فندق للترفيه أم مشروع سياسي تتداخل فيه عناصر السلطة والاستعمار والمال والفن؟ تبرّؤ بريطاني من وعد بلفور المشؤوم في مئويته وإراحةٌ للضمير البريطاني أم عقلية بريطانية جديدة تعيد تعريف وإنتاج ورعاية الاستعمار ضمن معطيات الواقع المعاصر على أرض فلسطين وبما يرضي المستعمِر/إسرائيل؟ هل بانكسي مجرد فنان جرافيتي مجهول أم مجموعة تعمل بتنسيق دوليّ ومع حكومات لتنفّذ وتمرّر مشروعًا فندقيًا -فنيًا- سياسيًا على أرض محتلة تخضع للاحتلال الإسرائيلي بحيث لا يمكن أن يتم مشروع كهذا إلا بدراية وموافقة بل وبمباركة إسرائيلية، بعكس ما يُرَوّج له بأن إسرائيل لا تعلم شيئًا عن تأسيس الفندق؟
هذه الأسئلة ليست فرضيات تأتي من فراغ وإنما تفرض نفسها بقوة على أي فلسطيني، وأي إنسان على دراية بالقضية الفلسطينية وبالمسيرة النضالية الفلسطينية الطويلة الساعية للتحرير وعودة اللاجئين الذين سُلبت أراضيهم وما زالوا يعيشون في منفى وشتات في أنحاء العالم، إنها أسئلة تفرض نفسها ببساطة بعد زيارة قصيرة للفندق المُسمّى The Walled Off Hotel، أو “الفندق المُحاط بالجدار”، المُعلن عن افتتاحه قريبًا خلال آذار الحالي في مدينة بيت لحم، أو حتى بعد زيارة لموقع بانكسي على الإنترنت الذي خُصِّص قسمٌ منه للتعريف بهذا الفندق والترويج له.
بدايةً، يفترض هذا المقال أن ما يُسمى بالفندق المحاط بالجدار هو مشروع سياسي تتداخل فيه عناصر السلطة والاستعمار والفن ورأس المال، وهي تداخلات ليست حديثة إذ طالما تداخلت وتشابكت عناصر السلطة والفن ورأس المال على مدى التاريخ، غير أن هذه العلاقات تتجلى هنا وبشكل غامض في هذا المشروع على الأرض المحتلة/فلسطين، الدولة الوحيدة في العالم التي لا زالت تعاني من وجود استعمار إحلاليّ على أراضيها.
نفترض أن “الفندق المحاط بالجدار” هو مشروع تمت إقامته بتنسيق دولي، وبالطبع إسرائيل واحدة من بين أطراف هذا التنسيق، وأن أهدافه سياسية بالأساس تتمثل في ترسيخ وعيٍ جمعيٍّ في الداخل والخارج على السواء، يساوي بين المستعمِر والمستعمَر، ويَنفي الصفة الاستعمارية عن الكيان الصهيوني، وتَبْرِئته بالتالي من جرائم الحرب التي ارتكبها، وما يزال، بحق الفلسطينيين، ومن ثم تمرير حلّ يرضي الإسرائيليين أولًا ويستند إلى رضى الرأي العام في الداخل (فلسطين التاريخية) والخارج (الغرب بشكل أساسي)، وذلك بعد صناعة أو تجهيز الوعي، بحيث يضمن هذا الحل أيضًا التعايش بين “الجيران”، ومصطلح “الجيران” هذا هو ما تستخدمه النصوص الخاصة بالفندق.
أهلا بجميع أطراف الصراع: ترحيب خاص بالإسرائيليين
“أهلًا بالجميع” هي عبارة كُتبت بالعربية والعبرية والإنجليزية على يافطة ترحيبية وضعت على مدخل “الفندق المحاط بالجدار”، وهو، وكما هو مُعلن على موقع بانكسي على الإنترنت، منشأة ترفيهية مستقلة تم إعدادها بتمويل من بانكسي، ويَرِد في الموقع أن الفندق: “لا ينحاز إلى أي حزب سياسي أو أية جماعة ضغط، والهدف من إقامته هو سرد قصة الجدار من كل جانب وإعطاء الفرصة للزائرين ليكتشفوه بأنفسهم، نحن نقدم ترحيبًا حارًا وخاصًا بالشبان الإسرائيليين”. يرد أيضًا على الموقع: “نحن نرحب بحرارة بالجميع من أطراف الصراع، ومن أنحاء العالم..”. جدير بالذكر أن هذه المعلومات ترد كإجابة عن أحد الأسئلة في قسم الأسئلة المفتَرضة حول الفندق، والسؤال هو: “هل هو -أي مشروع الفندق- معادٍ للسامية؟” ويجيب موقع بانكسي: “بالتأكيد لا”.
