وقع يوم الاثنين، في الخامس عشر من أبريل (نيسان) الماضي، حدثان في مكانين منفصلين، تمثّل الأوّل في هبوط طائرة قطرية في مطار بغداد الدولي، والثاني في عملية انتحارية استهدفت سكّان بلدتي كفريا والفوعة السوريتين. للوهلة الأولى، لا تبدو صلة واضحة بين الأمرين، فالطائرات تهبط يومياً في مطارات سورية والعراق، ويومياً، أيضاً، تقع عمليات انتحارية، وشركة الطيران القطرية تنشر إعلانات دعائية، تُزينها صور مضيفات فاتنات (غير قطريات بطبيعة الحال)، على صفحات الإيكونوميست البريطانية، وشاشة سي إن إن الأميركية.
في الحادثة الأولى نقلت طائرة إلى بغداد 23 حقيبة تحتوي على نصف مليار دولار (كاش)، وفي الثانية نقل وحش مريض 126 شخصاً، بينهم 68 طفلاً، من عالم الأحياء إلى عالم الموتى. يبدو، حتى الآن، كأننا نتكلم عن أمرين منفصلين، ولكن افتضاح أمر الحقائب لم يُوّحد الحدثين وحسب، بل وسلّط الضوء على جانب مُعتم يختزل المأساتين العراقية والسورية، أيضاً. فكم من الأحداث ظلت منفصلة، وكأن لا صلة بينها، لا في العراق وسورية، ولكن في كل مكان آخر من العالم العربي، والعالم، أيضاً؟ وكم من الطائرات هبطت بحقائب في مطارات دون افتضاح أمرها؟ وكم نقل الوحوش المرضى من أحياء إلى عالم الأموات؟
جمعت بين الحدثين حقيقة أن القطريين هبطوا بطائرتهم في مطار بغداد لنقل رهائن من مواطنيهم، خطفتهم ميليشيا محلية في العراق قبل 16 شهراً، وأن الإفراج عن هؤلاء كان جزءاً من صفقة تشمل تبادل سكّان ورهائن في الأراضي السورية، وفي الأثناء انتقل 126 شخصاً من عالم الأحياء إلى عالم الموتى لأن ميليشيا محلية هناك لم تنل ما اعتبرته حقها في أموال الفدية. وفي الحدثين، لا بصرف النظر عن التفاصيل، بل بفضلها، ما يفضح قبح الصراع في، وعلى، العراق وسورية، وما ينتظر كل مكان آخر في العالم العربي، صعدت فيه سطوة الميليشيات على حساب سلطة الدولة، وتكالب عليه لاعبون في الإقليم ومن العالم.
من الشائع في علوم الاجتماع والنفس أن الهويات تقوم على مبدأ النفي، فأنا ما أنا لأنني لستُ أنت. وما أنا لا يتجلى، بالضرورة، كخيار ذاتي مُجرّد بقدر ما ينجم مباشرة أو مداورة عن إكراهات خارجية تتجلى في القوانين السائدة، وفي حدود ونقاط تماس حقيقية أو مُتوّهمة بين جماعات مختلفة، وفي أزمنة الحرب الأهلية، والصراع الاجتماعي الحاد، تفرض ضرورات الحماية، وفنون البقاء، نفسها على كل تعريف محتمل للهوية.
لذا، لا نعرف كم من مواطني البلدات التي كانت جزءاً من الصفقة (كفريا والفوعة، ومضايا والزبداني) يمكنه اليوم، أو تمكّن قبل سنوات، من التفكير في هوية طائفية تسبق أو تسكن هويته كسوري، ولا نعرف كم من قاطني كفريا والفوعة عرّفوا أنفسهم بالتضاد مع آخر وهمي ومُتوّهم في مضايا والزبداني، أو بالعكس.
من المؤكد أنهم كانوا، ولا زالوا، سوريين، ولكنهم تعرّضوا للحصار، والقصف والموت، لا لأنهم سوريون، ولا لأنهم أفاقوا من النوم ليجدوا أنفسهم سنّة أو شيعة، بل لأن مَنْ حاصروهم ونكّلوا بهم، وحوّلوهم إلى رهائن، أرادوا لهم، وفرضوا عليهم، أن يكونوا سنّة وشيعة. وفي هذا تتجلى مأساوية الوجود الهش لهؤلاء، ووضاعة وانحطاط مَن نكّلوا بهم، وجعلوا منهم سلعة للتبادل في صراع التطهير الطائفي، وتبادل السكّان. فالخارجون من كفريا والفوعة يمكن أن يسكنوا في بيوت أخلاها الخارجون من مضايا والزبداني، أو بالعكس.
في عبارة جارحة لمحمود درويش، يقول المطرود من قريته في قصيدة بعنوان “عندما يبتعد” لمن طرده منها: “سلّم على بيتنا يا غريب فنجانين قهوتنا لا تزال على حالها”. أعرفُ أن في مجرد المقارنة بين ما أصاب قرويين فلسطينيين طُردوا من بيوتهم على يد قوّة غازية في العام 1948، وبين عراقيين وسوريين طُردوا من بيوتهم في حروب أهلية، ما ينتهك التابو، وبلاغة الكذب العربية التي تستثني إمكانية المُقارنة بين حروب يشنها عرب على عرب، وحروب تُشن عليهم. هل سيكتب طفل طُرد من قريته في صفقة تبادل المخطوفين والسكّان، ذات يوم، عن فناجين القهوة التي لا تزال على حالها؟
على أي حال، الخمسمائة مليون دولار، التي هبطت بها الطائرة القطرية، لتقديمها كفدية للخاطفين، أو كمكافأة (رشوة) لنافذين في السلطة العراقية، جزء من الاقتصاد السياسي لحروب يشنها عرب على عرب. وإذا صدّقنا ما ذكرته “الشرق الأوسط” السعودية في الثامن عشر من أبريل (نيسان) الماضي، فقد تجاوز ما دفعه القطريون مليار دولار لاستعادة مواطنيهم المُغرمين بالصيد (بعضهم من العائلة المالكة).
ولا نعرف ما إذا كانت الخمسمائة مليون دولار، التي هبطت بها الطائرة، مشمولة في المبلغ المذكور، فقد سبق لهم (على ذمة الجريدة، في التاريخ نفسه) أن دفعوا 350 مليون دولار في العراق، ومثلها في لبنان. كيف دفعوا، ولمنْ، حقائب، شيكات؟ وإلى هذا وذاك، حصلت شركة أميركية مختصة في شؤون التفاوض على الرهائن، من القطريين، على مبلغ مائتي مليون دولار. هذه الأرقام تصيب الرأس بالدوار، وتصلح لكتاب غينيس للأرقام القياسية، فهي أكبر فدية عرفها العالم حتى الآن.
لا بأس. فتنتني، دائماً، عبارات تتردد كلازمة في “ألف ليلة وليلة”، ففي في حروب الجهاد والجهاديين، وأقنعة الميليشيات، وراياتها، ورعاتها، وفي كل ما ينفصل ويتصل، في صعود وهبوط طائرات، ونقل أحياء إلى عالم الموتى، وفي تحويل مواطنين في بلادهم إلى سنّة وشيعة، وطاردين ومطرودين، حكاية: “لو كُتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر”.
نُشرت صباح اليوم في الأيام الفلسطينية.