عندما مر مخموران بمحاذاتي، كانت هناك ألف فكرة تطن في دماغي، من بينها أني لم أعد سورا، بل جدارا لنهاية العالم، لا شيء خلفي سوى العدم.
لم يكن ذلك صحيحا، كل ما في الأمر أني كنت غاضبا جدا، لأن الفكرة الوحيدة التي خطرت للمخمورين هي التبول تحتي. فقد كف العابرون منذ زمن عن تسلقي فضولا وطمعا فيما أخفيه.
نعم أيها المخمورين الغبيين، كنت شابا مثلكم، مليئا بالفتنة والمهابة. قبل أن تأكل نوبة حراستي الأبدية والمضجرة فتوة شبابي.
لم تكن عيناي قد طالتهما الكآبة والضعف بعد. وكان فمي الخاوي من الأسنان، والمثقل بقفل ضخم وصدئ وسخيف، بديعا، تحب الحوريات تقبيله.
لم أكن وكرا للحيات والعقارب، بل للبساتين العامرة وللورود. لم أكن أملك تلك الرائحة الزنخة للعجائز، وكنت وسيما كالفجر. ولم يكن جسدي قد تغضن بتلك التجاعيد التي يقطر منها اليأس كصديد أسود ولزج.
كانت الجميلات وحدهن، يرسلن من كل بيت لتنظيف جلدي الذي صار مقرفا. لكن الآن لم يعد لغزي المهيب يغوي أحدا بالاقتراب.
لم يتبق لي سوى الذكريات كحارس عتيد. صائد الألف ألف روح. جبل الجماجم الذي يخفيه التراب، هو لرؤوس تحطمت فوقي غضبا من يديها الخاويتين.
أتساءل من حين لآخر في لوثة الشيخوخة تلك، أحقا ما أحرسه لغزا مهيبا أم نزوة رجل بخيل وقاس، قد يكون كنزه خصلة من شعر امرأة؟
أنطق السؤال همسا، فهو سؤال الخطائين من الأسوار. ولا حيلة لي مع تقدم العمر سوى أن أضع ثقل رهاني على الوصول بسلام إلى الفردوس.
ففي نهاية مهمة الأسوار، والتي لا تنتهي إلا بموتهم. يصير الصالحون منهم طرقا واسعة مرصوفة، تصل بين العالم ولا تحجبه. أو حدائق واسعة مفتوحة لكل حي، أو غابات بديعة.
أما الأتقياء منا وأولي العزم المختارين فيصيرون أنهارا صافية، لا حدود لها. منبعها العرش، ولا مصب. بل سفر دائم. يحفرون فيه بدايات جديدة لعوالم أخرى ممكنة لا جدران فيها ولا ألغاز.
أما صفوة الصفوة الذين كابدوا وصبروا وصابروا دون شكوى أو خطيئة فيصيرون نورا نهائيا لعرش غامض ومهيب.
بعد تلك الرحلة الطويلة، لا أمل لدي إلا الإيمان، فلا سند لتلك الحكايات إلا رؤى ومنامات السلف الصالح من الأسوار والمدونة في الكتب القديمة والنادرة، التي لم يعاين حقيقتها أحد.
انتهى المخموران من تبولهما. تهيأت لرحيلهما دون نظرة. لكنهما تمشيا قليلا بمحاذاتي. استندا إلى خوفا من التعثر. ضحكت لفكرة أني أحميهما، انتظارا لخطأ واحد. كان الصمت قاسيا ومهيبا.
لا أعلم كم مرت من سنوات، قبل أن تنطفئ الأضواء وتصمت الموسيقى التي كانت تصدح خلفي كل مساء.
لقد عمت الظلمة وتفشى الصمت، مرة واحدة وإلى الأبد.
أتذكر صوتا أنثويا مهيبا، كان يكتسح ما حولي بالرقة والقوة، بالتأرجح بين الذكورة والأنوثة. كان ذلك الصوت يلقي في قلبي ولها وخشوعا. وكنت أظن أن المقدمات الموسيقية لأغانيها، هي مقدمات لكتاب مقدس. وكانت أغنية رق الحبيب، هي درة الصلوات.
اعتقدت لفترة طويلة أن ذلك الصوت هو صوت الرب. وكانت أغنية رق الحبيب تلقي في قلبي فيضا محملا بكل المعاني، تروي بذرة شوقي إلى مجهول.
لكني سأدرك عبر التخاطر مع أسوار أخرى – وهو الأمر الذي يحدث ببطء بالغ، فلا قيمة للوقت أمام أعمارنا- أنه ليس صوت الرب، بل صوت الست. سأقول: لو لم تكن الست موجودة لاخترعناها.
خمنت أن المخمورين قادمان من رحلة طويلة ومتعبة. لم تسعفني فراستي القديمة في سبر أغوارهما. قديما كنت أفعل ذلك ببساطة. رغم أن لا أهمية كبيرة لتبين جوهر ضحاياي. فمهمتي لا علاقة لها بالخير والشر. من نظرة واحدة، أعرف كنه من يحاول تسلقي. لكن الآن، لا شيء. فقد أكلت روحي الظلمة ووقر بقلبي اليأس.
عندما نطقت منذ أعوام بعيدة بتلك العبارة: نحن قتلة لا حراس. ارتجت الأرض ونبذني أقراني وعوقبت بتشويه جمال أحجاري. وجاءني مجهولون غاضبون لاستتابتي وتهديدي.
قلت ببراءة: لا أرى شرا في كوني قاتلا. أدرك أني أفعل ذلك لخير أسمى. وأني عقبة قد لا تكون الأخيرة في رحلة اصطفاء طويلة وشاقة لأولي البأس. أقتل وضيعي الهمة، ضعيفي الإرادة، فقراء الروح، بسطاء العقل، كي يظل السر حكرا على من يستحقه. المصطفون.
لكني آثرت التراجع وأعلنت الندم، خوفا من أن ألقى في جحيم الأسوار أن تكرر حياتي الطويلة والشاقة ألف مرة، دون مهمة فعلية، أنت لا تعرف قسوة أن يبدأ السور رحلته من جديد، محملا بالشك أن تكون لنوبة الحراسة أي معنى.
في حياة كل سور، مصطفى واحد، يملك أن يقتحم العقبة، فك رقبة.
يقولون أن الضياء الذي ينبعث من وجهه، يستحق شقاء الانتظار وحصد الأرواح. المصطفون هم ختم يضمن للأسوار الجنة، قبل أن تحل مكانهم أسوار جديدة بأرواح شابة.
بعض الأسوار تعيش وتموت دون أن يقتحم عقبتها أحد.
كنت يائسا من أن يقرر المخموران عبوري وتسلقي. كل ما كنت أطمع فيه قليل من الونس لوحدتي. لكني سمعت هذا الصوت المتثاقل الذي أضاء في شيئا من الأمل: فلنبق.
أعرف ما سيحدث، ستجلدهما الريح بالرمال، ستظهر أشباح مخيفة، ستعوى مسوخ ووحوش لا وجود لها، فإذا أصرا على البقاء سيأتي دوري، بابتلاعهما.
لكن شيء من هذا لم يحدث. أطالهم اليأس والشيخوخة أيضا، ماذا عن السماء والقمر والغيوم؟
تحاملت على نفسي، كي أحاول سبر أغوارهما، فلما فشلت قلت: الظاهر قد يفضي إلى الباطن. كان لأحدهما بنية ضخمة هائلة وعين خاملة، وللآخر قامة قصيرة وعين يقظة.
لم أنخدع. العيون الخاملة التي لا تشيء بشيء سوى غفلتها تحمل أرواحا مخيفة، قابلة للغوص في مجهول، وادراك أسرار عظيمة، يجعلها قادرة على الشر والخير بنفس الحماسة والقسوة.
لم تنبئني بذلك فراسة روحي المظلمة، بل خبرة عقود من القتل والحراسة. أما صاحب العين الذكية واليقظة، هي عين خطيئته، فيقظة روحه تحجبه عن العالم، وتشغله عنه. لكن كان أكثر ما كان يشغل عينه اليقظة هو محاولته لسبر أغوار عين رفيقه الخاملة.
وضعت رهاني على صاحب العين الخاملة، أملا أن يدرك أني سور يحمي سرا، سرا رهيبا، وأن ما خلفي أكبر من الصمت والعدم، هكذا أسميتهما، عين خاملة وعين يقظة، لأميز بينهما. قبل أن أدرك رغم الظلمة علامات الطريق على وجهيهما، ندوب وجروح قديمة للصوص ومغامرين.
افترشا الأرض، ثم قالت العين الخاملة للعين اليقظة:
-لم يكن علينا أن نتوقف في حانة.
كأسان فقط، هذا ما قلته، لكنك شربت بنهم.
-تتكلم كأنك لم تشرب أكثر مما فعلت.
لقد أغويتني.. أنت تعلم محبتي للخمر.. كان عليك أن تتوقف.
لم يكن عليك أن تتبعني.. كما تفعل في كل شيء، ألا تخجل من اقتفاء أثري.
اشتم السور رائحة الغضب. لقد شهد من قبل ألف ألف جريمة قتل ولم يفقد الأمر إثارته أبدا، اشتبكا بالأيدي، لكما بعضهما البعض، كانا شديدي العنف، كمن يرغبا أن يفك العراك عراهما المتحد وكان لصاحب العين اليقظة شجاعة تداري ضعف بنيته مقارنة برفيقه.
أطاح التعب بكليهما، فتوقفا عن الشجار. نظر لبعضهما البعض بشفقة بالغة واعتذار.
خمن السور أن محبتهما لبعضهما البعض هي جوهر صلب، أما الخلاف فحجاب. قال أحدهما للآخر:
أنا آسف.. كل العلامات تؤكد أنك المنتظر، مهدي آخر الزمان.
لكني وضيع الهمة، ضعيف الإرادة، فقير الروح، بسيط العقل.
لهذا بعثت لنا.. كي ترتق المزق.. ترفع الذنب وتقبل التوب.
لست هو.
ألم نقابل سورة الرحمن سويا، ألم تختارك أنت لتمنحك المعجزة.
-كنت أتمنى لو تشفينا بدلا من معجزات بلا معنى.
من محبتنا للخمر؟
لا.. بل من غرابة أننا لا نسكر أبدا، كل ما نحصل عليه، خطوات متعثرة.
-لم لا تصدق أنك نبي.
لأني أعرف ذاتي جيدا وأعمالي ومخالفاتي، فإن نفسي شريرة مثلك، تكره الخير، وتحب النظر إلى العالم، وتشتهي الطعام وشرب الماء البارد، والنساء عظيمة المؤخرة، محبة للنوم، وتسعى فيما يؤذيها، فاحذر مني ولا تختلط بي لأني أحرق من يقترب مني، وأحترق أنا أيضا معه. وأؤذي من يقترب مني لأن النار مني تخرج، والخطايا تكتسب بسببي، لا تقترب مني ولا تسمع صلاتي واحسبني مثل ميت، فإني إنسان محتال كثير الشرور، وأنا أهرب من الناس لئلا أعثرهم وأوقعهم في الخطايا.
هذا غريب.. لقد نفرت من كلامك في البداية. لكني مع الوقت أدركت. لا يقول هذا سوى قديس. لا يزهد في الناس، إلا لو كان مختارا حقا، مؤمنا بضعفه مثلهم.
أنا هنا فقط للبحث عن كنز. أنت من تبعتني وتراودني عن نفسي للاقتناع أني مختار.
ارتجفت، أهذا ما أنتظره؟ خطاء وضيع الهمة، ضعيف الإرادة، فقير العقل، بسيط الروح. إلام كان القتل إذن؟ كل تلك الرحلة الطويلة من أجل نكرة مدعي.
توسلت العين اليقظة أن تؤدي العين الخاملة معجزتها مرة أخرى، لكنها قالت: لسنا في سيرك.
لكنه في النهاية استجاب إلى توسلاته، اقتطعت العين الخاملة، قطعة من ظل العين اليقظة، شكلتها، ثم نفخت فيها نفخة صغيرة. فصارت عصفورا. طار مبتعدا.
قالت العين اليقظة: سبحانك. نهرتها العين الخاملة: حذاري.. المعجزات فتنة الشيطان.
أخرجت العين الخاملة كتابا. قرأت منه العين اليقظة بحذر. سمعي الثقيل، لم يصل إليه كل شيء، لكن ما فهمته كان مرعبا ومخيفا ومزلزلا لكل ما أجبرت نفسي على الإيمان به طيلة نوبة حراستي. ازداد غضبي و” الأبلهان” يقرآن ما يظنان فقط أنه كلمات مطلسمة كتبها جن لإيجاد كنز.
الكلمات التي قرأها المخموران للتسلية، كانت تزلزل بالفعل القفل الضخم والصدىء الذي يثقل فمي وترج أحجاري. لم يكن رعبهما أقل من رعبي. أفلتا الكتاب خائفين. صرخت فيهما بفمي الخاوي إلا من الرعب، مخالفا بذلك كل شرائع الأسوار: يا قحاب.. السر ليس للحمقى.
ابتلعتهما دون ذرة ندم، أما الكتاب فحملته ريح عاصفة إلى اللاشيء. كنت أصرخ: لم أعد أخشى الموت ولا الجحيم.. فلتجيئوا.
توقفت بعدها عن الكلام للأبد. ثم صدحت موسيقى أم كلثوم من ورائي وجلجلت الأنوار. تثاءب شخص ما خلفي، كان جالسا فوق طاولة عليها مائة شخص منكبين على إصلاح الساعات المتوقفة.
لكن ما جعلني أجن، وأنهار حقا، أختفي للأبد، أني لم أبتلعهما، بل توهمت الأمر لقد عبراني، كأن لا وجود لي، بل لأن لا وجود لي.