معروف أن معاداة السامية هي تهمة من السهل جدًا إلصاقها بكل فعل ضد إسرائيل وإن كان سلميًا أو كان معرضًا فنيًا، وبالتالي، وبالمعيار الفكري الاستعماري الغربي، أو الصهيوني، فإن مناصرة القضية الفلسطينية هي فعل معادٍ للسامية، وبما أن بانكسي ينفي عن مشروعه صفة معاداة السامية فهو يعلن بشكل أو بآخر أن مشروعه ليس مناصرًا للفلسطينيين أو للقضية الفلسطينية، أو لا يمكن اعتباره كذلك فحسب، وفي أفضل الأحوال يمكن اعتباره “مناصرة مشروطة”، وشرطها نفي الصفة الاستعمارية عن إسرائيل، وهو، أي مشروع بانكسي، ليس ضد إسرائيل بأي شكل من الأشكال، وإنما هو دعوة للتعرف على قصة الجدار “من كل جانب” أي من وجهة نظر الجانبين، اللذين يصبحان متساويين في كفتيْ الميزان البانكسيّ، وهو يقترب من الميزان الصهيوني، فالميزان الصهيوني يقيس الصراع بالطريقة التي تصب في مصلحته بالتأكيد ضمن معادلة: إسرائيل “كدولة متحضرة ديمقراطية” يحق لها الدفاع عن نفسها أمام “الإرهاب الفلسطيني”، تم ذلك ويتم عن طريق الحملات الإعلامية الصهيونية المضلِّلة، والتي تتجاهل وتنفي تجرّد الفلسطيني من أي سلاح للدفاع عن نفسه مقابل وجود آلة عسكرية إسرائيلية شرسة واجهها على مدى عقود من الاحتلال.
الخلاصة هي أن بانكسي لا يرى في إسرائيل أساسًا مشروعًا استعماريًا ولا يرى في الفلسطينيين أصحابًا للأرض، بل إن وجهة النظر البانكسية المعلنة في هذا المشروع هي أن الفلسطينيين والإسرائيليين “جيران” يعيشون في حالة من “الفوضى والانقسام”. هذه الفوضى تسبب بها وعد بلفور كما يرى بانكسي. إذًا هو اعتراف بمسؤولية بريطانيا التاريخية عما يجري في فلسطين، ولكن هذا الاعتراف بالتأكيد لا يتضمن الإقرار بأن ما جرى هو استعمار، أي لا يتضمن الاعتراف بإسرائيل كمشروع استعماري وبالفلسطينيين كأصحابٍ للأرض.
مرافق الفندق
تم العمل على تجهيز الفندق وما فيه من أعمال فنية ومرافق بسرية تامة، بالاشتراك مع مجموعة من الفلسطينيين والإسرائيليين، كما يقول القائمون عليه، وكما تشهد على ذلك أعمال فنانين فلسطينيين معروضة في الجاليري، وهو أحد مرافق الفندق، وذلك حتى تم فتح أبوابه أمام وسائل الإعلام في الأيام القليلة الماضية، والواضح أن تجهيزه تطلب صرف مبالغ مالية طائلة، ناهيك عن القيمة المالية للأعمال الفنية التي يحتويها. ويحتوي الفندق على أربعة مرافق رئيسية هي الغرف، وجاليري، ومتحف، و”البيانو بار”. الغرف ذات الأسرة المتعددة تم تجهيزها من بقايا عناصر من ثكنات عسكرية إسرائيلية: “هذه الغرفة تقدم سريًرا بدءًا من سعر ثلاثين دولار لليلة، بلا رتوش زائدة، وهي تشمل خزانة وحمام مشترك..”. ويبدو أن فريق بانكسي قد صمم هذه الغرف بهدف أن يعيش السائح “الحالة العصيبة والقاسية” التي يمر بها الجندي الإسرائيلي داخل ثكنته!
