في كتابهِ الشِعري الأحدث «غوايات جحيم، حيث تحمل الأوطان في الجُعب»، الصادر مؤخراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (القاهرة- 2017)، يواصل الشاعر الكُردي السوري چان پت خورتو بحثهُ المضني عن مفردات جديدة يضيفها إلى معجمه الشِعري المغاير، جنباً إلى جنب مع خوضه في منطقةٍ غير نائيةٍ بكتابته لنصّ نثريّ خارج على القوالب، تلك “المسبقة الصنع”. وهو ما نجده في جل أعماله الصادرة؛ بدءاً من عناوينها الرئيسية، مروراً بعناوين النصوص وصولاً إلى عوالم النصوص نفسها؛ إذْ ثمّة نبرة خاصة ومختلفة، هادئة ومُبهمة في الآن معاً، قد تتقاطع أحياناً مع عوالم شُعراء آخرين، كسليم بركات على سبيل المثال لا الحصر، لكن دون أن تبقى أسيرة لغتهم وحدها، بل مستفيدةً منها ومُضيفةً إليها؛ “نجلس/ وملائكةُ الخيال تشدّنا إلى البعيد/ إلى حيثُ يكونُ المستبدّ هناك/ إلى حيثُ يكونُ الوطنُ هناك/ لتتشقّقَ ألواحُ الرياحِ حولنا… فنتحوّلُ إلى سراب“.
الشذرة المتصدرة للكتاب “آن للضوضاء أن تخجل قليلاً/ ليعلو صوتُ الصّمتِ ولو لمرّة”، تكاد أن تختصر الكثير عن أجواء النصوص وعوالمها؛ ما يؤكّد أنّ الشِعر يكاد أن يكون “فنّ العزلةِ”، لذلك لا بدّ من الركون إلى الصمتِ وحده، “الصمت” لا كسكونٍ فحسب بل بوصفه حالة ضجيج أيضاً وله صوت رنينٍ وبريق؛ “يجتاحُ الصمتُ بتؤودةٍ نوافذَ مُخيّلتي/ يجتاحُ بلا عتادٍ/ بلا أسلحةٍ كيماويّة/ ويفتعِلُ مجزرةً (لا أدري بما)/ يفتعلُ مجزرةً في حصوني/ يفتعلُ أنفالاً/ يفتعلُ حلبجةً/ يفتعلُ مهاباداً”.
صوتُ المقهورين
تنتمي نصوص چان پت خورتو- المُقيم في الدنمارك- إلى عالم المهمّشين والمقهورين، حيث يبدو لافتاً احتفاؤه بما يسمّى بالعالم السفلي، عالم التشرّد؛ نصوصه يمكن أن تكون مرجعاً أساساً ليوميات هؤلاء البشر، قد تؤثّر في تغيير مسار الحياة والأحداث لديهم، فتعطي صورة حقيقية عن (قوتهم/ قوتنا) فلا يعود يكذب الشعر على نفسه. إنّها قصيدة جديّة/ جدليّة، قصيدة (الأنا) المفكّرة التي هي ضدّ تقويض مفهوم الإنسان، فالكتابةُ هذه سواءً التي كتبها چان پت خورتو أو ناظم حكمت أو لوركا أو محمد الماغوط أو دعد حداد أو رياض الصالح الحسين وآخرون كثر غيرهم، ليست مجرّد لعبة كلمات وعلامات- أي لعبة لغويّة؛ إنما هي مشروع جدّي/ إشكالي، حتى لا يتقهقر التأمّل ولا الأمل عند الإنسان، فلا يزداد اغترابه حتى وهو يحيا في بلاده وعلى أرضه، لأنّ اللغة اليوميّة الموظّفة توظيفاً شِعرياً هي لغة تواصل ضد اليأس، فتنفي عن العقل عجزه، بل تظهر نقده وسخريته ورفضه للانتصارات (الدونكيشوتية) للمستبد الذي يقوم بسحل وسحق مواطنيه بقوّة الحديد والنار.
ولو دققنا؛ إنْ في نصوص چان پت خورتو أو في قصائد شعراء ما يسمّى بشِعريّة التفاصيل العابرة والمتناهية في الصغر، سنجد أنّ الشعر عندهم هو صوت (المقهورين). فالإنسان ليس رمزاً ولا حجراً- متحجّراً، بل هو كائنٌ عقلاني لا يمكن أن نضحك عليه، طالما حواسنا هي أحصنتنا وخيولنا نحو المعرفة والحرية: “أصمُتُ جاحظاً، أصمتُ كغريقٍ، جاحظاً/ لأمسحَ بعينيّ الزيفَ في نُطقكُم/ وأسحبُ يدي الجريحة برفقٍ/ وأشدّ بالأخرى نشاب لساني/.. / أقفُ مُلملماً ما تبعثر مني من دمٍ/ وأقبّلُ القرنفلة جانب كأسي/ أرخي بعدها أصابعي/ لتسقط أشلاء جملكم كضحايا آذار/ لتسقط أعلامكم/ لتسقط أقلامكم… لتسقط تسقط تسقط“.
ثمّة لغةٌ سرديّة تطغى على أجواء المقطع السابق، سلسلة وخافتة، وهذا ينسحب على مُعظم نصوص الكتاب، حيثُ الجُملةُ بدورها تتخفّفُ من ثِقل البلاغة والوزن لتحلّ مكانها شِعريّة السرد.
الكتابة خارج المألوف
كتاب «غوايات جحيم، حيثُ تحمل الأوطان في الجعب»، والذي جاء في مئة وستة وسبعين صفحةً من القطع المتوسط، هو الإصدار الثالث للشاعر چان پت خورتو (مواليد مدينة عفرين، العام 1986)، إذْ سُبِقَ لهُ أنْ أصدر كتابين شِعريين آخرين، هما: «مجرد كلمات لا تنتهي»، 2006، و«الأحجيات، عقلةٌ من براهين الأشد الأول»، (2007).
في هذا الكتاب؛ تلعب اللغةُ دوراً رئيساً في خلق حساسيّة بلاغيّة جديدة وهو ما يعكس مدى رغبة الشاعر ومحاولته الدؤوبة في خوض كتابةٍ خارج المألوف وكذلك محاولة التجريب قدر المستطاع دون أن تُفقد تلك اللمسة (السورياليّة ربما) حيويّة الشِعر لديه أو بريقه وحميميته؛ “أشعرُ بجسدي يتهاوى كقذيفةٍ من غيمة/ أشعرُ بأطفالي الرعد والبرق والمطر يتهاوون/ أشعرُ بالفناء والأبديّة في ترحالي/ أنا الطائر المهاجر أبداً/ أشعرُ بجنوني/ وأنطقُ بالهرطقة”.