حين لملمت أجسادي

Khaled Takreti, 220 Volts, 2014

بشير فهد أمين

مدوّن سوري

في أقبية المدينة اللامنتهية، لم أستطع أن أجد ما أضعت في أي منها، حتى استسلمت للتعب من بحث لا جدوى منه. وظننت أني لن أجده من جديد ممضياً ليال طويلة في البحث والتفكير. عرفت أني لن أجد ما أبحث عنه ما دمت مختبئاً في أقبية الرعب والتعب. وعرفت أنني سأتوه أكثر مثل هؤلاء البشر التائهين بين عنق خيط ورأس إبرة. عرفت أني مهما تعلمت حمل مقصاتهم فإنها لن تقص العصبة الملفوفة حول عيني. عرفت بأن كل الشبابيك لا تطل إلى على بعضها وتنفد إلى الطريق ذاته فتعود من جديد وتختبئ في قبو أعمق من الذي قبله. عرفت أن علي الخروج أو الهروب، لكن حتى الهروب ليس خياراً متاحاً في هذا المكان. فقررت شبه الانتحار واعتقدت أن الحل الوحيد لمعرفة ما قد أضعت بالعودة إلى الطريق الذي جاء بي إلى هنا، فربما تلك الأسلاك التي عبرت قد سرقت مني ما لا أعرفه ولا أذكره. 

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

18/09/2017

تصوير: اسماء الغول

بشير فهد أمين

مدوّن سوري

بشير فهد أمين

طالب في كلية الاعلام في جامعة كولومبيا البريطانية (كندا)

منذ لحظة عبور الأسلاك الشائكة في تلك الليلة الظلماء أحسست بشيء ما ينقصني. محاولات عدة فاشلة عبرنا بعدها الحدود بشق الأنفس، مكثنا ليلة واحدة في البلدة الصغيرة إلى الطرف الآخر من الحدود ثم اتجهنا إلى المدينة الكبيرة، مدينة العبور إلى الشمال العجوز، اتجهنا إلى إسطنبول وجهة سياح العالم. بالغنا بالفرح بوصولنا إليها غير واعين أننا لن نكون سُياحاً فيها قط. اعتقدنا أننا تجاوزنا جلّ الصعاب حين التهمتنا شوارع المدينة لتكذّب فينا اعتقادنا. أناسها ودكاكينها، بكل ما فيها كرِهَتنا. إسطنبول المدينة المتوحشة استحكمت فينا عُرينا من أي سلاح نمتلكه. لتكذّب فينا كل اعتقاداتنا. 

ظللت تائهاً في كل أزقتها باحثاً عن شي ما أضعته. تعلمت في فترة وجيزة أن أتواصل معهم بالطريقة التي يتحدثون والتي يسمونها لغتهم. أبعد ما تكون عن لغة. هي بدون شك تصلح للصراخ بل هي تماماً لغة الصراخ والشجار. حتى شعرت أنني لا أستطيع الشجار مع أحد سوى بهذه اللغة الفظة والغريبة. خليطُ لغاتِ من احتلوهم أو سرقوهم ولا زالوا يفعلون بي وبهم حتى الآن. 

دخلت أقبيتهم، وتعلمت أبشع الطرق في المجاملة ونسيان من أنا، كان يجب أن أومئ براسي موافقا على أي شيء اسمعه، في بعض الأحيان إجابة “لا أعرف” نفعت لتجنب جزءٍ من المتاعب وأسئلة الفضول التي لا تعرف من  أين يأتوك بها. فالإبداع عند سكان هذه المدينة يكمن في اختلاق الأسئلة، والاستخفاف بأي إجابة تعطيها: ليس لأن إجاباتك غبية، بل لأن مستوى الاستيعاب لا يفوق أقل ما تتوقعه، بل أقل بكثير. ولأن هويتك تحكم عليك ذلك فتعترف بغبائك وذكائهم. 