أما “الجناح الرئاسي” فيرد حوله على الموقع: “هذا الجناح الفخم تم تزويده بكل شيء قد يحتاجه رأس الدولة الفاسد: حمام غطس يستوعب أربعة أشخاص من محبي الترف، أعمال فنية أصلية، مكتبة، سينما منزلية، حديقة، بار… مجموعة من منتجات البحر الميت المستخدمة في الاستحمام، وخدمة الطعام داخل الغرف متوفرة حسب الطلب. ويتسع لستة أشخاص”. ويبدو أن هذا الجناح معدّ فقط لأصحاب الدخل المرتفع، فبالتأكيد أن تكلفة الإقامة فيه لليلة واحدة أعلى بكثير جدًا من ثلاثين دولار، وهكذا يتجلى التناقض مرة أخرى بين الغلاف والجوهر في هذا المشروع البانكسيّ، الغلاف: نقد رأس الدولة الفاسد، أو السلطة، أو الرأس الاستعماري البريطاني التقليدي من بداية القرن العشرين، والجوهر: توفير بيئة مرفّهة للسائح المطلوب منه التصالح مع هذا الاستعمار بعدم الاعتراف به كاستعمار، الغلاف: مشهدية تطل على الجدار “البشع”، الناتج عن الاستعمار، وأعمال فنية حديثة تخلط الكلاسيكي بالتخريبي، والجوهر: الاستمتاع بتلك المشهدية في ظل خدمة خمس نجوم.
“البيانو بار” عبارة عن قاعة في مدخل الفندق، يقول موقع بانكسي: “وضعت بريطانيا يدها على فلسطين عام 1917، والبيانو بار يُعنوَن كموقع استعماري من تلك الأيام العنيفة. وهي مجهزة بمراوح سقف ضعيفة… وأرائك من الجلد. الضيوف يمكنهم الاطلاع على مجموعة من أعمال بانكسي: لوحات زيتية مخرَّبة، وتماثيل تختنق بالغاز المسيل للدموع…”، وسيتم في البيانو بار تقديم الكعك الساخن والشاي يوميًا بالإضافة إلى سلطة تحمل اسم الفندق Walled Off Salad والتي يقول موقع بانكسي أنه يجب أن لا يتم تفويتها.
تذكّر هذه السلطة التي تحمل اسم الجدار بقول محمود درويش في قصيدته “جواز سفر”: “وكان جرحي عندهم مَعْرضًا، لسائح يعشق جمع الصور”، سائح يتذوق الفن الذي موضوعه المعاناة، ولا يذوق المعاناة حقيقة، وهكذا هو الجدار: سلطةٌ معدّة لإمتاع مذاقِ سائح؛ القائمون على المشروع يتخذون من الجدار، الذي يحول حياة الفلسطينيين إلى جحيم مُحقّق، مشروعَ فندقةٍ وترفيهٍ تقدم فيه كافة الخدمات ومجهز بأعمال قيّمة، بعضها يمكن بيعه، وبسلطات وأطعمة وكعك وشاي وخدمات أخرى، فجدار الفصل العنصري في مشروع بانكسي: متحف وفنّ وسلطة وخدمة بمستوى خمس نجوم. ويلاحظ أن لفظة الجدار ترد في كل النصوص الخاصة بالفندق وعلى موقع بانكسي مجرّدة من الصفة التي عُرف بها الجدار في الأدبيات والإعلام، أي يرد الحديث عن الجدار كجدار فقط، ولا يسمى في تلك النصوص “بجدار الفصل العنصري”، أو حتى “بجدار الفصل”، بل إن البيان الصحفي الصادر على الفندق بالإنجليزية يسميه “بالجدار الأمني”. واعتماد هذا المصطلح في بيان صحفي يؤكد حقيقةً تبنّي بانكسي لوجهة النظر الإسرائيلية حول وظيفة الجدار، فهو إذًا “جدار أمني” لا جدار فصل.
