ج- التناقض بين الوطني والخارجي
على عكس الأحزاب العربية التي نشطت في فلسطين الانتدابية، وعملت إلى حد ما باستقلالية؛ ارتبط الحزب الشيوعي في فلسطين بالمواقف التي تمت صياغتها في اللجنة المركزية للحزب في موسكو. وحتّى بداية الحرب العالمية الثانية، ارتبط الحزب الشيوعي في فلسطين، تنظيميّاً، بـ”الكومنترن”، وبالسياسات والتوجيهات التي حددها الأخير، وأثّر ذلك الارتباط التنظيمي في قدرة الحزب في فلسطين على التعامل باستقلالية مع قضاياه الوطنية. وللوقوف على عمق الارتباط بين مواقف الحزب وسياسات الاتحاد السوفيتي، بما يتجاوز مثال “الكومنتيرن” الذي سبقت الإشارة إليه، يمكن تتبّعُ تغيّر مواقف الحزب في القضايا القومية تبعاً لعمق العلاقة مع الاتحاد السوفيتي في فترات متفاوتة؛ فمثلاً تبنّت عصبة التحرر، في ظل حل “الكومنترن” وانشغال الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية وتحالفه مع قوات الحلفاء، خطاباً وطنيّاً يقدّم القومي على الطبقي، غير أن هذا الموقف بدأ بالتغير في ظل إعادة تمتين العلاقة بين الأحزاب الشيوعية والاتحاد السوفييتي في أعقاب تعافيه من إنهاك الحرب العالمية الثانية أولاً؛ وتالياً إقامة ستالين لـ”الكومنفورم” (مكتب الإعلام الشيوعي) في عام 1947، والذي شكّل إطاراً تنظيميّاً بديلاً لـ”الكومنترن”، ومن ثمّ احتدام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا لاحقاً. وبينما أعطى “فتور” العلاقة مع الاتحاد السوفييتي خلال الحرب مساحة للشيوعيين العرب واليهود، على حد سواء، من أجل اتخاذ مواقف متناغمة مع “مصالحهم”؛ فإن هذه الاستقلالية تراجعت لاحقاً حتى وصلت درجة الارتباط الكامل، والذي تجلّى في تبنّي موقف الاتحاد السوفييتي المتعلق بالتقسيم. لقد كان تبنّي الحزب الشيوعي للتقسيم، بحسب الباحث ماهر الشريف (2004:85)، دلالة على أن “الحزب لا يتصرف باستقلالية، بل يخضع لقيادة الحزب في الاتحاد السوفييتي ولقراراته وتوجيهاته”. (ماهر الشريف 2004، ص 85)
هذا “الإلحاق” كان قد بدأ مع تبنّي المؤتمر السادس لـ”الكومنترن” العالمي، في عام 1919، سياسة “طبقة ضد طبقة”، والتي تم وفقها التعامل مع الصراع في فلسطين من منظور صراع الطبقة العمالية لليهود والعرب في مواجهة البرجوازية العربية واليهودية الصهيونية على حد سواء، الأمر الذي عنى، بحسب الشريف (2004:85)، ليس فقط الوقوف على مسافة واحدة من البرجوازية العربية والصهيونية؛ بل واتخاذ مواقف مناهضة لسياسات القوى الوطنية البرجوازية العربية التي ركّزت على الطابع القومي للصراع. وقد انعكس هذا الأمر، بحسب الشريف أيضاً، مباشرة على مواقف الحزب الشيوعي في فلسطين، والذي أخذ موقفاً مناهضاً من قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وهاجم سياستها معتبراً أن مطالبها بإقامة مجلس تشريعي “هدف الزعماء الخونة الذين يرون فيها وسيلة لتسلّم المناصب العليا في الإدارة، وفرصة للجلوس إلى جانب الإمبرياليين الإنكليز.“ (١)
علاوة على ذلك، فقد أدى هذا “الإلحاق” إلى تعرّض أعضاء الحزب للنقد اللاذع، واتّهامهم بأنهم مجرد “أدوات” في يد الاتحاد السوفيتي يحرّكها وفقاً لمصالحه، وذلك أمر متناقض، بالضرورة، مع المصالح القومية لشعوبهم. وفي هذا السياق مثلاً، كتب راشد حسين، الذي كان بنفسه عضواً في “مبام”، في عام 1959: “إن مصيبة الحزب الشيوعي في كل بلد تكمن في تقلّبه. وتقلّب الحزب الشيوعي مرتبط بسياسة موسكو. وسياسة موسكو مرتبطة بمصالح الاتحاد السوفييتي. ومصالح الاتحاد السوفييتي لا يمكن أن تعبّر عن مصالح كل بلد يوجد فيه حزب شيوعي” (ويعدّد حسين جملة التقلبات التي مرّ بها أعضاء الحزب، مثل ميكونس وطوبي وحبيبي، للتأكيد بكلماته على الانقياد الأعمى وراء التوجيهات التي تصدر في موسكو، خاصة فيما يتعلق بالموقف من التقسيم وإقامة دولة يهودية، وهو ما رفضه الشيوعيون العرب؛ ثم عادوا وقبلوا به بعد الخطاب الشهير لنائب وزير الخارجية السوفييتية، أندريه غروميكو، (٢) وذلك ما سيتمّ تفصيله في الجزء اللاحق. (راشد حسن، 1959)
د- إلحاق الوطني بالخارجي في ظل الحرب الباردة
كما ذكرت سابقاً، فقد تمسّكت عصبة التحرر الوطني، حتى 19 كانون الأول 1947، بموقف واضح معارض لتقسيم فلسطين، ومناهض بشدّة للصهيونية، باعتبارها وكيلة مصالح استعمارية وإمبريالية. وتناغم هذا الموقف مع المواقف الكلاسيكية السوفييتية المناهضة للصهيونية، كما تناغم مع موقف لينين (٣) وقرارات “الكومنترن” في المؤتمر الثالث عام 1920، وجاء متناسقاً مع التحليل الماركسي للمسألة القومية عامة، وللموقف من المسألة اليهودية، كما عبّر عنه كارل ماركس خاصة.
وما دام الاتحاد السوفييتي واقفاً ضد الصهيونية ومخططات التقسيم؛ (٤) لم يكن أمام العصبة سوى التعبير عن موقف السواد الأعظم للعرب من رفض اقتسام فلسطين. لكن العصبة وجدت نفسها أمام موقف إشكالي مع تغيّر موقف الاتحاد السوفيتي عام 1947، كما تمّ الإعلان عنه في خطاب غروميكو في 14 أيّار من العام ذاته، في الاجتماع الاستثنائي للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي خُصص لبحث مصير فلسطين. وأعلن غروميكو، في ذلك الخطاب، عن موافقة الاتحاد السوفييتي على مخطط تقسيم فلسطين إلى دولتين؛ يهودية وأخرى عربية، قائلاً: “إن التجربة السابقة، وخاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، تُظهر أن ليس هناك دولة أوروبية غربية تمكّنت من توفير مساعدة ملائمة للشعب اليهودي في الدفاع عن حقوقه وعن وجوده تجاه عنف الهتلريين وحلفائهم. وهذا واقع غير سارّ، ولكن ينبغي، لسوء الحظ، كما بالنسبة لوقائع أخرى، الإقرار به… وهو ما يفسّر تطلّعات اليهود لإقامة دولة خاصة بهم. وسيكون من غير العدل ألا نأخذ ذلك بعين الإعتبار، وأن ننكر على الشعب اليهودي تحقيق تطلعه هذا”.(داوود تلحمي 2012)
يمكن الادعاء، إذن، أن تغيّر موقف الاتحاد السوفيتي من التقسيم أولاً، والصهيونية ثانياً، ليس نابعاً عن “غيرة” على المصلحة الفلسطينية القومية؛ بل يرتبط، بحسب كثير من الباحثين، بتغير السياق التاريخي والظروف السياسية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وإرهاصات الحرب الباردة، التي يؤرخ لها بخطاب الرئيس الأمريكي في حينها، هاري ترومان، في 12/3/1947، والذي تحدّث فيه عن ضرورة “احتواء” التمدد السوفييتي والشيوعي في العالم. وفي هذا السياق، يشير الكاتب الفلسطيني داوود تلحمي (2012) إلى أن خطاب ترومان شكل نقطه تحول صارت موسكو في أعقابها تنظر إلى “مختلف القضايا الدولية من منظار تلك المواجهة”. وفي خضمّ ذلك، وتحت زعامة ستالين الحديدية، لم تعد المواقف من القضايا تقاس وفقاً لعلاقتها بمصطلحات كـ “الأممية” و”الطبقية”؛ بل وفقاً للمصالح المحددة في سياق المواجهة المستجدّة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. وقد رأى الاتحاد السوفيتي، أو، على الأقل، راهن على أن تكون الدولة اليهودية منطقة نفوذ له؛ أو منطقة متحالفة معه على أقلّ تقدير، وذلك في منطقة محكومة من قبل أنظمة عربية “رجعية” متحالفة مع بريطانيا.
عطفاً على ذلك، يجدر التذكير هنا بما أشرنا إليه في موضع سابق، وهو أن القائم بأعمال السفارة السوفييتية في العراق، أ. سلطانوف، كان قد حذّر، وقتذاك، في مذكرة داخلية بعثها إلى موسكو، عشية التصويت على قرار تقسيم فلسطين، من أن النتائج السلبية المحتملة للدعم السوفييتي للدولة اليهودية تفوق النتائج الإيجابية، مشيراً إلى احتمال نفور العالم العربي، وتدعيم التحالف بين بريطانيا والولايات المتحدة والحكام الرجعيين في الجامعة العربية، وتعزيز كتلة إسلامية معادية للسوفييت مكوّنة من الجامعة العربية وتركيا وباكستان، واضطهاد “الحركة الديمقراطية والثورية”، والأهم من ذلك، احتمال أن “تتحول الدولة الصهيونية إلى قاعدة للتمدد الأميركي” في الشرق الأوسط. (داوود تلحمي 2012)
وضع “الانقلاب” السوفييتي العصبة في مأزق كبير، وهدّد مصداقيتها وما اكتسبته حتى ذلك الحين من رأس مال رمزي بسبب مواقفها المناهضة للصهيونية وللتقسيم. وقوبل الموقف السوفييتي بمعارضة بعض القيادات المركزية للعصبة، مثل إميل توما وبولس فرح، لكن تبناه كل من توفيق طوبي وإميل حبيبي. وبادر الموافقون، بعد ثلاثة أشهر من صدور قرار التقسيم، إلى عقد مؤتمر لعصبة التحرر في الناصرة، في شباط 1948، وانتخب فيه فؤاد نصار أميناً عامّاً للعصبة، واستثني منه المعارضون، وتم فيه إعلان موافقة العصبة على التقسيم. بمعنى آخر، تم خلال هذا المؤتمر إسكات المعارضة. وفي هذا السياق، يشير أحد الشيوعيين الذين عاصروا تلك الأحداث إلى أن ثمة اجتماعاً للمعارضين عقد في حيفا في ذلك الوقت، ودعا فيه البعض إميل توما إلى إقامة حزب جديد يعارض قرار هيئة الأمم المتحدة، لكنه لم يوافق على ذلك. (٥)
وبالرغم من المحاججات التي تبنّاها الشيوعيون الفلسطينيون خاصة، والعرب عامة، بأن الموافقة على التقسيم جاء لدرء نكبة محدقة، وقبول الخيار الأقل سوءاً؛ إلا أن تزامن هذا “الانقلاب” مع تغيّر موقف موسكو، أسهم في إظهار الشيوعيين بمظهر “الملحق” لموسكو، والذي “يؤتمر” بأوامر خارجية، كما عبّر عن ذلك الشاعر راشد حسين في مقالته شديدة اللهجة “حين يجوع التاريخ” (راشد حسين 1959).
صيرورة التناقضات في ظل النكبة وإقامة الدولة اليهودية
الخروج من الوطن ومحاولات الدخول في الدولة
تُظهر بعض وثائق أرشيف الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي تمّ فتحه أمام الجمهور عام 2016، أن بعض أعضاء العصبة انضمّوا إلى جهود تطبيق قرار التقسم مباشرة بعد صدور القرار في 29 تشرين ثانٍ 1947، فيما تأخرت موافقة البعض الآخر. فقد أظهر بروتوكول مكتوب بخط اليد لاجتماع عُقد في 30 تشرين ثانٍ 1947، شارك فيه عن العصبة إميل حبيبي، وفؤاد نصار، وشخص ثالث اسمه غير واضح، مع شورا وولف عن الحزب الشيوعي؛ أن التنسيق بين أعضاء من عصبة التحرر وأعضاء من الحزب الشيوعي من أجل تنفيذ قرار التقسيم بدأ مباشرة بعد إقراره، وقد جاء في بروتوكول الاجتماع: “تم التوصل إلى اتفاق فيما يخص الوظائف الحالية التي تقف أمامنا:- تحقيق استقلال كامل من خلال محاربة الإمبريالية؛ محاربة كل تحد سواء داخلي أو خارجي… وفيما يتعلّق بمقترح العمل، تمّ التوافق على أنه خلال الفترة الأولى سيكون وضع الرفاق اليهود الأسهل، وأنهم سيسعون نحو التوصل لاتفاقات مع أحزاب يسارية أخرى في المعسكر اليهود…. العرب سيضطرون للسباحة عكس التيار.“ (٦)
بعد الموافقة على التقسيم، وفي أعقاب إقامة إسرائيل، تم إدماج الشيوعيين العرب، الذين وافقوا على قرار التقسيم وسيطروا على عصبة التحرر، في الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي أُعلن عن تأسيسه في أكتوبر 1948. لكن هذا الاندماج جاء في ظل تقاطع مجموعة من العوامل المهمة، وفي سياق مركّب من المهم تفكيكه لفهم آثاره الاستراتيجية على تطور علاقة الحزب بالمسألة القومية، خاصة في مرحلة إقامة إسرائيل عام 1948، والسنوات الأولى التي تلت ذلك:
الاندماج تمّ بقيادة جزء من أعضاء العصبة، وليس بالإجماع؛ بل إنه كان محل صراع داخلي، وجاء من قبل المجموعة ذاتها التي يقف على رأسها توفيق طوبي وإميل حبيبي، والتي نجحت، خلال مؤتمر شباط في الناصرة، بفرض الموافقة على التقسيم رغم معارضة جناح إميل توما، (٧) وقد سبق ذلك قيام الأعضاء العرب بنقد ذاتي أعلنوا فيه أنهم أخطؤوا بعدم العمل مع الشيوعيين اليهود، فيما تمّ استبعاد إميل توما لمعارضته قرار التقسيم، ولم تتم إعادته إلا بعد أن قام بكتابة نقد ذاتي، ومُنع حتى عام 1970 من تقلّد أي منصب رسمي. (جمال 2011، Budeiri 1979).
جاء الاندماج عمليّاً في ظل أجواء من التوافق بين الاتحاد السوفيتي والقيادة الصهيونية على إقامة الدولة اليهودية في فلسطين.
عقد مؤتمر الاندماج في أكتوبر 1948 في حيفا، بعد أشهر قليلة من طرد أغلب سكان حيفا العرب ما بين كانون أول 1947 ونيسان 1948 (عارف العارف 210-217)، وبعد أن هدّمت العصابات الصهيونية فيها أغلب الأحياء العربية، وتحولت إلى خرائب بإشراف مباشر من رئيس البلدية، آبا حوشي، وذلك لمنع عودة لاجئيها.
جاء الاندماج على خلفية المشاركة الفاعلة لأعضاء الحزب اليهود في المجهود الحربي والسياسي لإقامة الدولة، وتمكّن الصهيونية من إقامة دولتها على أنقاض نكبة الفلسطينيين.
من هنا، يمكن الاستنتاج أن اندماج العصبة شكّل، عمليّاً، تتويجاً لانتصار تيار الفكر الصهيوني الذي دافع عنه الأعضاء اليهود في الحزب قبل إقامة إسرائيل، ودعا إلى حلّ على أساس قومي-إثني (دولة ثنائية القومية) وانهزاماً للتوجه “القومي المدني” الذي طرحه التيار العربي عبر دعوته لإقامة دولة واحدة “ديمقراطية علمانية”؛ أو ببساطة انتصاراً -ولو مرحليّاً- لتيار ميكونس على تيّار إميل توما. وقد انعكس هذا الانتصار مباشرة على خطاب الحزب ومواقفه من القضايا المختلفة، وعلى محاولاته مفهمة وصياغة الخارطة الاجتماعية والسياسية وتفاصيلها. ومن مراجعتي لصحيفة “الاتحاد” في السنوات الثلاث الأولى التي تلت إقامة إسرائيل، كان واضحاً وجود محاولة لتغييب البعد الاستعماري للدولة، مقابل تكثيف التوصيف المستمدّ من القاموس الماركسي والصراع الطبقي، فكانت “الاتحاد” تنشر التقارير التي يعدّها مراسلها الخاص عن معاناة “اللاجئين” في “مخيمات اللجوء”، وتوغل في وصف حياتهم المزرية، وتعدّد الاحتجاجات التي يقودها الشيوعيون للاعتراض على سياسات الدولة المناوئة للطبقات المسحوقة تارة، وللاجئين تارة أخرى، ليتبيّن أن “اللاجئين” المقصودين هم المهاجرون اليهود الوافدون إلى إسرائيل، وأن “مخيمات اللجوء” هو الاسم الذي أطلقه الحزب على “المعبروت”، أو أماكن السكن المؤقتة لهؤلاء المهاجرين الذين ستنزع الدولة نحو توطين جزء كبير منهم في بيوت الفلسطينيين الذين طردوا أو نزحوا في فترة الحرب من بيوتهم، ومنعوا من العودة إليها. في المقابل، كانت الصحيفة تتجاهل، أو تتراخى، على الأقل، تجاه معاناة الفلسطينيين وما لحق بهم، لأن الحزب اعتبر ما أصابهم نتاجاً لمؤامرة اشتركت فيها الرجعية العربية.
لكن رصد مواقف وخطابات الحزب في المرحلة التي تلت إقامة إسرائيل تظهر أن علاقة الحزب بالدولة، وبالتالي بالمسألة القومية، مرّت أولاً في مرحلتين متمايزيتن، وتالياً كان ثمة خطاب متناقض: المرحلة الأولى هي مرحلة هيمنة الخط الصهيوني على الحزب، والذي يقع في صلبه التماهي مع الدولة ومؤسساتها، ويترتب عليه استبدال خطاب الوطن بخطاب المواطنة، وتحويل المساواة في ظل “الدولة” لتصبح مشروع النضال المتبنّى، وقد استمرت هذه الفترة منذ إقامة إسرائيل (وللدّقة منذ الموافقة على قرار التقسم) وحتى بداية عام 1953، ووجدت خير تعبيراتها في الخطابات السياسية للشيوعيين العرب؛ أما المرحلة الثانية، التي يمكن تسميتها مرحلة “الخيبة” من الدولة والعودة الرمزية إلى الوطن، فابتدأت مع أفول المرحلة الأولى في بدايات 1953، ووصلت ذروتها في إعادة انقسام الحزب على أساس قومي عام 1965، واتّسمت بأمرين؛ أولاً باعتمادها الحيّز الثقافي حاضنة ومنبراً لإنتاج “الإيثوس” (روح الشعب) القومي الأصلاني الفلسطيني، وثانياً بتأسيسها على يد جيل شاب لم يكن جزءاً من الصدامات السابقة بين التيار الصهيوني والعربي، ومن أهم رموز هذه الفترة: توفيق زياد، وسميح القاسم، ومحمود درويش.
مرحلة التماهي: 1948-1953
اعتبرت عصبة التحرر أن قبول قرار التقسيم يشكّل أساساً لحلّ الصراع في فلسطين، لكنها لم تبد اعتراضاً حقيقيّاً على ضم المناطق المعدّة للدولة العربية، حسب القرار، إلى سيطرة إسرائيل، بل زيادة على ذلك، وبحسب وزير الأقليات الإسرائيلي الأول، باخور شطريت، “كان أعضاء عصبة التحرر العرب أول مجموعة منظّمة مثلت أمام سلطات الدولة وأعلنت عن أعضائها رعايا لدولة إسرائيل“ (٨)، حتى في مناطق كالناصرة.
وقد نشرت جريدة “دافار” العبرية في 15 أيلول 1948، وعلى صفحتها الأولى، ترجمة لإحدى المناشير التي وزّعتها العصبة في جريدة “معاريف”، جاء فيها: “عصبة التحرر الوطني تطلب: خروج الجيوش العربية، وتنفيذ قرار الامم المتحدة“ (٩)، رفعت العصبة شعارات تندّد بدخول الجيوش العربية إلى فلسطين، منها: “أيها المحتلون الخونة اخرجوا من بلادنا”. كما وجّهت نداءات إلى الجنود في الجيوش العربية تدعوهم فيها إلى “العودة إلى أوطانهم وتوجيه ضرباتهم إلى المستعمر المحتل وإلى أذنابه“ (١٠). وفي حين كان خطاب العصبة السابق يتحدّث عن مواجهة ذات طابع قومي، ويعارض بشدّة خطط التقسيم؛ صار خطابها اللاحق يّتحدث عن “حرب بين الشعوب وبين الاستعمار الذي تمثّله بريطانيا، وبين الشعوب والرجعية“ (١١)، فيما ظل مفهوم الرجعية فضفاضاً ويتسع للكثير من المقاصد.
وقد نشرت صحيفة “معاريف” الإسرائيلية، في 3 نيسان 1948، أن عصبة التحرر وزّعت جريدة باسم “المقاومة الشعبية”، دعت فيها إلى مقاومة الجيوش العربية. ويذكر المؤرخ عادل مناع، في هذا السياق، أن صحيفة “الاتحاد” بدأت تتحدث عن “تحرير الجليل” من جيش الإنقاذ ومن فوزي القاوقجي، مع العلم أنه كان من المفروض أن تكون الجليل ضمن الدولة الفلسطينية وفق قرار التقسيم الذي أيّدته. ويذكر كذلك أنه يتّضح من وثائق المخابرات الصهيونية في حينه “شاي” وجود دعوة لعدم التعرض للشيوعيين العرب وعدم ملاحقتهم “لأنهم يقومون بدور لصالح إسرائيل، وأعداؤهم أعداؤنا“ (١٢). لكن في مقابل ذلك، بات كثير من الشيوعيين العرب ملاحقين من قبل الدول العربية وأنظمتها، وفتحت صوبهم، بحسب الشيوعي السابق سميح غنادري، “نيران من اتهامات مُغرضة بالخيانة القومية والوطنية، ولوحقوا من ذوي القربى وجرت محاولات لاغتيال بعضهم”. (ماهر الشريف 2012)
صاغ الشيوعيون موقفهم من الدولة اليهودية وفق الموقف السوفييتي منها، وتغير ذلك الموقف تبعاً لتغيّر مواقف الأخير؛ كما يظهر من تزامن تقلّب موقفهم مع تقلّب العلاقات بين إسرائيل والاتحاد السوفييتي.) ظلّت مواقف الشيوعيين تترنّح حتّى وصلت حدّ التماهي التام مع قيام الدولة، بل إنهم اعتبروا قيامها نتاج نضال جماهير نجحت في الوقوف في وجه المؤامرات والإمبريالية. وفي هذا السياق، يشكّل خطاب توفيق طوبي عام 1949، ومن منبر الكنيست، مدخلاً مهمّاً لمقاربة الموقف الذي حمله الحزب الشيوعي من المسألة القومية:“
إن إقامة دولة إسرائيل ووقوفها أمام مؤامرات وتدخلات إمبريالية، كانت ممكنة من خلال مقاومة جماهير الشعب في إسرائيل وحربها للاستقلال والحرية، ونتيجة للدعم من كل الجهات التي حصلت عليها هذه القوات المحاربة من القوى الديمقراطية في العالم، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي الديمقراطي الشعبي (…) إن محاولات الإمبريالية لإفشال قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947، حول إقامة دولتين مستقلتين في أرض إسرائيل، يهودية وعربية، والهجوم العسكري للإمبريالية من خلال عملائها، الحكام العرب الرجعيين – بهدف منع قيام دولة إسرائيل – كل ذلك كان في آن واحد موجّهاً أيضاً ضد مصالح الشعوب العربية في أرض إسرائيل وفي البلدان العربية؛ ضد إقامة دولة مستقلة وديمقراطية للشعب العربي في أرض إسرائيل. (في يعقوبسون 2012) (١٣).
تكمن أهمية خطاب طوبي من منبر الكنيست وما يحمله، ليس فقط في ما يصرّح به؛ بل في ما يهمّشه ويخفيه من خلال لغته الخطابية، أي في حقل الخيارات السياسية والتحالفات التي يفتحها، وتلك التي يغلقها على حد سواء، في هذه اللحظة السياسية الحاسمة. فهو يعمل أولاً، من خلال إظهار إقامة دولة إسرائيل كأنها قصة نجاح وتتويج لنضال جماهير الشعب وأصدقائه، على تسويغ الضرر الذي لحق بسكان البلاد الأصليين من تهجير وتشريد باعتباره أمراً هامشيّاً (مقابل القصة كما يصوّرها طوبي)، أو نتاجاً لمؤامرة قوى خارجية؛ وليس قوى الشعب المناضلة في سبيل حريتها (جمهور إسرائيل). إن ما يقوم به هذا الخطاب هو تحديد الأعداء -الإمبريالية والرجعية العربية- مقابل الأصدقاء -الاتحاد السوفيتي والقوى الديمقراطية في العالم- وهو ما يعني أن الحزب الشيوعي سيعمل بالتوافق مع الدولة؛ طالما استمرت في خارطة تحالفها مع القوى الديمقراطية.
حتى عام 1952، هيمن على خطاب الشيوعيين العرب خطاب سياسي إسرائيلي المزاج والطابع، سواء أكان ذلك خلال الخطابات التي ألقاها أعضاؤه من منبر الكنيست؛ أو من خلال منشوراته، بما في ذلك صحيفة الاتحاد في تلك الفترة. فمثلاً، كان الحزب يطلق على “المعبروت” اسم “مخيمات اللاجئين”، ويقيم التظاهرات من أجل تحسين الوضع المعيشي لـ”اللاجئين اليهود بمعنى آخر، كان الحزب قد موقع نفسه في الخارطة الإسرائيلية، وإن كان يناكفها ويعارض سياساتها وينظّم التظاهرات لمعارضة السياسات الـ”ظالمة” للدولة، وهو ما يمكن تلخيصه فيما صرّح به طوبي (الذي كان في حينها عضواً في الكنيست عن الحزب الشيوعي) خلال مقابلة أجريت معه من قبل جريدة “معاريف”، في 11 شباط 1949، حول شعوره تجاه كونه عضواً في الكنيست الإسرائيلي، قائلاً: “في الحقيقة ليست لدي مشاعر خاصة… أنا أدخل الكنيست بشعور مواطن إسرائيلي، كنيست دولة إسرائيل التي دعمتُ قيامها دائماً وأبداً، وفقاً لقرار الأمم المتحدة”، وأضاف: “إن (بقاء) دولة إسرائيل ديمقراطية وغير مرتبطه بأية تدخلات أجنبية هي المصلحة المشتركة للأكثرية اليهودية والأقلية العربية… سأستخدم هذا الصرح العالي لأحارب من أجل حقوق الشعب عامة وطبقة العمال خاصة، يهوداً وعرباً، بصفتي عربيّاً أجد أن من واجبي أن أحارب بكل ما أوتيت من قوة من أجل تحسين ورفع مستوى حياة السكان العرب في دولة إسرائيل وفي المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي. سأحارب كل بادرة فاشية ورجعية، سأحارب كل سياسة تمييز بين الأعراق والطبقات.“
وكان من نتائج هذا التماهي أن دعم الحزب سياسات صهيونية؛ فقد أيّد خلال أعوام 1948-1950 الهجرة اليهودية، واعتبرها “حاجة وجودية لإسرائيل”، وقد صوّت بأعضائه الأربعة لصالح قانون “العودة” الإسرائيلي (يعقوبسون وروبنشطاين 2003، 257-261)، ناهيك عن مطالبه بتجنيد العرب في صفوف الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي رفضته الدولة. كما رفع الشيوعيون العرب علم إسرائيل في احتفالاتهم، وأنشدوا النشيد القومي “هتكفاه” في مؤتمراتهم، بمعنى أن قرارهم تعدّى الموافقة على التقسيم بوصفه شرّاً لا بد منه؛ إلى التماهي مع الدولة واعتبار أنفسهم شركاء في صنعها، وسط إزاحة مستمرة للمعاني الطبقية والشيوعية والماركسية لمواءمتها مع واقع استعماري يشكّل نقيضها.
نهاية التماهي:
“إن كانت هناك حاجة لأن نطلق النار فسنطلقها“
لم تكن علاقة تماهي الحزب بالدولة الوليده غير مشروطة، بل كانت مرتبطة، بشكل عضوي، بموقف الدولة من الاتحاد السوفييتي، ومن موقعها في معادلة الصراع في ظل الحرب الباردة بين الكتلة الغربية والكتلة الشرقية. من هنا بدأت حالة التماهي بالاختلال سريعاً مع حسم بن غوريون انحياز إسرائيل إلى جانب الموقف الأمريكي، وهو ما تمّ إعلانه عمليّاً في حرب الكوريتين (1950-1953)؛ ففي تلك الفترة، التي كانت تسود فيها مخاوف من اندلاع حرب عالمية ثالثة، أجرى حزب “مباي”، بقيادة بن غوريون، نقاشات موسّعه تحت عنوان “موقعنا في حرب عالمية ثالثة”، وقد كتب حينها بن غوريون: “مما لا شك فيه أن ستالين ينوي إبادة يهود الاتحاد السوفيتي وتابعاتها (١٤) والذين لا يمكن برأيه التأكد من وفائهم”. (نكديمون 2011)
وفي ظل وقوف بن غوريون إلى جانب ما اعتبره الحزب “القوى الإمبريالية”، خبت مرحلة التماهي بين الدولة والحزب حتى وصلت نهايتها في شباط 1953. تمخّضت هذه النهاية، بالتحديد، على خلفية موقف الحزب إزاء يُعرف في التاريخ الإسرائيلي بـ”محاكمة الأطباء اليهود في موسكو”، والتي تم خلالها اتهام سته أطباء يهود، من أصل تسعة، بالتآمر على قتل قيادات عسكرية في الاتحاد السوفييتي. فقد وقف الشيوعيون في إسرائيل في هذه القضية موقفاً “مناصراً تماماً” للموقف السوفييتي، الأمر الذي جعل بن غوريون، بحسب الصحافي الإسرائيلي المهتم بتاريخ الييشوف شلومو نكديمون (2011)، “يستشيط غضباً بعد أن قرأ الخبر في جريدة (كول هعام) العبرية، والناطقة باسم الحزب الشيوعي”. وبحسب نكديمون، فقد علّق بن غوريون على الخبر قائلاً: “سنضحّي بأنفسنا إذا سمحنا لهذا الطابور الخامس أن يستمر في العربدة بين صفوفنا”، وكتب أيضًا يقول: “ستكون هذه ديمقراطية غبية وانتحارية؛ إن كانت، ومن خلال مفهوم خاطئ لحرية التعبير والتنظيم، ستسمح لمجموعة المرتدين والخونة القوميين هؤلاء بأن يعربدوا في الصحافة والاجتماعات والكنيست”. (نكديمون 2011)
بناء على ذلك، يمكن الاستنتاج أن الطلاق لم يكن متعلّقاً، لا من قريب ولا من بعيد، بالشعب الفلسطيني ولا بقضاياه؛ بل بتبنّي الحزب مواقف دولة خارجية، وهو ما اعتبره بن غوريون “خيانة” وإشارة إلى أن الشيوعيين، عمليّاً، هم “طابور خامس بين صفوف الدولة”. وقد وصلت الأمور ببن غوريون حدّ قوله: “إن كانت هناك حاجة لأن نطلق النار على الشيوعيون فسنطلقها. (نكديمون 2011 )
لكن حالة “الطلاق” تلك فجّرت مساحة جديدة للفعل والنضال ستتحول إلى حاضنه للفعل الثقافي. من المهم هنا الإشارة إلى أن هذا التحول حدث أيضاً بسبب ارتباطه بتحولات إقليمية أسهمت في شرخ العلاقة بين الحزب وبين الدولة؛ أهمها الحرب على سيناء في عام 1956، والتي أظهرت، بوضوح، اصطفاف إسرائيل إلى جانب “الإمبريالية” ضد الاتحاد السوفييتي، وذلك أيضاً في الوقت الذي تصاعد فيه التقارب بين الرئيس المصري في حينها، جمال عبد الناصر، والاتحاد السوفييتي، وتتوج عام 1955 بصفقة أسلحة قدّمها الأخيرة إلى مصر.
كان هذا القسم الثاني من الدراسة المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية، عدد ١١٢، خريف ٢٠١٧.
أمس نشرنا القسم الأول وبعد غد ننشر القسم الأخير..
الهوامش