في أقبية المدينة اللامنتهية، لم أستطع أن أجد ما أضعت في أي منها، حتى استسلمت للتعب من بحث لا جدوى منه. وظننت أني لن أجده من جديد ممضياً ليال طويلة في البحث والتفكير. عرفت أني لن أجد ما أبحث عنه ما دمت مختبئاً في أقبية الرعب والتعب. وعرفت أنني سأتوه أكثر مثل هؤلاء البشر التائهين بين عنق خيط ورأس إبرة. عرفت أني مهما تعلمت حمل مقصاتهم فإنها لن تقص العصبة الملفوفة حول عيني. عرفت بأن كل الشبابيك لا تطل إلى على بعضها وتنفد إلى الطريق ذاته فتعود من جديد وتختبئ في قبو أعمق من الذي قبله. عرفت أن علي الخروج أو الهروب، لكن حتى الهروب ليس خياراً متاحاً في هذا المكان. فقررت شبه الانتحار واعتقدت أن الحل الوحيد لمعرفة ما قد أضعت بالعودة إلى الطريق الذي جاء بي إلى هنا، فربما تلك الأسلاك التي عبرت قد سرقت مني ما لا أعرفه ولا أذكره. 

بدا طريق العودة معبداً أكثر من غيره، طريق الانتحار بمعنى آخر كان الأسهل. لا شك بأن كلام أبي كان يرن في أذني دوماً: “ليس أسهل من الانتصار سوى الاستسلام للهزيمة” لا أعلم متى قال لي ذلك، لكن طوال السنين العشرين التي عشناها سوية تعلمت منه ذلك، ربما أنه لم يقلها بكلمات مباشرة لكنه ربّاني عليها. كانت تلك العتبة التي منعتني من أن أسلك طريق الانتحار. تنهيدة، شهقة، ثم غيبوبة طويلة جلعت من جسدي شبه رماد، ذكرى روح لازال يبحث عن ما أضاع.

في غفلة من سخط المدينة وصخبها جاء إليّ الرجل الأشعث النحيل الذين عرّفني على حواكير المدينة حين وصلت إليها أول مرة، لطالما كرهت نظرات هذا الرجل ورائحة سجائره، وزوجته التي تثرثر لساعات. لكن حين جاء اليّ هذه المرة، لم يستطع جسدي الميت التهرب منه، وبدا مختلفاً، قوياً، عيناه مليئتان بالحب. أخذتْ يداه تلتف حول كتفي وتدفعني من جديد. جعل من جسدي أن يعاود تنفسه. لم أستوعب ما أنا فيه، بدا لي كل شيء وكأنني أمشي إلى الرحلة الأخيرة لقتل جسدي تماماً. ما إن أخذت بيده تذكرت أني لازلت أبحث عمّا أضعت، بل وبشغف أكبر بحثت. تجولت من جديد في طرقات المدينة الكبيرة. كنت لا أزال أرى نظرات الكره تحدق بي. سيارات المدينة وأشجارها… مبانيها الكبيرة التي تكاد تعانق السحاب وحتى البيوت القديمة. لم أكترث لها أبداً وظللت أبحث، وأبحث بصمت!  

حدث ذلك عندما وصلت راكضاً، شبه متدحرج على الدرج الآخذ إلى القبو، متأخراً، ألهث، حاولت أن أتجاهل نظرات العم أرغون الواقف وراء طاولة قص القماش الكبيرة ويوزع نظرات على العمال ليس لمكافأتهم طبعاً بل لتوبيخهم إذا تحدثوا إلى بعضهم. آرغون الأربعيني بشعر أسود مكحل ببعض البياض، طويل القامة، لم أره يبتسم قط. يأكل ثلاث بيضات مسلوقة كل صباح. صوته الأجش يملئ كلّ أقبية الحي. 


توجهت إلى الطاولة المخصصة لي حيث جميع المقصات مصطفة إلى الزاوية، إلى جانبها أقلام لم تحتك بأي ورق يوماً، أقلام مخصصة لتأشير القماش بأماكن قصها. أسرعت في حمل مقصاتي وإقناع أي من يراقبني أني أعمل بجهد. لكنني فشلت في إقناع آرغون، ندهني يسأل عن الساعة، كنت متأخراً لسبع دقائق فقط. كنت أعرف تماماً إلى ماذا تشير الساعة، حاولت أن أبدو بوجه الـ “لا أعرف” فبحثت عن الساعة على جدران المعمل غير ناسٍ بأني أحمل ساعة في يدي. لكن لوهلة شعرت أني غير مضطر لإعطاء أي تبرير. لوهلة أحسست بأنه ليس من الضروري أن يقدم المرء عذراً لتأخره، فالناس تواجه مواقف مختلفة وتلك ليست بجريمة، خاصة أني لست متأخراً سوى دقائق.

