أُلقي في منتدى “كتابة (في) المنفى” في برلين، ونُشر قبل أيام في مجلة “الدراسات الفلسطينية”

منفى فلسطينيي سوريا المتعدّد

Sliman Mansour, The Village, 1990, Mud on wood, 85x80cm, Courtesy of the Artist and Gallery One

سليم البيك

محرر المجلة

لا إجابة لديّ عن المكان لدى ابن المخيّم، عن معنى الإقامة، عن معنى المنفى واللجوء، أعرف أن المخيمات كانت ممرات أطلنا المكوث فيها فبَنَينا بيوتنا هناك، من الباطون، وعمّرنا فوق البيوت طوابق. أعرف أنّ المخيم لا يبدو كممر، لا يبدو كترانزيت ننتظر فيه محتضنين حقائبَنا، منتظرين إعلاناً عن موعد رحلتنا لنعود. بنَينا في المخيمات حياةً فلسطينية، هي الحياة الفلسطينية التي يعرفها نصفُ الشعب الفلسطيني، وهي خارج فلسطين. قد لا يبدو المخيّمُ لأهله، لثلاثة أجيالٍ من أهله، إلا المكان الذي ننتمي إليه. وأمكنتنا في فلسطين، تلك القرية في الجليل في حالتي، ترشيحا، ليست إلا معنى ورثناه، لا تضمن لنا ألا نضيع فيها وألا يعتبَرنا أهلُها الساكنين فيها، الفلسطينيين الباقين فيها، مهما كانوا لطفاء، غرباءَ "خارج أمكنتهم" في فلسطين، كما كانوا "خارج أمكنتهم" في أوروبا.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

23/09/2017

تصوير: اسماء الغول

سليم البيك

محرر المجلة

سليم البيك

روائي وناقد فلسطيني، مقيم في باريس. محرّر "رمّان الثقافية". يكتب المقال الثقافي والسينمائي في "القدس العربي". له ٥ كتب، آخرها روايات: «عين الديك» (٢٠٢٢ - نوفل/هاشيت أنطوان، بيروت)، و«سيناريو» (٢٠١٩ - الأهلية، عمّان)، و«تذكرتان إلى صفّورية» (٢٠١٧ - الساقي، بيروت). نال مشروعه «السيرة الذاتيّة في سياق الجمعيّة: بحثٌ في السينما الفلسطينية» في ٢٠٢١ منحةً من مؤسسة "آفاق". مدوّنته: https://saleemalbeik.wordpress.com

الحديث عن المنفى لا يكتمل دون الحديث عن معنى الإقامة لدى المنفيّ، فهو يدرك أنّ مكاناً ما يكون منفى له من خلال إدراكه المسبق لمكانٍ آخر يكون له (أو كان له) مكان إقامة واستقرار وطمأنينة، دون أن أضطرُ هنا لتسمية هذا المكان بالوطن.

الفلسطيني في المخيمات خارج فلسطين، وفي الشتات، ملتبس عنده المنفى بالإقامة، لا حدود (لا مادية ولا معنوية) واضحة بين هذه وتلك، فلا تكون الإقامة في مخيمٍ في سوريا مثلاً، منفى، لكنها ليست إقامة بالمعنى الذي يفهمه المقيم غير اللاجئ أو غير المنفي، كالفلسطيني في فلسطين أو السوري في سوريا.

ليس المكوث لسبعين عاماً في مخيمات شُيّدَت حول فلسطين، إقامةً، وإن صارت السبعينُ مائة. وليس ابن المخيّم، في مخيّمه، منفياً. هذه الحال التائهة بين الإقامة والمنفى هي أقرب لأن تكون مروراً، ترانزيت طال قليلاً، أو كثيراً، فتخلّى المخيّمُ عن معناه كمكان موقّت ريثما يكمل المتنقّلُ/اللاجئ/المنفي الفلسطيني رحلتَه عائداً إلى المكان الذي تخلّى هو الآخر عن معناه ليصير، وهو القرية أو المدينة في فلسطين، لدى أهله الأصليين اللاجئين في المخيمات، رمزاً وطنياً ورومانسياً، متخلّياً عن واقعيّته وماديّته وما تتضمّن هذه الواقعية والمادية من روتين، يمتد من تردّد على مقهى هنا وموقف باصٍ هناك وبيوت جيرانٍ هنالك، إلى، وهذا ما أدركتُه أخيراً في فرنسا، امتلاك فاتورة كهرباء تحمل الاسم كاملاً كما تحمل عنواناً ثابتاً.

ليس هذا هو حال الفلسطيني، ابن المخيمات، مع أمكنته في فلسطين، بل هو حاله في مخيّماته التي، بهذه الحالة، لم تعد منفى، ففيها يتردّد على مقاه ويتلقّى فواتير. هنا قد نفهم أن يقول أحدُنا أن فلسطين عندي هي المخيم، لأن الأولى ليست سوى رمز وطني ورومانسي، والثاني مكان حقيقي لنا فيه (أو كان لنا فيه) ذكريات وأصدقاء ومخابز ودكاكين وفواتير كهرباء مكدّسة.

