وما زال يسكنني
يلملمني الخوف ويجمعني الفزع
حين يتأجّج الشّوق القابع في أعماقي
يضجّ بصورٍ تداعب مخيّلتي
وبموسيقى ترنّم حياتي
ضجيج طفل مازال يسكنني
يلهو في غرفات بيتنا الضّيقة.
كان البيت يرقص طربًا
حين يسمع صدى أصواتنا
يتعالى من قهقهاتنا المتسارعة
ومن خفقات قلوبنا المتضاربة
ومن آهاتنا الّتي تصدح بالحبّ
فما أجمل براءتي
حين كانت تندهني قطرات النّدى
وتلفحني بعبق من الياسمين
وتنثرني ذرّات فوق التّراب
وفي حنايا صدر أمّي
فألهو في الحقول
تندهني الأطيار البرّيّة، وأغرّد.
فرغ البيت منّا، وظلّ وحيدًا
اسودّت جدرانه الملأى بالذّكريات
وصارت ذكرياتنا بلا صدى
تضجّ الصّور وحدها
تنتظرنا.
الخريف يغنّي
تعرّت عريشتي من أهلها
وصارت
لا ورقٌ ولا عناقيدُ
وخَفُت هدير النّهر
وتلاشى صوته بهدوء
بعد أنّ جفّ الرّبيع
ونفض اللّيلُ الغبار
عن أجنحته
وأعلن قدوم المساء
لم تعد تجري الحياة
في عريشتي
صرت أشبهها
بكل تفاصيلها
بملامحها، بتراسيمها
بلونها، بضعفها
صرت كوريقاتها الصّفر
تبعثرني الرّياح
وتُلقي بي في زوايا الجدران
لم يعدِ الصّباح ينتظرني
لأرتشف فنجانه
وأرتدي ملابسي الجميلة،
وأتزيّن، وأتعطّر،
وأذهب إلى العمل.
لم تعدِ النّسماتُ تدفئني
صارت باردة ثقيلة،
وصرت كطفلٍ تشرّد
وهدّته الأنواء الشّديدة.
لم تعد مساءاتي كما كانت،
عجقة لقاءات،
وأمسيات، وكتابات،
وسهراتٍ ماتعةٍ،
أقضيها مع الأصحاب.
صرت قعيدة البيت،
ليس لي سلوى إلّا عكّازي،
أتّكئ عليه ليحملني إلى سريري.
أنتظرك أيّها المساء
أن تحلّ
فلا تتأخّر طويلًا.
اتركني وحدي
اتركني هذه اللّيلة وحدي
لأمارس فيها كل هواياتي
الّتي أحبّ
اتركني وحدي،
واجلس في الغرفة المجاورة لغرفتي
اتركني لأشرب فنجان قهوتي السّاخنة،
وحدي،
وأحادث قارورة عطري الملأى بالحنين
إليَّ،
اتركني مع حقيبة يدي،
وحدي،
لأفتّش فيها عن أشيائي الشّخصيّة،
ودعني أمارس هوايات النّساء الأخريات
اتركني، لأحبّك على طريقتي،
وحدي،
أرسم جسدك في دفتري،
وأخربش عليه على طريقتي
ساعة أشاء،
أحضنه ساعة أشاء،
وأبتعد عنه ساعة أشاء،
اتركني وحدي،
فقد مللْت صُحبتك هذا المساء،
ومللْتُ أحاديثك العبثيّة،
اتركني وحدي،
فقد اشتقت لملابسي القديمة،
ولعقودي الفخيمة،
وحتى لقوارير طلائي الملوّنة،
اتركني وحدي،
وانصرف،
وحين أحتاجك،
أدعوك لغرفتي، لتسامرني،
وتسلّيني،
لكن، اعلم، أنّي قد لا أدعوك لعناقي.