“إنها الثامنة و7 دقائق سيد آرغون” قلتها ببلادة تامة، على أتم الاستعداد لسماع أي توبيخ والرد عليه بما قد يُدخلني السجن. لكن لا أعلم لم توقفت حين شرح لي بأن هذا غير مقبول وأني سأعمل ساعة إضافية مساءً. لم أحاول أن أشرح له أنني عملت أكثر من 5 ساعات ضمن أسبوع واحد مجاناً أو أنني قد أنهيت كل ما علي فعله. فضلت عدم التعليق على الموضوع. لكني طلبت منه الذهاب إلى خارج القبو لدقيقتين لشراء علبة سجائر بعد قبولي لعقوبة العمل لساعة إضافية. خرجت راكضاً إلى خارج القبو اللعين… ركضت بعيداً، كانت المرة الأولى منذ وقت طويل أتنفس فيها هواء نقياً كذلك اليوم وأشعر بجسدي يتنفس. خرجت من ذلك الشارع ولم أعد… ولم تنته بعد الدقيقتان اللتان وعدت آرغون بهما. لا شيء يبقى كما هو عليه، أؤمن بذلك الآن كما أؤمن أيضاً أنه قرار شخصي لتغييره.

كانت المرة الأولى التي لا أحتاج التحدث بلغتهم… والمرة الأولى التي لا أحتاج فيها إلى الصراخ، حين حصلت على عمل أفضل خارج أقبية البؤس، ما من أقبية أسوأ منها سوى أقبية المخابرات “لستُ أبالغ”. تذكرت بعضاً من الكلمات التي تعلمت في صغري. لم أتوقف عن إعادة شريط الذكريات في مخيلتي. فعلت كل ما بوسعي واستعملت كل ما تذكرت للصعود إلى السطح المزدحم المبحر إلى كمال الروح والهروب، بل باب البدء الدّال إلى الحياة.

 تسارعت الأحداث، ولم أستطع المكوث لحظة واحدة دون الركض لساعات يومياً “مجازياً” فلم يكن جسدي قادراً على الركض أبداً. شعرت بأني أصعد كل يوم درجة أخرى للأعلى. ولأول مرة لم أكن وحيداً… كثرت أيادي المساعدة، ولأن ولا واحدة منها كانت تتحدث باللغة العجيبة، الخليطة، لغة الشجار والصراخ، كان مفيداً جداً أن أتمسك بها. 

أدركت حينها أن عينيّ كانتا مغمضتين. نسيت كل الكره الذي تكبته لي المدينة المتوحشة، بل تجاهلته تماماً. وأصبحتْ فجأة إسطنبول مدينةً صغيرة الحجم، أدركت كيف أن المدينة أصغر مما اعتقدت بكثير وأنها ميتة وفارغة وعديمة الروح بدوننا، نحن المساكين. أدركت أن المعبر إلى الشمال العجوز يعبر إلى العالم بأكمله… واكتشفت أن العالم بأسره صغير وعلى بعد خطوات صغيرة من حيث أقف أنا. لم أعد أتوقف عن البحث عما أضعت. 

منذ لحظة خروجي من قبو آرغون، تلاشى إحساس الفاقد لأي شيء. أصبحت كل الطرق معبدة، لكي أسير فيها وأجد رويداً رويداً ما أضعت. وجدت شظايا جسدي مبعثرة في زوايا المدينة ومع كل شخص التقيت، مع كل ريح يهب بجوار شواطئ المدينة ومع تساقط أوراق أشجارها.  لملمت القطع المتبعثرة من جسدي وذكرياتي وروحي… وجدتها كلها، عثرت على نفسي التي أضعت… طريق واحدة تجمع كل الطرق حين تجد قطع الروح الضائعة، عثرت على جسدي، عثرت على روحي الضائعة حين التفتّ حولي وتوقفت عن إغماض عينيّ. حين تعلمت لغة الصراخ وهمّشتها. حررت واستعدت أجسادي من أقبية المدينة عبر آرغون. فربما أدين لآرغون في إيجاد ما أضعت منذ لحظة عبوري الأسلاك.

الكاتب: بشير فهد أمين

هوامش

موضوعات

...للكاتب/ة

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع