في قصائدها تقترحُ، أو تضعُنا ناتالي حنظل، الشاعرة الأمريكية من أصولٍ عربيّة فلسطينية؛ في عالمٍ ينوس ما بين ملَكَتَيْ التخيُّل والواقع. فأشعارها في دواوينها: “قصيدة نفرفيلد (1999)”، “حيوات المطر (2005)”، “الحب والخيول الغريبة (2010)”، “شاعرة في الأندلس (2012)”، “النجمة الخفية (2014)”، والتي صدرت مؤخراً مختارات منها، ومن قصائد لم تطبع بعد في كتاب بعنوان “في كل مكان من المنفى” 2022، الصادر مؤخراً بالعربية عن دار فواصل السورية وبترجمة الشاعر والمترجم أحمد م. أحمد. هي أشعارٌ تحاول تَفَهُّمَ الجمالَ وفصلِهِ عن رُكام البشاعة الذي يحكم عالمنا: “الجدران أكثر رقّة الآن، تتشبَّثُ يداي بالصخبِ الذي تركته وراءَك، الفِقد الذي يصمُّ الحُجرة. انظر، هناك حريقٌ شبَّ تحت البساط الفارسي، هناك خطٌّ من الفضَّة يتأجَّجُ حول لُفافتك. أعطني زنبقةً، قصَّ عليَّ حكاية القمر، حين باعَدَ ما بين جسدينا
ليفسحَ مكاناً للحمائمِ في قاع قلبينا”.
هي أشعارٌ وإن كانت مكتوبة بـ”الكلمة”، والانكليزية، باعتبارها اللغة الأم للشاعرة، فإنَّها تُحمِّلُها صوراً وأصواتاً: أن تنتمي، ولو احتفظتَ بالساعات في خزانتك- سيستغرقُ سنواتٍ أن تنسى شخصاً تطلَّعَ إليكَ وحسب -سيستغرقُ سنواتٍ لكي تفهم لماذا وأنت تمشي ستُملي الأوراق طريقةَ النبض على قلبك- سيستغرقُ سنواتٍ أن تحبس الريحَ في فمكَ وتجعله يتَّسعُ لما لا طاقة له به لتاريخ اشتباك قمرين يهويان بعد مطرٍ غزير، ومن ثمَّ تُذكُّرك باقة الزهر- أنَّ الأمر يستغرقُ سنواتٍ لكي تعود من الجهة التي تشطركَ إلى نصفين. صورٌ قاسية على رقَّتها.
ناتالي حنظل تلعبُ بالأحاسيس، فكلماتها التي تدوِّنُ بها قصائدها ذات النزوع الإنساني تتحوَّلُ إلى أشكالٍ، إلى لوحاتٍ ألوانها ذات مؤثراتٍ بصرية، وإلى أصواتٍ نغماتها تصدح: فلنقُل إنَّكَ حملت ملح البحر ووضعته على شفتيَّ، فلنقُلْ إنَّكَ بُحتَ لي عند الظهيرة بأنَّ كلمات أغنياتك الشهيرة ليست لكَ. فلنَقُلْ إنَّ قلبكَ ينزف فوق يديَّ، وأنَّكَ تلفَّظتَ باسم امرأةٍ أخرى وأنت في الداخل. فلنقُلْ إنَّك أريتَني عينيكَ اللتين يتطاير منهما الشررُ وابتسامتَك المتصلِّبة وجانبك الآخر، الوعرَ والمهول. فلنقُلْ إنَّك تستحضر لي عطرَ الشهوة وتترك للشمس أن تقعَ ما بين سيقاننا. هل سيكون ذلك كافياً أم لا أيُّها الغريب العاشق.
سباحةٌ، اندفاعٌ، ارتفاع. انحلال، ذوبان. تحويل الحياة إلى صور، إلى نغماتٍ وإنْ كانت تبعثُ على الحزن. ولكنَّها صورٌ تأخذ إلى الارتقاء بالمادي كي يتسامى الشعور. ناتالي حنظل وإنْ راحت إلى الروحي وحلَّقت، لكنَّها تشدُّنا إلى الأرض، وإلى طعم ترابها مهما حلَّقت بِشِعْرِها- صوره وموسيقاه، نحو السماء بفعل قوَّة اندفاع أحلامها: لأنَّنا لم نعد نسمعُ سنابك الخيل، لأنَّنا لم نعد نراها ترمح، لم نعد نراها تنتصب على الشاطئ المرجاني، تساءلنا؛ أين تختبئ موسيقا الصوت البشري؟ هل تستطيع أن تجد أغنيتَها في البحر، وأنت ترتابُ في مياهه، في الحقل، وأنت ترتابُ في هشيمه، في براعم الكرز، وأنت ترتابُ في تربته، ما بين أميالٍ من أجذالِ الأشجار المرمية. أو ربَّما في الصقيع ما بعد الهجير؟ لأنَّنا لم نعد نرى ما هو مقدَّس ونديّْ، لأنَّنا استجرنا بالجبابرة التيتان ولصوص الخيل، كانت الرسالة اليتيمة التي أرسلوها: في نهاية الأمر، ستهدرُ الطبيعةُ، وتُغرقُ، وتُدمِّرُ، وتسود، سألنا، أنجرؤُ على الحبِّ علَّنا نعثرُ على الأسطورة المنسية في الموسيقا، بينما يعلو العشبُ حتى يطالَ بكاءنا.
الشاعرة ناتالي حنظل هي كالسابح في الفضاء ولكنَّه فوق الأرض، على الأرض متماسكٌ وإن كان ترابها ثقيلاً وقاسياً، وهو العنصر الذي سنعود إليه. ناتالي وجهاً لوجه، وصورها مثلما هي حسيَّة، هي مادية، مادية خصبة: سمعتُ أنَّني أرمنية تؤمنُ بأنَّ النجومَ هي شظايا من تاريخِ برقٍ مضى في الفضاء، سمعتُ أنَّ في عروقي دماً رومانياً، وأنَّ أخي تركي ويوناني، سمعتُ أنَّ قلبي قرب مسجد عُمَر قرب كنيسة المهد إلى جوار تعويذةٍ ورجلٍ عجوزٍ بلا أسنان وبلا مفاتيح. سمعتُ أنَّ قصائدي ألت حجارةً تحملُ أحرفاً آرامية، سمعتُ أنَّ الغزاةَ يدفعون بالأهالي، وأنَّ الأهالي يودِّعون أسماءهم لدى الأشجار، وأنَّ الأشجار تردِّدُ الآياتِ التي تركتها الحريَّة، سمعتُ أنَّني كنتُ بيتاً شُيِّدَ من ضوءٍ متوسطي غير أنَّي سمعتُ ذلك في الربيع وهنا قد لا يحلُّ الربيع بعد الآن- أخذوا كلَّ أشجارنا- ربَّما يسوع مَنْ يستطيع تفسير ما حدث، أو ربَّما كل ما احتاج أن أتذكَّر أني سمعتُ- وهذا ما أعرفه- بأنَّي عربية، وأنَّ الأحياء السبعة في المدينة القديمة قد تركت لي سبعة مفاتيح كي أستطيع الدخول على الدوام.
ألحانٌ مأساوية، ألحانٌ هي مواقف فكرية، هي عواصف جامحة ينقاد لها الإيقاعُ صاخباً، عاصفاً، متدفقاً، رقيقاً كينبوع ماء. ناتالي حنظل أشعارها تأخذُ بِكَ من اليأسِ إلى الوجد. ومن صورةٍ إلى صورة، ومن فكرةٍ إلى فكرة، ولكنَّها الصورُ، الأفكارُ التي لا تأتي إلاَّ بعد أشدِّ الآلام تعذيباً؛ آلام الولادة.