على غرار معظم أعمالهِ الإبداعيّة السابقة؛ يختار الشاعر والمُترجم الفلسطيني سامر أبو هواش عنواناً لافتاً لمجموعته الشِعريّة الجديدة “ليس هكذا تُصنع البيتزا”، الصادرة عن منشورات المتوسط (2017)؛ وإنْ بدا هذا “العنوان” أشبه بنكتةٍ أو أحجية، نجد أنّ عناوين القصائد أكثر جديّة، ومتمّمة في الآن معاً للعبة “العنونة”، وتحديداً من جهة تناولها لهموم الحياة اليوميّة المعيشة، بنداوتها وحميميّتها. وذلك عبر رسم مشاهد شِعريّة خاطفة وذكيّة لعوالم حقيقيّة، أي أننا هنا -وجهاً لوجه- أمام شِعريّة الواقع بتفاصيله المهملة، ليتم -بعد التقاط المادة الخام المرجوّة- تدوير المشهد المؤطّر واختزاله.
تحتفي قصيدة سامر أبو هواش (مواليد صيدا، 1972)، بالجوانب الحياتيّة كافةً، دونما استثناء، مهما بدتْ بسيطةً وخارج دائرة الأضواء والاحتفاء، وتحديداً تلك العوالم المهمّشة؛ فنجد “السيراميك” الجامد جنباً إلى جنب مع “القُبلة” الدافئة، وقد يحدث أن يجعل الشاعر من الشيء نقيضاً له أيضاً؛ وقد سُبِقَ لفرناندو بيسوا أن أكّد ذات مرّة وظيفة الشِعر من وجهة نظره، حين قال: “كنْ شاعرا في كل شيء تفعله، مهما يكن بسيطاً وقليل الشأن. كن شاعراً خارج النص قبل أن تكون شاعراً فيه. كن شاعراً في مأكلك ومشربك وسلوكك وحبّك وذهابك وإيابك ونومك. كن شاعراً على الدوام”. وهذا ما نجده لدى قراءة الشاعر أبو هواش وبحذافيره.
يمكننا قراءة التجربة الشِعريّة لسامر أبو هواش عبر تناولها من أكثر من جانب، كونها تنطوي على العديد من الجوانب الجماليّة المضيئة، لكن يبقى الأكثر بروزاً في هذه التجربة تلك الرؤية البصريّة/التبصيريّة لدى الشاعر، إذْ يبدو الجانب التأمّليّ/التصويريّ جليّاً وذلك بالانتقال بالقصيدة من كونها مجرّد “مدوّنة” إلى صيغة “التشكيل البصري”، وقد وضع الشاعر سابقاً عبارة “قصيدة بصرية” بدلاً من “شِعر أو قصائد أو نصوص” على غلاف مجموعته “سوف أقتلك أيها الموت (2012)”؛ بالإضافة إلى ذلك نجد أنّ الوصف يكثرُ في قصائد هذه المجموعة، حتى أننا نظنّ بأننا ننظر في لوحة تشكيليّة تتأرجح ما بين “الواقع” و”التجريد” كعالمين متناقضين ومتآلفين في آنٍ واحد؛ حيثُ يقول: “النافذة خضراء/ ليست بلون عشب/ ولا قلب،/ وتخجل من الذهاب إلى الحفلة/ الحنفيّة الأليفة تجفّف دموعها/ بمنديل أزرق“.
الوصفُ المتأنّي لمعالم واقعيّةٍ مع إضفاء لمسةٍ تجريديّةٍ عليها، جعلتْ المقطع السابق أشبه بلوحةٍ سورياليّة داخل إطارٍ غير مرئيّ يدعى اللغة/البصر، وهو ما ينسحب على العديد من قصائد المجموعة.
ثمّة لغة يوميّة بسيطة تسيطر على أجواء مجموعة «ليس هكذا تُصنع البيتزا»، البساطة بوصفها أداة “آليّة/تلقائيّة/عفويّة” لإظهار الجوانب المدهشة من شِعريّة التفاصيل اليوميّة العابرة؛ “العاميّة/الدارجة” أيضاً لها حيّز مهم في قصيدة سامر أبو هواش؛ ثمّة مجاورة وتداخل سلسل بين الاثنتين تفضي إلى عوالم ودروب جديدةٍ ومُبتكرة، لمّا تسلكها القصيدة العربيّة بعد؛ في قصيدة بعنوان ”أوقات منزليّة“ يقول الشاعر: “سترتي رائعة/ لا أعرف وَصْفَ لونها/ لكنني أعرف/ أنك تحبّينني”.
المفارقةُ في المقطع السابق جعلتْها أكثر إدهاشاً، خصوصاً في السطر الأخير، حيثُ بؤرة التوتّر.
تطغى المشهدية على أجواء معظم قصائد هذه المجموعة، حتى تكاد الصور والتراكيب الشِعريّة الفضفاضة أن تختفي تماماً لتحلّ مكانها شِعريّة “المشهد”؛ الكاميرا هنا تأخذ الدور الرئيس ببعديها القريب والبعيد أو ما يسمّى بالحركة الزوم. في قصيدة بعنوان ”من أعمال هوبر“، والتي تأتي في هذا المنحى، يقول الشاعر: “عناقنا في وسط المطبخ/ يشاركنا به لمعان السيراميك/ الأشدّ حناناً من الزجاج/ ما تهمسه الشمس/ لأخضر النافذة المبتذل/ وأرستقراطية البياض/ في زاوية الثلاجة المخلصة/ ثرثرة الأطباق التي ترشح ماء/ كقبلات بطيئة في المطر/ ونظرات ابنتنا/ الأوسع من صالون/ بين أقدامنا”.
مجموعة «ليس هكذا تُصنع البيتزا»، والتي جاءتْ في ١٢٨ صفحة من القطع المتوسط، الإصدار التاسع في رصيد سامر أبو هواش الشِعريّ، إذْ سبقَ وأصدر ثماني مجموعات شِعريّة، هي: «الحياة تُطبع في نيويورك» (1996)، «تحيّة الرجل المحترم» (1998)، «تذكّر فالنتينا» (2000)، «نُزل مضاء بيافطات بيض» (2004)، «راديو جاز برلين» (2004)، «شجرتان على السطح» (2006)، «سوف أقتلك أيها الموت» (2012)، و«سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» (2015).
هذه المجموعة؛ تعتبر إضافة مهمّة لما يسمّى بالقصيدة الشفويّة والتي حررت الشِعريّة العربيّة من السرديّة والحشو أولاً ومن ثمّ البلاغة الزائفة بالخروج من دائرة اللغة الجامدة ثانياً.
“في مكانٍ ما، في صحراء ما، لا تصل الحافلة./ المنتصرون يعانون من نهاية الحكاية،/ بينما يذهب المهزومون إلى حكاية أخرى/ يهزمون فيها منتصرين آخرين”.. يقول أبوهواش.