أما الجاليري فهو يتمتع باستقلالية عن بقية مرافق الفندق، كما يقول الموقع، ومنظم المعرض في الجاليري هو المؤرخ والناقد إسمال دوديرا، والذي قام بجمع أعمال فنية كمجموعة دائمة من العديد من الفنانين الفلسطينيين البارزين، وهناك في الجاليري “مساحة مجاورة مخصصة لعروض مؤقتة لفنانين صاعدين”، والجاليري يبيع أعمالاً أصلية ومطبوعات وبطاقات بريدية. والسؤال: هل سيعرض الجاليري في المستقبل أعمالاً لفنانين إسرائيليين أيضًا؟ أو معارض مشتركة لفنانين فلسطينيين وإسرائيليين وربما عرب أيضًا؟ ولِمَ لا بما أنه مُرحَّب بحرارة بجميع أطراف الصراع، وبما أن الهدف هو إقامة وفتح حوار، كما تقول السيدة البريطانية التي تعمل كموظفة للعلاقات العامة في الفندق.
أما المتحف، الذي لم يُفتح أمام وسائل الإعلام بعد، فيرد وصفه على الموقع بأنه محلي الصنع مخصص فقط لسيرة الجدار، وأنه يحتوي على أعمال فنية مرئية وصوتية حديثة، وشجرة قديمة جدًا، وأعمال أخرى تعرض تاريخ المنطقة، ومواد عسكرية، ومنحوتة أصلية من شاطئ غزة. ويضيف الموقع: “يحتوي المتحف على مواد لحقائق “تم فحصها بالكامل” وسوف يكون مستودعًا مستمرًا للقصص المحلية والقطع الأثرية والشهادات.”، وربما نحن لسنا أمام متحف يعرض القصص والمواد الخاصة بالفلسطيينين فقط، وأن للإسرائيليين مساحة لسرد قصتهم أيضًا، فهو “مستودع مستمر للقصص المحلية” دون تخصيص جماعة عن أخرى في النص التعريفي للمتحف، وذُكر سابقًا أن الهدف من الفندق التعريف بقصة الجدار من كل جانب، ويقول كيفين جريندون منظّم معرض المتحف في لقاء معه أنه تم العمل بسرية على تنظيم معرض المتحف مع مجموعة من الفلسطينيين والإسرائيليين.
الفلسطينيون و”جيرانهم”
في داخل الفندق، وعلى مدخل المتحف عُلقت يافطة كتب عليها، بالعربية والعبرية والإنجليزية: “لقد وصلتم. أهلا وسهلًا بكم في الضفة الغربية – مكان عريق بالتاريخ وغارق في الصراع. لقد أصبح الوقت مناسبًا الآن لكي تختار جانبًا ما – إلا إذا كنت لا ترغب في ذلك. إن الجدار هو مجرد أكذوبة. إنه يروج لفكرة وجود انقسام بين الناس هنا، ولكن الأمر ليس كذلك. يعيش معظم الفلسطينيين في ظروف سيئة بالنسبة لجيرانهم. وبينما يعارض العديد من الإسرائيليين القسوة التي يسببها الجدار، هناك إسرائيليون آخرون يخشون بشدة على أمنهم، ويحاول هذا المعرض أن ينظر إلى الجدار من زوايا مختلفة، وهو يحتوي على مواد قد يجدها البعض مزعجة”.
إن هذا الجدار، الذي دمر حياة الفلسطينيين هو مجرد “أكذوبة”، أي وهم، في نظر بانكسي، وهو يروج لفكرة وجود “انقسام بين الناس”؛ فجأة يصبح الصراع، واحتلال الأرض، والثمن الذي دفعه الفلسطينيون وما زالوا من أجل الخلاص، يصبح كل هذا مجرد انقسام بين أناس. صحيح أن الجدار سبب في أن يعيش الفسطينيون في ظروف سيئة، وصحيح أن بعض الإسرائيليين يعارضون “القسوة” التي يسببها الجدار، لكن في المقابل على الجميع أن يفهم أن الجدار مهم لأمن الإسرائيليين. هذا ما يشير إليه بوضوح النص أعلاه، والذي ينطوي على تناقص بين الجدار كأكذوبة -أي وهم- وكضرورة في ذات الوقت لأمن الإسرائيليين، ونذكّر أن بيان الفندق الصحفي قد سماه بالجدار الأمني.
