يومٌ شتويٌ غائمٌ ورواية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» للكاتب الجزائري سعيد خطيبي قد وصلت إلى يدي عبر صديق يشاركني شغف القراءة في هذه البلدة. جذبتني الصفحات الأولى من الرواية فور بدئي بها، وبخاصة الفقرة ذاتها المكررة في نهاية الكتاب وما تلاها. ومع تعمقي بالقراءة ازدادت محاورها الأساسية وضوحاً.
لعلّ أكثر تلك المحاور جذباً بالنسبة لي هي حكاية جوزيف كغريب في مدينة تلفظه مهما حاول إثبات انتمائه إليها. لقد ساقته الظروف والمصادفات مثلي إلى هنا، لنجد نفسينا في انتظارٍ ما. حيث رجوعه لفرنسا في وقتٍ أبكر لم يكن ممكناً لما ذكر من مشاركته في التحرير.
وبالرغم من اختلاف المرحلة الزمنية، تتقاطع التفاصيل المرتبطة بغربته مع الكثير من التجارب التي عشتها بشكل شخصي كرسامة فلسطينية في هذا المكان. ولكثرة ما وصف جوزيف تلك التفاصيل تهيأ لي أنه لم يعش أربعين عاماً بل أقل من ذلك بكثير. ألم تكن كلّ تلك السنين كفيلة بأن تجعل وجوده أكثر طبيعيةً، كشخصٍ عادي من بوسعادة، وغربته أقل وطأة؟
بالتأكيد لا. بسبب طبيعة المجتمع من جانب، وشخصيته من جانبٍ آخر. هو يبدو خائفاً من وحدته وغربته حتى بعد الموت، ويبدو أن إسلامه -الذي يظهر جلياً بأنه غير مقتنع به- جاء في سبيل اندماجه الذي كلل بالفشل.
من الملفت للنظر بأن سيرة حياة الشخصية جوزيف كرسام فرنسي جاءت متقاربة بشكل كبير مع سيرة حياة الرسام الفرنسي المعروف إيتيان دينيه (1861-1929) الذي عاش في بوسعادة في فترة زمنية متأخرة عن زمان الرواية، فجاء ذكره ضمن الأحداث غريباً لأن المقدمة توحي للقارئ بنوعٍ من إسقاط حياة أحدهما على حياة الآخر، إلى أن يتفاجأ لاحقاً بكره الراوي لدينيه وحقده عليه بشكل غير مبرر.
إن أحد أهم المحاور التي بُنيت عليها هذه الرواية هي الفترة الزمنية التي تدور أحداثها فيها، وتحديداً ما قبل انتخابات عام 1992. لقد حكى عن هذه المرحلة الكثير من الأدباء من جزائريين وغيرهم عبر أعمال أدبية عديدة، أغلبها قد حاول أن يُوصل إلينا كيف لعبت تلك الحقبة دوراً في بداية انهيار كل ما كان يمكن أن يجعل من الجزائر شيئاً مختلفاً تماماً عمّا نعيشه الآن. وربما عند هذه النقطة الزمنية بالضبط تم تهجير أو طرد العديد من الأجانب المتضامنين مع الشعب الجزائري المؤازرين لقضيته. وبالرغم من سلبية الحياة التي يعيشها جوزيف هنا كإنسان غير منتج إلا لبعض اللوحات والكتابات، لكنه وصاحبه سليمان يقعان ضحية التهجير. وكما أن السنوات الأربعين التي قضاها جوزيف في بوسعادة لم تكن لتشفع له التهجير منها في نهاية المطاف، كذلك فإن ذاكرة الأربعين عاماً التي عاشها فيها لم تأتِ إلينا بأي ذكرى جميلة عن المكان.
الكثير والعديد من التفاصيل يرددها ويكررها الراوي مستذكراً أسماء أحياء أو أطباق تقليدية أو حتى شخصيات عاشت وعايشها في هذه المدينة ربما قد لفتت نظري بشكل شخصي لأني أعرف المكان وأهتم بتفاصيله. لكنّي ما ظننت أن تلك التفاصيل ستمتّع غالبية شريحة واسعة من القرّاء باللغة العربية، فلولا صدفة وجودي هنا ما فهمت ولا اهتممت لكل تلك التفاصيل والقصص الكثيرة التي لم تضف أي قيمة عدا ترسيخ فكرة تآكل المدينة. هناك قبح غريب حتى أكاد لا أعرفها، وقد قيل لي بأنها قديماً قد كانت أجمل.
يأتينا الكاتب سعيد خطيبي هنا بمشهد قاتم وكئيب للمدينة وسكانها، وكأنه يريد ترسيخ حالة فقدان الأمل التي يعيشها جوزيف، بل وربما أراد أن يجعل من هذه البقعة نموذجاً مصغراً لحال البلد قبل كارثة العشرية السوداء. من جانبٍ آخر، أعتقد أن الكاتب لم ينجح بشكل كامل في التعبير عن المحور الذي يبدو كثيمة أساسية هنا طبقاً إلى عنوان الرواية.
سيرة حياة إيزابيل إيبرهارت (1877-1904) كرحالة وكاتبة سويسرية صاحبة شخصية وميول غريبة عاشت فترة من حياتها في الجزائر حتى وفاتها في عين الصفراء. أراها مقحمة بشكل غريب وغير ممتع، مع عدم انسجام بالسرد كلما تمّ ذكرها. الراوي مهووس بها، نعم، لكن الكاتب لم يأتِ بجديد عن سيرة حياتها.
هنا أيضاً تتقاطع حياة الراوي جوزيف مع حياة إيزابيل بطريقةٍ ما، غربتهما ورفض المجتمع لهما بالرغم من إسلامهما، يبدو هو الأوضح.
في النهاية، أستطيع القول بأنني قد فهمت أكثر سبب غضب الكاتب، بعدما أقحم نفسه مع الشخصيات المذكورة كابن لصديق قديم لجوزيف، ذاكراً شذرات من سيرته الخاصة، فساعدني ذلك على تقبّل السوداوية التي ظهرت هنا.
حازت الرواية على جائزة كتارا للرواية العربية الدورة الثالثة، عن فئة الروايات المنشورة. وقد صدرت عام 2016 عن منشورات الاختلاف في الجزائر ومنشورات ضفاف في لبنان.