المنفى لدى فلسطينيي سوريا هو منفى سوري، وهو استمرار لمنفى فلسطيني. ورِث هؤلاء اللجوءَ عن أجدادهم، تعايشوا معه وألِفوه، وصار المخيّمُ وطناً، صار فلسطينَهم، قبل أن تحلّ عليهم نكبةٌ أخرى ليصنعوا لجوءهم الخاص. كانوا جزءاً أصيلاً من اللجوء الفلسطيني وهم الآن جزء أصيل من اللجوء السوري.

لذلك اكتسب المخيّمُ معنى فلسطين ومكانتها فيهم، وبقيت هي رمزاً غير مكاني ولا مادي، خيالاتٍ ممتدة من حكايات الجد إلى الكتب والتلفزيونات والإنترنت. يصرّ الكثير من الفلسطينيين أهالي هذه المخيمات، اليوم، على العودة من أوروبا إلى المخيم، ويصرّون كذلك على أنّ الإقامة فيه، وإن نالت كلّ الشروط لتكون دائمة، أنّها إقامةٌ موقّتة، فالتبس المخيّم بفلسطين، والمنفى بالإقامة، والموقّت بالدائم.

هذا الالتباس جعلني ألجأ لكلمة “مرور” في الحديث عن المخيّم وفلسطين وعلاقة أهلهما بهما. وهو ما عنوَنْتُ به الفصولَ في رواية «تذكرتان إلى صفورية» فكانت “ماراً بتولوز” و”ماراً من اليرموك” و”ماراً مع لِيا” وأخيراً “ماراً إلى صفورية”. لتكون حياةُ الشخصية الرئيسية في الأمكنة التي أقام فيها، مروراً، وتكون الإقامات محطّات انتظار ريثما يُكمل رحلتَه، أخيراً، إلى المكان الذي خرج جدّه منه قبل سبعين عاماً، دون أن يكون أكيداً أنه المكان الذي يزول فيه، أخيراً، الالتباس بين المنفى والإقامة، وبين المخيّم وفلسطين، وبين الاغتراب والانتماء.

اليوم، يصنع فلسطينيو سوريا منفاهم الخاص، لجوءهم الجديد، إلى أمكنةِ مرورٍ أخرى، مبتعدين، أكثر، عن مكانهم الأصلي، متخلّين عن فكرةِ أننا في المخيمات نكون أقرب إلى فلسطين، نحوّطها بمخيمات لنعود سريعاً يوماً ما، كما خرجنا سريعاً، لنجد أنفسَنا فجأةً فيها، كما وجد أجدادُنا أنفسَهم فجأةً لاجئين خارجها. اليوم، تخلى فلسطينيو سوريا عن ذلك، وتبعثروا، كالسوريين، في أمكنتهم الجديدة وبلا مخيّمات تشكّل وطناً موقّتاً وتحفظ هويةً تائهة وتجعل المنفى ملتبساً في إقامات جماعية.

الآن هنا نحن في منفى، وليس يوم كنّا في المخيّم. ليس الألمانُ سوريين وليس الجليلُ على الحدود. المنفى هنا اغترابٌ عن المكان وأهل المكان، هنا فقط فهمتُ ما قاله غسان كنفاني في قصة «أرض البرتقال الحزين»: “وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين.“

ينهي كنفاني قصّتَه بالحديث عن برتقالة حملها والد الرّاوي معه من فلسطين إلى لبنان بأنّها كانت “جافة يابسة..”. البرتقال ترميز للأرض، فهو “يذبل إذا ما تغيّرت اليد التي تتعهّده بالماء..”. لكن ما الذي نعرفه نحن، فلسطينيي سوريا في المخيّمات وأوروبا اليوم، عن هذا البرتقال؟ طرياً كان أم يابساً؟ حامضاً أم حلواً؟ ما الذي نعرفه ويدنا لم تتعهّده بالماء؟ ما الذي نعرفه عن البساتين هناك، أو -دونَ رمزيّة كنفاني- ما الذي نعرفه عن تلك الأرض وذلك الوطن؟ أحكي عن معرفة أهل الأرض للأرض وأهل المكان للمكان، أحكي عن معرفة ابن أي أرض لأرضه، لم يتشكّل احتلالٌ عليها هجّره منها وجعله أجيالاً من اللاجئين.

لم يكتفِ الاحتلال الإسرائيلي بتسبّبه بهذا الاغتراب اليوم بين ابن المخيّم وبرتقال فلسطين (أو أي شيء من فلسطين، فكمشة التّراب من هناك نحتفل بها بكلّ سذاجة إن وصلتْنا)، بل جعلَ الاحتلالُ من برتقالنا، في يافا، ماركة تجارية تملأ أسواق أوروبا، وقفتُ يوماً حائراً أمام هذا البرتقال، أنظر إلى واحدة من حبّاته، طريّة، وحلوةً بالضرورة، وقفتُ كأنّي أسألها رأيها في ما عليّ فعله.

