البيتُ مرادفٌ بصريّ للإنسان، فهو كائنٌ بملامح وتفاصيل وذاكرة، وهو النسخة المصغّرة عن الوطن الكبير، إذ به، وله ولمن فيه، يبدأ الفردُ بتكوين مشاعر الانتماء، وهو إحالةٌ إلى التجذّر والثبات، في المقابل، يختزل الاقتلاع دلالات حول اللااستقرار والتنقّل المستمرّ والشتات. وعبر هدم البيت والقرية والتهجير من مسقط الرأس، سعى المخطّط الصهيوني إلى تفتيت الكيانيّة الاجتماعية الفلسطينية ما نتج عنه مأساة النكبة وشتات الفلسطينيين في مخيمات اللجوء. ورغم مرور ما يقارب سبعة عقود على النكبة، إلا إن استمرارية التسمية، “المخيم”، التي تُطلق على مكان تجمع الفلسطينيين خارج مكانهم الأصل، سواء داخل الوطن أو خارجه، تؤكد على حالة اللااستقرار واللاتجذّر التي تميز حياة الإنسان ـ والإنسان الجمعيّ الفلسطيني.
“البيت المسلوب” هو المفهوم المركزي الذي يتناوله الفنان محمد أبو سل للبحث البصريّ التجريبيّ والمفاهيميّ وللمعالجة الجمالية في معرضه “راحة الآلام” الذي عُرض مؤخرًا في غزة، وصدر كذلك وخلال الشهر الماضي كتيّب يحتوي صور وتفاصيل أعمال المعرض. سبعة أعمال متعددة الوسائط تشكل في مجموعها تجربة بصريّة مميزة تمثل “إعادةَ إعمارٍ جماليّةٍ” للبيت ــ المكان الغزّي، والذي تعرض لتدميرٍ مُمنهج ومكرّر على مدار ثلاثِ حروب شنّها الكيان الصهيوني خلال أقل من عقدٍ من الزمن على غزة.
لا يعثر الرائي في “راحة الآلام” على التفاصيل المألوفة في لوحات وفنون ما بعد الحرب، والتي تستلهم عناصرها عادة “مما يتبقى” من بعد الدمار: دُمية، حذاء لطفل، بقايا كتاب، حطام إطارٍ وصورة ممزقة، أو غيرها. بل يذهب محمد أبو سل في بحثه بمفهوم البيت المهدّم إلى فكرة إعادة البناء نفسها وعملية البناء التي تصبح في غزة “مهنة مُقدّسة”.
“مهنة مقدّسة” هو الاسم الذي أطلقه الفنان على أحد أعمال المعرض؛ على قاعدة مربعة الشكل ثُبّتت أدوات يدوية من تلك التي يستخدمها عمال البناء، المقبض الخشبي في كل منها تم طلاؤه بالدهان الأبيض، في حين تم طلاء الجزء المعدني منها بالذهب، إذ استخدم الفنان رقائق الذهب “عيار 24” لصنع الطلاء. ورغم أنه من المفترض أن يكثر الطلب على عمّال البناء بعد الحرب نتيجة الحاجة إلى إعادة الإعمار، إلا أن أدواتهم تبقى مخبّأة في صناديقها فهم لا يجدون عملًا في ظل ندرة مواد البناء، وذلك نتيجة الحصار والرقابة التي يفرضها الكيان الصهيوني على دخول هذه المواد؛ كما طُرحت بعد الحرب الأخيرة خطة لإعادة إعمار غزة يمسك بزمامها الممثل الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام روبرت سيري، وقوبلت خطة سيري برفض فلسطيني كامل إذ اعتُبرت إدارة من قبل الأمم المتحدة للحصار على غزة وخضوع للشروط الإسرائيلية، كما أن تطبيقها يجعل عملية إعادة الإعمار تحتاج إلى سنوات طويلة قد تمتد إلى عشرين عامًا.*
يسلتهم الفنان محمد أبو سل عمله “مهنة مقدسة” من الطريقة التي كانت تحفظ بها النساء الفلسطينيات ممتلكاتهنّ من الحليّ والأساور الذهبية، إذ كنّ يخبئنها في قطع من القماش الأبيض ولا يظهرنها إلا في مناسبات خاصة جدًا أو لتزويج الأبناء، وهي تقاليد نسائية يصاحبها إظهار المقدرة والمكانة الاجتماعية للعائلة. وهكذا تأخذ أدوات البناء في معرض “راحة الآلام” معاني القداسة ورفعة المكانة وندرة الظهور إذ هي لا تظهر إلا لمناسبة خاصة وحميميّة هي “بناء البيت”.
يتعزز المعنى الخاص ــ المقدّس لعملية ومواد إعادة الإعمار في عمل آخر بعنوان “حجر 20 النفيس” والذي يمثل إعادة انتاجٍ لحجر البناء، غير أن الحجر (الطوب) يحضر هنا مُرصّعًا بالكريستال الصناعي؛ ففي غزة يُباع حجر البناء بأسعار أعلى من سعره المعروف بسبب عدم توفر الإسمنت لتصنيع حجارة جديدة؛ يستمد حجر البناء في هذا العمل قدسيته ورفعة مكانته من ندرته التي تجعله عزيزًا وبعيدًا عن متناول الناس الذين هم في أمسّ الحاجة إليه.
مرة أخرى، تحضر تعقيدات خطة روبرت سيري في عمل آخر أخذ عنوان الخطة نفسها ويمثل إعادة انتاج للقواعد الإسمنية المستخدمة في بناء البيوت، غير أن هذه القواعد قد اتخذت في العمل شكل أختامٍ دُوّنت عليها حسابات وتقديرات ومعادلات أفرزتها تعقيدات خطة سيري لتصبح محصلة السنوات التي تحتاجها غزة لتنفيد عملية إعادة إعمارها “عشرين عامًا”، ويبدو الرقم 20 واضحًا في الختم/أرضية القاعدة الإسمنية؛ الختم هنا هو المعادل البصريّ لمفاهيم السيطرة والحصار والتصاريح والمنع، إذ تصبح كلّ مقوّمات الحياة والحركة في غزة مرهونة لختم سلطويّ يمثله بالأساس الكيان الصهيوني.
“خيمة لويس فيتو” عمل يحاكي به الفنان الخيام التي وُزعت على النازحين الذين دمرت بيوتهم في الحرب، وهو عبارة عن خيمة للرحلات طُبع عليها بشكل مكرر ما يشبه النقوش المعروفة التي تستخدمها الشركة العالمية “Lousi Vuitton” لتزيين الحقائب الثمينة التي تنتجها، وتحتوي الخيمة داخلها على بساط ووسائد وطبق فاكهة. تصبح الخيمة، والتي لا تصمد أمام تقلّبات الجوّ لأيام قليلة، بالنسبة لمن دُمرت بيوتهم، ثمينةً وذات قيمة عالية كالمنتجات ذات العلامات التجارية الشهيرة، فهي، أي الخيمة، بالنسبة لهم “البيت البديل” الضروري اقتناؤه في مرحلة ما بعد القصف.
تتأكد عملية إعادة الإعمار الجمالية لغزة في “راحة الآلام” من خلال بقية أعمال المعرض: “عرش الإخلاء”؛ كرسيّ شخصي بعجلات قاعدته كتلة إسمنتية أُخدت من بناء تعرض للقصف، بنيانه ومسنده من حديدٍ تبقّى من مخلّفات البيوت بعد التدمير. أما “أريكة رمضان” فهو عمل يمثل أريكة تتسع لجلوس أربعة أشخاص عليها، قاعدتها حزام خرساني أُخذ من ركام منزل عائلة رمضان الذي تعرض للقصف، وهناك أخيرًا عمل بعنوان “حديقة المستهدفين ـ فكّ أحجية الحديد”، والذي يمثل كرسيّيْن وطاولة من الحديد المعاد تدويره بعد القصف، وضعت كلها على بساط من العشب الصناعي.
في غزة، يقوم المقاولون بعد الحرب بتقدير ثمن البيت المقصوف وشرائه، ويتم تحديد سعر الشراء بناءً على ما يحتويه البيت من حديد وحجارة بناء مهدّمة كليًّا أو جزئيًا، ليتم إعادة تصنيع مخلّفات البيت وتدويرها لتدخل في عملية بناء جديدة. وفي المقابل، فإن محمد أبو سل يقدم أعمال معرض “راحة الآلام” متعددة الوسائط لتبدو وكأنها “تقديرَ قيمةٍ جماليّة” للبيت بين مُعطيَيْن هما: الهدم وإعادة البناء، وهو بذلك يخلق مرادفات بصرية لتعقيدات وطيّات عمليتيْ الهدم وإعادة البناء في غزة، أي يقدم فعلًا جماليًا مقابلًا لفعلِ الواقع. وفي مقابل استمرار سياسات البتْر التي تهدف إلى اقتلاعٍ معنويٍّ ونفسيٍّ لجذور الفلسطينيّ عبر الطرد من الأرض وقصف البيوت في غزة، وهدمها أيضًا في القدس والضفة الغربية والداخل المحتل بحجج مثل عدم الترخيص أو كعقاب لأهالي المقاومين، يستمر الإبداع الفلسطيني بمراكمةِ خلقٍ جماليٍّ ينتج به ذاكرة بصريةً وإرثًا معرفيًّا ويعالج به هذا الجرح الجمعيّ العميق، هكذا، يكون في هذا الخلقِ الجماليّ راحةً للآلام.
*ترى الفصائل الفلسطينية أن خطة سيري لإعادة إعمار غزة هي بمثابة شرعنة الحصار الإسرائيلي المفروض منذ ثماني سنوات على القطاع، فهي تشمل إجراءات طويلة ومعقدة تعيق عملية الإعمار، وتشير التقديرات أن إعادة إعمار قطاع غزة يحتاج إلى خمسة أعوام في حال تم إدخال 400 شاحنة يوميًا من مواد البناء دون رقابة أو قيود، لكن في حال تم تطبيق آلية الرقابة سوف يحتاج القطاع إلى 20 عامًا لإعادة الإعمار.