الترادفيّة بين طرفي الصراع في أعمال بانكسي
تجنبًا لإطالة زائدة في هذا المقال، سنتعرض إلى بعض الأعمال في الفندق بشيء من الإيجاز. بداية يذكر أن كل الفندق قد أُعدَّ وصُمِّمَ ضمن رؤية بانكسي البصرية وكل ما في الفندق ومرافقه من أعمال وديكورات، عدا الجاليري، هو من أعماله، وشاركه في تصميم غرف النزلاء كل من الفنان الفلسطيني سامي موسى والفنانة الكندية دومينيك بيترين.
ما وجب قوله حقيقة أن الأعمال الفنية في الفندق المحاط بالجدار، وكل الرؤية الفنية التي صُمّمِ بها الفندق، لا تشير إلى أنها تعبيرٌ عن معاناة الفلسطينيين، أي أنها لا تختص بالفلسطينيين فحسب، بل هي تتضمن رؤية تشمل طرفي الصراع وتساوي بينهما، فالأعمال يمكن قراءتها بما يرضي الفلسطينيين للوهلة الأولى، لكن لا شك في أنها ترضي الإسرائيليين أيضًا؛ أي يمكن قراءتها من منظورين متعاكسين وبما يرضي كلًا من أطراف الصراع، ولا يوجد هناك ما يشير إلى أنها تنحاز إلى طرف دون آخر. من بين هذه الأعمال لوحة رُسمت على جدار غرفة مزدوجة، تُظهر ملثمًا وجنديًا يتعاركان بوسادتين محشوتين بالريش، يتطاير الريش ليملأ الحائط وليدخل في لوحة كلاسيكية جانبية، الترادفية هنا مُمثَّلة بوحدة السلاح بين الخصمين، هذا ما يريد بانكسي وفريقه للسائح أن يفهمه ويراه، الطائرات والأسلحة والدبابات تصبح وسائد من الريش، وكذلك الحجر والمقلاع والأسلحة البسيطة التي استخدمها الفلسطيني في مواجهة السلاح المطوَّر والطائرة والدبابة، وكم هو طريف حقًا، وسخيف أيضًا، أن يتحول هذا الصراع الدموي الذي راح ضحيته مئات الألوف من الفلسطينيين بين مهجّرين وشهداء معتقلين، والمعروف عدم تكافؤ مستوى القوة بين أطرافه على الإطلاق، إلى نعومة الريش، كيف صار دم الفلسطيني ريشًا جميلًا متطايرًا على جدران الفنادق، أم هي دعوة ناعمة لترسيخ صورة ناعمة في الوعي حول الصراع؟
أعمال أخرى عبارة عن لوحات زيتية تصور أماكن طبيعية وطبيعة صامتة، سُيِّجت بقضبان حديدية تجعل المكان يبدو وكأنه مسجون، مرة أخرى لا يوجد أية إشارة إلى فلسطينية المكان، المكان هو أي مكان، محاط بالصراع، ليس مهمًا من هم أصحاب المكان وما هي هويته الأصلية، وليس مهمًا من هو الطرف المسجون حقًا، ويتناسى بانكسي أن حرية الحركة التي يتمتع بها الإسرائيليون تمامًا في مناطقهم مسلوبة في المقابل من الفلسطينيين ليس بسبب الجدار فحسب بل بالحواجز العسكرية الموزعة في كل مكان وبسبب المنع من السفر، بل هو يعلن على موقعه أن الجدار يقيد حركة “المواطنين من كلا الجانبين”، وهذا تزييف واضح للحقائق على أرض الواقع، بل إن الجدار يقسم المدن الفلسطينية نفسها أي يمتد داخل المدينة الفلسطينية، كما هي الحال في بيت لحم.
هناك أيضًا التمثال الذي يجسد آرثر بلفور يجلس وراء مكتب؛ يضعط الزائر على زر مثبت على المكتب لتدور يد بلفور بحركة التوقيع على وثيقة وعده المشؤوم بإقامة “وطن قومي لليهود” على أرض فلسطين، وتستمر اليد بالحركة الدائرية: هذا العمل يضرب ثلاثة عصافير بضربة واحدة على زر: يعترف البريطانيون الجدد، وممثلهم بانكسي، بهذا الحدث التاريخي أي وعد بلفور كمسبب لما يجري على أرض فلسطين، وبذلك هو بمثابة خلاص وتبرئة ضمير بالنسبة للبريطانيين من الخطيئة التاريخية، وهو ثانيًا يداعب مشاعر الفلسطيني: ها هم البريطانيون الجدد يعترفون بهذا الوعد كخطيئة ارتكبها أجدادهم، وهو ثالثًا بالتأكيد سيداعب مشاعر الإسرائيلي: فهذا الوعد ما زال ساريًا ويتم التوقيع عليه كل يوم لتثبيت “وطن قومي لليهود” على أرض فلسطين.
