاقتها السكانية، وتحويل السكان العرب الأصليين فيها إلى كتلة هامشية”.
يستعيد الثنائي في هذه المقدمة تصريح سابق لرئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، نشر في صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية قبل 20 عاماً، يقول نصه: “إذا صار العرب يشكلون 40% من السكان، فإن هذا سيكون نهاية الدولة اليهودية (…) لكن نسبة 20% هي أيضاً مشكلة، وإذا صارت العلاقة بهؤلاء الـ20% إشكالية، فإن للدولة الحق في اللجوء إلى إجراءات متطرفة”، والحقيقة هو ما يحصل في حرب الاحتلال الأخيرة تجاه قطاع غزة. إذ إنه على الرغم من نشر الكتاب قبل ثلاث سنوات منذ الآن، إلا إن أبو ستّة ونوفل يوضحان في هذه المقدمة أن السياسات الحيوية التي تطبقها إسرائيل على قطاع غزة تهدف إلى “تحويل الفلسطينيين في غزة إلى مجرد “أزمة إنسانية” أو وجود ديموغرافي من دون حقوق سياسية واقتصادية”.
ما بين التزامين.. الطب في حقل النزاعات والسياسة
يسرد أبو ستّة في الفصل الأول “طبيب في حقل النزاعات” جانباً من سيرته الشخصية التي أفضت في النهاية إلى أن يكون طبيباً في حقل النزاعات، وهي تبدو سيرة استثنائية لتلازم المسارين الطبي والسياسي فيها. فهو ينتمي إلى عائلة دائمة الالتزام السياسي، ومنها انتقل إلى الالتزام الطبي نتيجة لإصرار والده على أنه في حال اختياره للطب فإنه يجب أن يكون مميزاً في هذا الاختصاص، ومن هنا كان له التخرج من جامعة غلاسكو في بريطانيا في عام 1994، ليتحول بعدها إلى طبيب نزاعات جعلته يعمل جراحاً ليس في حروب فلسطين فقط، بل امتدت إلى حروب جنوب لبنان وسوريا والعراق، وكذلك كان لخبرته الميدانية دور في وضعه ضمن الطاقم الطبي الذي ساعد في علاج مصابي تفجير مترو الأنفاق في لندن في تموز (يوليو) 2005.
يتحدث أبو ستّة في هذا الفصل عن ترابط المسارين الطبي والسياسي معاً، والذي بدأ عندما زار قطاع غزة لأول مرة في 1990، هذه التجربة جعلته يصل إلى فكرة أن “الطب يجعلك في النهاية تصل إلى حياة الناس الخاصة مباشرة”، إذ إنه كان لهذه الفترة دور في بدء بلورة الربط بين المسارين الطبي والسياسي معاً. يشير أبو ستّة إلى أن حرب 2008 على قطاع غزة، كانت الحرب الأولى له بمعنى أنه أصبح “معرضاً للخطر مثل المرضى”، قبل أن يدخل المرحلة الثالثة من حياته المهنية بانتقاله إلى بيروت للتدريس في الجامعة الأميركية، والتي أتاحت له استغلال هذه الفترة “من ناحية استقبال المرضى لفهم أبعاد الجرح كافة: الجرح الجسدي وترميمه، إعادة شكله ووظيفته، وكذلك أبعاد الجرح المجتمعية والنفسية”.
أنماط الحروب على غزة
يقرأ أبو ستّة في الفصل الثاني “حرب للإبادة السياسية أولاً” الحروب المتعاقبة على غزة منذ عام 2008 من أنواع الإصابات التي كانت تصل إلى المستشفيات في كل حرب، وهو ما سمح له بتحديد نمط كل حرب على حدا، وكذلك أهدافها، من خلال أنواع الأسلحة المستخدمة، فضلاً عن نسبة استهداف الأطفال وتدمير المنظومة الصحية. فقد تبيّن له – على سبيل المثال لا الحصر – من تحليل أحداث حرب 2008 أن “فكرة ضرب غزة من دون إيقاع عدد هائل من الإصابات، ليست غير واقعية فحسب، بل غير صادقة أيضاً”، ولاحقاً توصّل إلى أن جيش الاحتلال استخدم فيها “نوعاً جديداً من الفوسفور الذي استخدم سابقاً في “تنظيف السراديب” والخنادق”، أما في حرب عام 2014 فقد استخدم جيش الاحتلال لأول مرة الطائرات المسيّرة المحمّلة بـ10 قنابل غاز.
في هذا المنحى، يتصوّر أبو ستة أن الاحتلال الإسرائيلي يريد في حروبه المتعاقبة على غزة تحقيق ثلاثة أهداف، أولها “السياسي – العسكري”، وثانيها “تسويقي، لكون إسرائيل في كل حرب تُظهر لسوق السلاح الدولية نوعاً جديداً تريد تسويقه”، وأخيراً الهدف الثالث المتمثل بـ”المساهمة في عملية البحث والتطوير التي تجري في حقل الصناعة الحربية”. ويرى أبو ستّة في النهاية أن الحالة الديناميكية لقطاع غزة تجعله يقول: “إن حرب الـ48 الإسرائيلية لا تزال مستمرة”، إذ تشير كل المعطيات إلى أن “الإسرائيلي لم ينتهِ من النكبة، بل على العكس، إنه يطور النكبة مع التطور الديموغرافي، وسيواصل هذا الاتجاه ما دام متمسكاً برؤيته للنصر الكامل، ولا يمكنه تخيّل إمكانية النصر الجزئي”.
سردية الجرح… سردية الحرب
يرى أبو ستّة في الفصل الثالث “القيمة السياسية لجروح الحرب” أن ما يميز إصابات الحرب عن كل الإصابات الأخرى هو اختزان سرديتها التي يحملها الجريح طوال عمره، إذ إنه “في لحظة تلقي الإصابة، يزرع السلاح في الجسد رواية تلازم جرحى الحرب طوال حياتهم، فتحمل رواية الجرح بداخلها رواية الحرب نفسها”، وهي أيضاً “القيمة الفائضة التي تتغيّر مع تحوّل المشاريع السياسية للنخب الحاكمة أو تبدّل هذه النخب”، بمعنى أنه تتغيّر القيمة السياسية للجرح على مدى حياة المصاب، وتبعاً لتغيّر مآل المشاريع السياسية والنخبة التي قادتها، وبالتالي “تصبح هذه القيمة السياسية المعيار الرئيسي الذي يحدد توافر الرعاية الصحية للمريض”، من هذا المنطلق وجد أبو ستّة نفسه في مواجهة سياقات عديدة تبرز حالة التوتر بين القيمة السياسية لإصابات الحرب من جانب، ومن جانب آخر قدرة المرضى في الحصول على الرعاية الصحية.
فقد أظهرت حالة التوتر “كيف تتغيّر القيمة السياسية للإصابات بمرور الوقت وتعدد النزاعات على مدار التاريخ الفلسطيني المعاصر”، وبينما تكون الآثار الصحية الناجمة عن إصابات الحرب مرافقة للمريض على مدى حياته، ما يلزمها رعاية صحية مع تقدّم السنوات، فإن القيمة السياسية للجروح تكون معقّدة “ذلك أن غالبية المصابين يعيشون أطول من النخب المسيطرة والمشاريع السياسية التي تمنح جروحهم القيمة السياسية الرفيعة”، وهو ما يقوده إلى طرح سؤال يبرز حجم هذا التوتر بين كلا الجانبين، يقوم على أن “أليست تداعيات جروح الانتفاضة أطول من زعامة ياسر عرفات وإسحاق رابين؟”.
حل الدولتين والطريق المسدود
يبرز في الفصل الرابع “النُخب والسلطة والاحتلال” المسار السياسي من سيرة أبو ستّة، فهو يلخص الأزمة الفلسطينية بأنها تتراوح ما بين الاستيطان الإسرائيلي الآخذ في التوسّع وسياسات التمييز العنصري من جهة، ومن جهة أخرى الانقسام بين سلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فالأزمة قائمة في وقت واحد بين مؤيدي اتفاق أوسلو ومعارضيه، ووفقاً لأبو ستّة فإن سياسات التوسّع الاستطياني التي حصلت ما بين عامي 2018 – 2019 تؤكد “أن الحركة الصهيونية ومشروعها قد تمكنا من “عبور جسر أوسلو” فصارت عملية أوسلو خلفهما”، هكذا يجد أن طبقة أوسلو، بممثلها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ليس لديها القدرة على إدراك أن دورها الوظيفي لـ”جسر أوسلو” قد انتهى، في مقابل عدم قدرة معارضي الاتفاق على استيعاب فشل إجهاضهم له.
وهنا يستغرب أبو ستّة كيف استطاعت الحركة الصهيونية استهلاك “عملية أوسلو ولم تعد بحاجة إليها”، بينما ما تزال السلطة الفلسطينية تحاول الحفاظ على مسار أوسلو ما أدى إلى “أزمة وجودية” في الخطاب الفلسطيني، فقد تمكن اتفاق أوسلو من خلق “طبقة مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالاحتلال، اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، وهي تدافع عنه بشراسة تضاهي شراسة الاحتلال لكونها لا ترى وجوداً خارج علاقتها بالاحتلال”، وتقدم الانتفاضة الثانية (2000 – 2005) برهاناً على ذلك، وفقاً لما يرى أبو ستّة، بعدما تعاونت “طبقة أوسلو” مع الاحتلال على “إجهاض الانتفاضة التي كانت تهدف إلى إنهاء الدور الوظيفي لطبقة أوسلو”,
الطبابة لشرعنة السلطة
يقدم أبو ستّة في الفصل الخامس والأخير “النظام الصحي والسياسة الحيوية” تحليلاً لنظام الرعاية الفلسطيني، فهو يجد أن الصحة في الثقافة السياسية الفلسطينية كانت تحتل مكانة متقدمة على دول في أفريقيا وأميركا اللاتينية، ويحيل ذلك إلى ما يصفه بـ”الحدس السياسي” لياسر عرفات (1929 – 2004) عندما اهتم بنقل جرحى الانتفاضة إلى مصر والأردن، بالنظر إلى أن “علاج الجرحى كان جزءاً من عملية الضغط السياسي عليهما، لأنه في النهاية عندما يُحضر لك مصاب جراء مقاومة الانتفاضة، فإنه سيحمل معه إلى القاهرة أو عمان سردية الانتفاضة”، وقد استمر هذا التقليد مع الانتفاضة الثانية، لكنه انتهى مع وفاة عرفات.
في الوقت الراهن ينظر أبو ستّة إلى تعقيدات القطاع الصحي الفلسطيني في مرحلة ما بعد أوسلو، فهو يرى كيف اكتشف الإسرائيليون في قطاع غزة أن “إصابة الجسد الفلسطيني هي التي تحول الفلسطيني إلى أداة منتجة”، بما في ذلك ترويجها للأسلحة الجديدة، وإدارتها لأعمال الإغاثة، و”على هذا النحو تجري عملية إعادة إنتاج الجسد، باعتباره موجوداً كقيمة إضافية”، أما في الضفة الغربية فقد استفاد الاحتلال من ربط المجتمع الفلسطيني كلياً باقتصاده، ما يجعله متحكماً بمفاصل حياة الفلسطينيين “الأمر الذي يجعل الوضع الصحي من المفاتيح الجديدة بيد إسرائيل للتحكم بمصير الشعب الفلسطيني”.
يقدم هذا الحوار نظرة خاصة على السيرة الشخصية والمهنية للطبيب غسان أبو ستّة، فهو إذ يتتبّع في البداية أول عمل ميداني له في غزة في عام 1990، عندما كان عضواً في “جمعية العون الطبي للفلسطينيين”، والتي قادته لاكتشاف أن العمل الطبي أداة ناجحة لتعبئة وتنظيم المجتمع سياسياً، فإنه يتحوّل في الفصول اللاحقة إلى الربط بين المسارين الطبي والسياسي، وعدم انفصلاهما عن بعضهما البعض خلال السنوات اللاحقة، ما يجعله يقدم قرائته الخاصة لحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، بالإضافة إلى أزمة النظام السياسي الفلسطيني، وتشوّهات القطاع الصحي الفلسطيني.