قد يبدو المثالان متباينين في مقاربة الكلام، فأحدهما كتاب والآخر فيلم، الأوّل كلاسيكي والآخر حديث، إنّما في كليهما أمثلة على تفوّق الكلام والحكي في الإخبار، على غيره من الأشكال الفنية، في الأوّل يكون على الشّعر وفي الثاني يكون على الصّورة المتحرّكة، وكلاهما -الشعر والصورة- أشكال إخبارٍ تُضاف للنثر/الكلام.
ليس المثالان هنا -الكتاب والفيلم- مثاليّين على كلّ حال، في طرح المقاربة التي أسعى إليها، إنّما صار أن (أو بلُغة شهرزاد: اتّفق أن) أنتبه إليها أثناء قراءتي لأحدهما ومروري على فكرة كانت مثيلةٌ لها قد علقت في ذهني منذ شاهدت الآخر، فكان أن التقيا وجئتُ بهما إلى هذه الأسطر.
إنّما -وفي هذه الأسطر ذاتها- أسعى، لانحيازٍ شخصي تجاه النّثر والكلام مقابل الشّعر والصورة، وهو انحياز أساسه الحكي، بمعنى الإخبار بالحكاية، أسعى متوسّلاً الكتاب والفيلم، للقول بأنّ الحكاية بشكلها الأمثل ومعناها الأكمل لا تكون بغير الكلام، بأسطر مكتملة وصفحات ممتلئة في الكتب أو بكلمات نسمعها تكرّ من فم إحدى شخصيّات الفيلم فلا نرى غيرها تتكلّم، دون مَشاهد يتجسّد بها الكلام.
في الليلة ٣٥ من «ألف ليلة وليلة»، نقرأ التالي: ”فقال الخليفة: أما تحدّثنا بحديثك وتعرّفنا بخبرك عسى أن يكون لك فيه فرج فإن فرج الله قريب. فقال نور الدين: يا صيّاد، هل تسمع حديثنا نظماً أو نثراً؟ فقال الخليفة النثر كلام والشعر نظام.“
هنا، يبدأ نور الدين بقول الأبيات مخبراً قصّته، لتُكمل شهرزاد الحكاية بعدها: ”فلما فرغ من شعره، قال الخليفة: يا سيدي نور الدين إشرح لي أمرك. فأخبره نور الدين بحاله من أوله إلى آخره.“
لم يكن في الإخبار شِعراً أيّ جدوى حكائية مادام طلبُ الخليفة إثره كان الشّرح كلاماً، أي نثراً، ليعيد نور الدّين روايةَ حكايته بالكلام كما روتها شهرزاد (على لسانه، وهي خير الرّواة) قبل التقائه بالخليفة المتنكّر بزيّ صيّاد. للشّعر هنا غاية جمالية تحوم حول المعنى وتلمّح بما حصل لنور الدّين دون غاية إيصاله سليماً لمتلقّيه.
الحكاية تكون كذلك بالكلام لا بالصّور، كما لم تكن بالشّعر. هذا ما أراده المخرج السويدي إنغمار بيرغمان في فيلمه «Persona» الذي يعتمد على الكلام بشكل أساسي، فواحدة من شخصيتيه الرئيسيتين صامتة والأخرى تحكي لها (ومكانَها) طوال الوقت.
في الفيلم مشهد إيروتيكيّ شهير إنّما أتى كلاماً تاماً، تحكي فيه الممرّضة ألما عن علاقة ثلاثية لها (أورجي) على الشّاطئ. قال عنه الفيلسوف السلوڤيني سلاڤوي جيجيك في الوثائقي «The Pervert's Guide to Cinema»: ”هذا المشهد إيروتيكي جداً، خاصة لمقاومة بيرغمان بنجاح إغراءات إدخال مَشاهد فلاشباك. لا مَشاهد فلاشباك هنا، فقط كلمات. هو على الأرجح واحد من المَشاهد الأكثر إيروتيكية في تاريخ السينما.“
اختار بيرغمان أن ينقل أكثر ما يمكن أن يُحرّض على الإظهار، وهو الجنس، حكياً. اختار الإخبار وليس الإظهار، اختار الكلام من عنده والخيال من عندنا. ففي الصّور تحديد للخيال، تجسيد للمعنى، قسرٌ للحكاية على خيال واحد بهيئات مادية لها حيّزها المرئي.
وما اقترحه بيرغمان على مُشاهده هو ما طلبه الخليفة هارون الرّشيد في الحكاية، هو الإخبار لا الإظهار، الخيال لا الصّور، النّثر لا النّظم، حكي المعنى بصيغته الأولى (الكلام) لا شعراً يحوم حوله ولا مَشاهد فلاشباك هي ما تتذكّره الممرّضة ألما من حكايتها، بل هي كيف تتذكر هي حكايتَها، وهذا خيال بيرغمان لكلامها وليس خيالنا نحن لهذا الكلام.
لا تُنقل الحكايات بمعانيها إلا بالنّثر، لا بأوزان وموسيقى تُلوى إكراماً لها عنقُ المعنى، ولا بالصّور حيث ينحصر المعنى في خيال المُخرج.