حكاية سكندرية
في قصر صغير أبيض، وفي الطابق الثاني، قاعة طعام دبلوماسية ترى البحر من نافذة عريضة. السماء زرقاء صافية تحتها البحر بزرقة أعمق، ولا أثر للشارع وضجيجه يبدو من خلف الزجاج المحكم. الموج يتكسّر في البعيد بقاع من الأبيض تُرقّش الزرقة لثوان صامتة ثم تذوب فيها. أنا في غداء تكريم دُفعة مدرسة الترجمة مع سبع فتيات، والمضيف شيخ فرنسي يتحدث العربية بلهجة أهل دمشق ويقول إنه بدوره مترجم وسيعمل في التو على ترجمة الرواية الأكثر رواجًا في الشرق الأوسط، وأخذ يثني على المدينة التي كانت في أحد أطوارها عاصمة للمذهب الأبيقوري الذي ينتمي إليه بالروح والجسد. لاحظت أن الفتيات، وبعضهن من بنات جلدته يخاطبنه بـ “يا خالتي”، فقلت لنفسي، أنا الرواقي بالسليقة، ما أطيب حضورهن ولو كسياج يحول بيني وبين ثرثرته الثقيلة. وجلست صامتًا أرقب التفاصيل والاستدارات وغرقت في خطط مستقبلية، حتى جاء الخادم بالطعام: أرز أبيض شاهق البياض وملوخية خضراء تفور بزبد فاتح فوق سطحها الداكن صنعها في غير إتقان طاه مستشرق من صفحتها برز رأس أرنب مسلوخ جوهرتا عينيه في محجريهما تتطلعان عبر النافذة إلى الضفاف البعيدة.
زيارةٌ أخرى إلى بُرج السراب
تقطنُ في الطابق الثاني عشر
وتقطنُ هناك أيضًا
أصابعُها الحكيمة المنسابة
وشعرها الرمادي
وأعوامها الستون.
للبرج ستة مصاعد
ثلاثة على يمين البهو
ورخام الأرضية كسنّ الفيل
يشعّ رطوبةً
فيذوي ضوءُ النهار عليه
حتى تبتلع الظلالُ
وقعَ أقدامٍ تتسحّب
وثلاثة على اليسار.
بالمِرصاد بوّابون
يجعلُ من بين أيديهم سدًا
ومن خلفهم سدًا
وينسلُّ داخلًا
بأعوامِه الثمانية والعشرين
كلّ مرة مصعد
مختلف
في أي الجناحين لا يهم
فالبسطتان في الطوابق تلتقيان
وكلاها يقود إلى المآل.
يرتقي صندوقُ الخشب والزجاج
نفقَه الرأسي
وما من ضوء في آخره سواها
وكلما تقدم المصعد طابقًا
غاص في طيات ظلام لحيم.
الرحلة تتكرر في عودٍ أبدي
التسلل غيابٌ
والارتقاء
وهي الليل في استطالته.
لا يتذكر بابًا ينفتح
ولا ستائر تُرخى أو تنسدل.
تُجلِسه على مقعد صغير
وتفيضُ عزائم وتعاويذ
تفتح كوّات في الظلام
فيتعدد
كأصفار تنقسم.
مساحة خضراء
واقفان في شرفتها العالية
نُطلّ على المتنزّه. تقول:
لا طيورَ تحلق في سماء هذه المدينة
لكنّها فوق ذي الحدائق تجد مجالًا للنَفَسِ.
أشجارها الكثيفة تقوّض كهرباء البنايات
فترِفّ أجنحتها في هواء طري
انظر!
نرى عصافير صفراء
ويمامًا يهدل، يحطّ بجوار برك نائمة
تلتمع الشمسُ على أسطحها
وتنطفئ على أوراق اللوتس العريضة.
أقول:
مخطئةٌ أنتِ
فخارج حدود سماء الحديقة
حِدآن ورخمات
تحلّقُ فوق المدينة بأسرها
وفي أعالٍ شاهقة
لتُفلتَ من التيارات المشحونة
والأزيز المُمغنط للغوِنا.
انظري!
تحوّم سوداءَ وهائلة
ولا جثة نافقة في الأفق
إلا المدينة نفسها.
لكنّها طيور أيضًا يا عزيزتي
وإن أكلت الجيف.
موهبة
الأغاني التي صغتها عبر السنين
من نثار كلمات حائرة
تطنّ في أذنيّ قبل النوم
كالعمل الرديء.
تلحّ
في هذيان الحمى
فترجح كفة غثاثتها
أمام كفة الحياة
في ميزان الحرارة.
أغان مثقوبة
لا شيء وراءها
سوى طهو الكلمات
في عجين لغوي
يلتمس ألحانًا ضالة.
إيقاع ينفجر
خلف كلّ كلمة
ليُبطِلَ فعلها
كزرّ ينقرُ عصب المعنى
في سديم جهاز معطل
فيزداد العطل كثافةً.
وكل إيقاع ينفجر عيدٌ
بأضحيات فوق محارقها
ونساء يغرقن في نهر
وفلاحين يقطعون صخرًا
في محجر
تحت شمس تبث دفأها
لأناس على الجهة الأخرى من اليوم
يحتفلون بعيد آخر.
وبعد كل انفجار
تهمد حزمة من العُصاب
وتنصرف الأسنان عن صريفها
ويسترخي الفكُ على الفكِ
فتسقط كلمة على الأرض
كُريةً مدماة
تفسح الطريق لانفجار التالية
بعد اختمارها.
جئناك بالهُراء
أيها العالم يا حُبي!