بالتوازي: معرض ضخم لبانكسي في إسرائيل
أما مشاريعه مع إسرائيل فلقد سبق أن نظم بانكسي معرضًا في بريطانيا عام 2015 ضم أعمال فنانين أجانب وإسرائيليين وعرب من بينهم فلسطينيان، وكان أحد الفنانين الفلسطينيين قد أُخرج من مكان العرض بعد أن احتج على وجود فنانين إسرائيليين مشاركين منهم من كان قد خدم في الجيش الإسرائيلي*. أما الحدث الأهم في العلاقة البانكسية – الإسرائيلية هو إقامة معرض ضخم لأعمال بانكسي في نيسان المقبل في هرتسليا (سميت بذلك نسبة إلى ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية)، على بعد 11 كم شمالي تل أبيب، ما يعني أن هناك مشروعان بانكسيّان متوازيان متزامنان مُرضيان للطرفين: فندق في بيت لحم بحملة إعلامية ضخمة ومنظمة رحب بها الفلسطينيون، ومعرض فريد من نوعه في إسرائيل يتم التحضير له بحملة إعلامية في الأوساط الإسرائيلية، وجاء في الموقع المخصص للمعرض، والذي أتى باللغتين العبرية والإنجليزية، أنه سينظَّم في قاعة مساحتها ألفين متر مربع في أرينا مول أو مجمع أرينا التجاري في هرتسليا في نيسان من العام الحالي لفترة زمنية محددة، بحيث سيتم عرض أكثر من ثمانين عمل أصلي من أهم أعمال بانكسي، ومن بينها أعمال مشهورة مثل عمل الفتاة مع البالون، ويضم المعرض أيضًا أعمالًا لبانكسي لم تُعرض من قبل*.
من هو بانكسي؟
قيل في وسائل الإعلام أن بانكسي هو الفنان “روبن غوننغهام”، وقيل سابقًا أنه تم اعتقاله على يد شرطة لندن وتم الكشف عن هويته وان اسمه باول ويليام، وقيل أنه من المحتمل أن يكون امرأة، وقيل أيضًا أن بانكسي هم مجموعة من فناني الجرافيتي وليس شخصًا واحدًا يعمل بمفرده، والحقيقة لا يهم إن كان بانكسي رجلًا أو امرأة أو فردًا أو مجموعة، ففي كل الأحوال هناك بانكسيّ جديد تصدره بريطانيا لتنفيذ مشاريع في فلسطين ذات أهداف سياسية ضمن شبكة من العلاقات يتداخل ويتشابك فيها السياسي بالثقافي والفني والاستثماري. الحقيقة أن الأمر الهام هنا هو أن الشعب الفلسطيني مؤكدًا لم يعد أمام فنان جرافيتي مجهول يأتي ليرسم على الجدار أو في غزة ويختفي فيفرح بهذا التعاطف من فنان عالمي؛ فهو اليوم وبعد إعلان هذا المشروع في بيت لحم أمام فريقٍ بانكسيّ هو عبارة عن راعٍ بريطاني متجدد ورسميّ للاستعمار الصهيوني على أرض فلسطين. الشعب الفلسطيني اليوم أمام قفزة بريطانية “ناعمة” من وعد بلفور إلى “وعد بانكسي”! ولأن بانكسي غامض ومجهول، ولديه رصيد من التقدير عند شعبنا، فقد شكّل هذان العاملان أرضية خصبة لتمرير هذا المشروع وترويجه ضمن حملة إعلامية منظمة، لم تكشف في البداية إلا عما يحبّ الجمهور الفلسطيني سماعه.
المراجع:
http://banksy.co.uk/
https://www.facebook.com/uniofessex/posts/10154456211476819
http://time.com/4012897/dismaland-palestinian- artist/
http://www.theartofbanksy.co.il/
الصور للكاتبة، وخاصة برمان: