في عملها الروائي الأوّل “اسمعني يا رضا “، الصادر في بيروت عن دار هاشيت أنطوان/ نوفل 2021، تطرح الكاتبة اللبنانية سارا صفيُّ الدين مسألة الوجود واللا وجود التي تعاني منها المرأة العربية، فبطلتها سارة الحاج حسن تقاوم باستماتة متمسِّكةً بفعل الأمر (اسمعني) لإثبات وجودها وهي تعيش ألماً عظيماً في ظل غياب حبيبها وزوجها رضا، سارة قلقة حائرة تبثُّ رضا– لا تستعطف القارئ، شوقها وغيرتها وألمها على غيابه المفاجئ وعدم قدرتها في العثور عليه رغم أنَّها بلَّغت عن غيابه مخفر الشرطة، من أن يكون أحدٌ ما قد خطفه أو قتله: نعم لا تعجبني الأبواب يا رضا. تذكّرني بالفراق. وأنت كنت تعلم ذلك جيِّداً، فكم من مرَّة أزحتك عن الباب حتى نكمِّل حديثنا بعيداً عنه؟ وكم مرَّة رأيتني أفتح جميع أبواب غرف منزلنا حتى لو لم نكن سندخلها؟ لكنَّك بكلِّ ثقة يا رضا، فتحتَ باب منزلنا، خرجتَ، ثمَّ أغلقتَه واختفيتْ.
كيف اختفى؟ وهي بأمسِّ الحاجة إليه، فبعدما يتزوَّج الرجل بالمرأة، ويصيران زوجين، وقد كانا، أو كان القلب قلبيهما ينبض بالحب والاشتياق في فترة التمرين على الزواج، يقع التباعد الروحي، ثمَّ يليه المادي، يتباعدان، وشيئاً فشيئاً تصير المرأة بالنسبة للرجل خشبةً أو شجرةً يابسة أو نبع ماء جفّْ. وهذا ما يذبح سارة، ورغم ذلك ما تزال تنتظر عودته: سأخبرك أمراً آخر، أشعر بأنَّ كلَّ ما تحتاج إليه الفتاة في حياتها هو اهتمام رجل. تنضج الفتاة عندما يغرم بها أحدهم لأوَّل مرَّة. تزيد ثقتها بنفسها فجأة. والأب هو اهتمام الطفولة في حياة الفتاة. هو يزوِّدها بالحبِّ والثقة. لذلك عندما يرحل اهتمام الأب، اهتمامك يا رضا عليه أن يبقى. فأنت الرجل الذي بقيتَ بعد الأب!.
سارة فقدت أباها وأمَّها وهي في العاشرة من عمرها، وهذا شكَّل لها عقدة نفسية، إذ كانت تستمدُّ قوَّتها من وجوده، ولمَّا تزوَّجت رضا فكانت تعوِّل عليه، فوجودها من وجوده- لا وجود لها إلاَّ بوجود رضا. هي مسألة (الإنوجاد) من صُور إلى بيروت وتفقد رضا. سارة الحاج حسن بطلة الرواية تحبس في أعماقها أسئلة وجودية، وهي تتلمَّس بذور ثورة على الجحيم الذي وُلِدَت فيه كونها أنثى، ولكنَّها تتردَّد وتصبر، عسى يرد عليها رضا الذي غابَ ولم يرجع وهي تعاتبه: ما زلتُ امرأةً تحتاج إلى رسالة عليها عطر، أو إلى كلمة، أو حتى نظرة. أنا إنسان والإنسان لا ينتهي يا رضا. لماذا عليَّ أن أشعر بأنَّ للحبِّ والاهتمام صلاحيةً تنتهي؟ كأنَّ الأمسيات الرومانسيَّة لا تليق إلاَّ بالحبِّ الجديد. كأنَّ أغاني الحبِّ والورود لم تعد مسموحة لأمثالنا.
سارة امرأة بسيطة تريد أن تخرج من اللاوجود إلى الوجود وهي المتعلِّقة برضا إلى درجة الهوس به عشيقاً وزوجاً لكنَّه غابَ فجأةً صار غريباً، وصارت تعاني ألاماً من وجوده؛ الوجود الغائب/. أين هو رضا؟ أهو لغز؟ سارة ما عادت تملك نفسها فتعبِّر عن مشاعرها: أنا غاضبة من رضا كثيراً. وأيضاً أشعرُ بالقلق عليه. لا أعرف. أشعر بأنَّه عندما يكون شخص ما بعيداً إمَّا أن يكرهه الشخص الآخر أو يقع في حبِّه بإفراط. أنا لا أعرف ماذا كنت أشعر تجاه رضا. شعرت فقط بأنّني لم أعد أعرفه. سارة تُصعِّدُ من غضبها وأسئلتها الوجودية، وصارت تخشى أكثر ما تخشى أن يكون قد تزوَّج عليها. هل غيابه يعني أنَّه في حالة زواج، وصار عندها ضرَة، سارة تريد من رضا أن يسمعها، هو يسمعها أم أنَّه لا يسمعها لأنه غير موجود، ولكن وجوده هو الذي خلخل حياتها؛ رجَّها رجَّاً وهي تنتظر عودته على عتبة باب البيت: أين رحلت صباحاتنا يا رضا؟ أنا أخاف! أخاف على صباحاتك، من أن تدخل عليها واحدة غيري.
سارة/البطلة في “اسمعني يا رضا” تتأرجح بين الماهية والوجود، فلا تبقى بين جدران البيت تنتظر الذي يعود ولا يعود. فمعاناتها عقلانية، ولكنها معاناة في لحظة عدمية تحاول استعادة ونقض ما تستعيده لو عاد- عاد رضا. سارا صفي الدين تشتغل على شخصية سارة بطلة روايتها تباطن اللا فعل – لن يعود رضا، بالفعل قد يعود رضا. في الحالين اللا فعل والفعل تؤكِّد الروائية سارا على لسان الراوية سارة نفي عودة رضا لإثبات وجوده، مع إنه في الوجود. سارة صفي الدين تلعب معنا في روايتها “اسمعني يا رضا” لعبة الوجود والعدم، تكرُّ وتفرُّ بين اليقين والشك. مطمئنة في أنَّه يعود، وغير متأكدة ومطمئنة في أنه يسمعها، ثمَّة فعل وقصد في أن سارة تدرك وجود رضا، لكنها تغيبه قسراً لتعيش هذا القلق الوجودي على مدار زمن الرواية.
سارة رضا تقاوم الموت والغربة كأنثى؛ امرأة حاضنتها الدينية والاجتماعية تراها كينونة منقوصة الوعي والوجود؛ نصف كائن إنساني عندما يهينها وينتقص إنسانيتها كل من حواليها إلاَّ والدها الذي تحن إليه كونه حفظ لها كينونتها كاملة. وها رضا الذي تعوِّل عليه حبيباً وزوجاً يفلت من يدها في هذا الغياب؛ الغيبوبة. إذن؛ ونقولها بصوتٍ عالٍ؛ اسمعها يا رضا، فالأنا الإنسانية لزوجتك سارة، وإدراكها لحريتها كأنا – إنية، هناك من يتربَّص ويترصَّد لسحبها منها ويحيلها إلى عدم.