***

هنا، في أوروبا، حيث سينال أحدنا مواطَنةً ربما، وحقوقاً مدنية كاملة لم ننلها في سوريا، تماماً كما لم ينلها السوريون أنفسَهم، هنا سيكون المكان مروراً آخر وقد يكون أخيراً، سيكون للمنفى شروطَه الكاملة والبيّنة، سيكون منفى مطمَئناً، وستكون فلسطين بعيدةً بقدر ما هي قريبة: بعيدة ببعد المخيّم عن أوروبا، بعيدة ببعد حياة المخيّم الجماعية عن حياة اللاجئ الفردي في أوروبا، بعيدة في اليوميات والجيران واللهجة غير المسموعة في الحارات، وقريبة كوجهة زيارةٍ يقوم بها ابن المخيّم بجواز سفرٍ جديدٍ يعطي لمنفاه وثيقةً تثبّته.

ابن المخيّم هذا، بعد سنين في أوروبا، ماراً بها، وقد وصلها عصراً أو فجراً، ووجد نفسَه، فجأةً، لاجئاً محتمَلاً، منتظِراً مقابَلةً ثم بريداً من الدّولة يخبره بقبولها له لاجئاً، مع إقامةٍ لعشر سنين (في فرنسا مثلاً) سيَفرح بها كما لم يُفرحه شيء في سنواته الأخيرة، ابن المخيّم هذا سينال المواطنة، وجواز سفر لا إشارة فيه لفلسطين، لا مكان ولادة ولا أي إشارة لفلسطين في أي أوراقٍ ثبوتيّة له. ابن المخيّم الفلسطيني سيجد نفسَه بعد سنين قليلة، أمام احتمالٍ جدّي بإمكانية زيارة فلسطين (وبساتين البرتقال فيها، مثمرة ومزهرة ووارفة)، زيارتها إنّما ليس كفلسطيني، وأقول “زيارة” وليس “عودة”، يزورها إنّما كأجنبي وكفرد منعزل عن المجموع الفلسطيني، فمنفاه الأوروبي جعله إمّا فلسطينياً خارج مكانه أو، لاحقاً، في مكانه غير فلسطيني.

افترضتُ هنا أن المكان، مكانَه، هو فلسطين، أو المدينة والقرية هناك، لكن سؤال المكان، بأل التعريف، مازال قلِقاً لديّ، حتى اليوم لا أستطيع الحسم لنفسي إن كان المكانُ هو المخيّم، حيث التبسَ المنفى بالإقامة، وحيث فلسطين الصغيرة، أو كان المكانُ تلك القرية في فلسطين التي لا يعرفها ابن المخيّم إلا من بعيد، والتي إن وَجد نفسَه، فجأةً، فيها، سيضيع، لأنه ليس من أهلها، سيضيع كغريب يحنّ إلى المخيّم الذي حفظ زواريبَه وأبوابَ بيوته بنقوشِها المتقشّفة ودِهانِها المقشّر.

لا إجابة لديّ عن المكان لدى ابن المخيّم، عن معنى الإقامة، عن معنى المنفى واللجوء، أعرف أن المخيمات كانت ممرات أطلنا المكوث فيها فبَنَينا بيوتنا هناك، من الباطون، وعمّرنا فوق البيوت طوابق. أعرف أنّ المخيم لا يبدو كممر، لا يبدو كترانزيت ننتظر فيه محتضنين حقائبَنا، منتظرين إعلاناً عن موعد رحلتنا لنعود. بنَينا في المخيمات حياةً فلسطينية، هي الحياة الفلسطينية التي يعرفها نصفُ الشعب الفلسطيني، وهي خارج فلسطين. قد لا يبدو المخيّمُ لأهله، لثلاثة أجيالٍ من أهله، إلا المكان الذي ننتمي إليه. وأمكنتنا في فلسطين، تلك القرية في الجليل في حالتي، ترشيحا، ليست إلا معنى ورثناه، لا تضمن لنا ألا نضيع فيها وألا يعتبَرنا أهلُها الساكنين فيها، الفلسطينيين الباقين فيها، مهما كانوا لطفاء، غرباءَ “خارج أمكنتهم” في فلسطين، كما كانوا “خارج أمكنتهم” في أوروبا.

بدأتُ هذه الأسطر بالقول أن الحديث عن المنفى لا يكتمل دون الحديث عن الإقامة، ثم بأن هنالك التباسٌ لدى فلسطينيي سوريا بين الإقامة والمنفى، لأنتهي قائلاً بأني، كواحد من هؤلاء، لا أعرف إن كان المخيمُ أم فلسطين، هو الإقامة وما دونه منفى، وأعترف بأنّه سؤالٌ معلّقٌ وقلقٌ ولا إجابة لي عنه، لكنّي أعرف أنّ ابن المخيّم، اليوم، في المانيا وفرنسا وهولندا وغيرها، إن اختار العودة لمكان ينفي فيه منفاه الأوروبي، سيختار المخيّم.

الكاتب: سليم البيك

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع