الخيط الغليظ الذي يشنقني إليك. إنه بقطر بلادٍ لم أرَ حدودها إلا على الخرائط، بقطر برك الماء التي جمّعنها الثكالى والعاشقات المكسورات مثل زجاجات الجعّة التي يرميها المراهقون الروس من الشارع الخلفيّ نحو رأسي. بقطر غاباتٍ يعتورها الدوار فتروح وتتمدّدُ. كم نشبه أشجارها! كلّما كبرنا، تفتّقت جذورنا كبطون الحبالى، وإن قُطعنا عن رغباتنا العنيدة مثل الشعر المتربّص تحت الذقون الحليقة، ستظلّ الندوب المتعرّجة هناك إلى الأبد.
الخيط المتعرّج. كأنّه صعودُ جبلٍ. خوف قديمٌ يتردّد في هجومه المباغت. غيرُ قابلٍ للاشتعال. مثل نمسٍ أعمى يرضع من أمّه، مقرورٌ كأنّ ريحًا قلقت تحته ثمّ فرّت. طويلٌُ مثل شكّي بالقيامة، وبالرجال الذين لا يبكون، وباحتمال جفاف برك الماء. لا نهائيٌ. لا يُدرك بوحدات قياس المسافة. حتميٌ كتاريخ الضحايا. مرئيٌ مثل خوفي من هذه المشنقة. لم يكن لقائي بك في ذلك البار سوى ذهولي من هذا الخيط. من هذا الثخن الذي سأقبر فيه خوفي دون شواهد.
كنت سلحفاةً عجوز، خاثرةً أحمل بيوت الناس وأظنّها قيامتي. أحبو ببطءٍ على شظايا الزجاج لئلا أصير أنا نفسي زجاجةً وأُرمى في ليلةٍ ليس فيها قمرٌ يشهد على ذبحي. الآن تشدّني البلاد إلى صررها. أمشي إليها على خيوطٍ محفورةٍ ومقابر جاهزة. أنفض الخوف الذي علق على قميصي المفضّل. أريده واضحًا. مربّعاته أكثر وضوحًا من المربّعات السكنيّة التي طالها القصف هناك. أريده نظيفًا. قبل أن أصل وحيدةً وأراك في البار.
***
لن يصيبك إلا ما كتبته الخفافيش والكائنات الليليّة التي لا تراها العين لك.
لن يصيبك ما كتبه المنجّمون. فأنا مثلا، يُفترض بي أن أكون قاتلةً، في الأقلّ، لولا أنّ ديناصورًا من خوفٍ يهجع تحت جلدي كلّما شممتُ جرحًا قريبًا. حتّى أنّي أتخيّله مقبرةً جماعيّةً لأحلامي المتواضعة عن ظلّ شجرة توتٍ وأصيص صبّارةٍ مسرفةٍ في التقشّف وقصيدةٍ تُسمن أحافيري من جوعها للمعنى. المعنى! الخفّاش الأعمى الذي عضّني فأصيبت مفرداتي بالسّعار.
الفزع يقع في حبّ الطمأنينة
الحبّ والوحدة توأمان من بويضة واحدة
الحبّ ينام مطمئنًا في سرير البلادة
المعنى يفزع
أسعل كلّما مخر خفّاشٌ صدري بالعرض
أدوخ كلّما نام في قصيدتي بالمقلوب
انظروا.. كنتُ أتحدّث عن القدر فصار خفّاشًا
لن يصيبكم ما كتب لكم السابقون
فهؤلاء كانوا يتزاوجون كخفافيش عمياء
ويتكاثرون مثل أرانب ناصعة البياض وفزعة
ونحن علينا أن نكون وحيدين
وأن نحبّ وحيدين
كي لا تُصاب المعاني بداء الكلب.
***
أقسمت لأختي بالله، حين كان القسم يشبه ظلّا لمشنقة عند قمّة الجبل، بأنّي أذكّر كيف كان شكل رحم أمّي؛ وسيعًا مثل مرج يستميت في الدفاع عن بذوره النائمة من أقدام قطّاع الطرق، وبأنّي أذكر تلك اللزوجة التي أحدث طنينًا في أذني قبل أن أسمع الدويّ في الخارج.
كبرت، وكانت البذور تتفتّق تحت جزماتٍ جلديّة بوزن الكواكب
الملح ينتحر في الأنهر العذبة
وقد هجر البحار التي أكلتنا مثل ضبع يدمدم من الجوع
المشانق الرّفيعة
أقف فوقها مثل طير ثقيل المعدة
أصرخ: أنا الله!
وأستبق عقابي على الأقسام الكاذبة التي ردّدتها بلا نهاية
أنّي قد أموت قبل أن تُشنق مبادئي
أنّي سأحتمل نصلاً لامعًا في ظلّ عنقي قبل أن أسبّ الأرض ومن فيها
لكنّ الطنين يتعاظم فوق الجبال
وأبنائي الذين يتحسّسون الآن النعومة الفائقة للسيتوبلازم في بويضاتي
الذين يحلمون بمرج واسع يتدحرجون فوقه كحبّات جوز
سيصابون بالطرش إن خرجوا
***
سيتبيّن في نهاية هذا الطَوَفان
أنّي عاقر
وأنّ حطّابون من أقاليم قصيّةٍ
احتزّوا رحمي بفؤوسهم الضخمة
ودفنوه في الغابات
حتّى أنا، سيتبيّن أنّي تصرّفت كإقطاعيّة حين مررت بغرائزي وهي تتسوّل، ملعونةً بالنداء، على الأرصفة، ولم أتكلّف النظر إليها.
النظر إليك
يشبه الإنصات إليك
إلى شكواك من عمق البرك التي غُمرت فيها. ومن ثقل أكياس الملح التي سفحت على أذنيك وطمّت سمعك.
وجهك صوتٌ
هل تسمعني؟
أنا أسمعك
أسمع ذلك الطوفان كأنّه زوبعةٌ من زجاج. عالٍ مثل توقي لصوتك. ضخمٌ مثل همهمة خوف قديم.
أنا أسمعك جيّدًا
صوت شهوة جيناتك على الركض في هذه الحديقة العجوز لا يتوقّف
لكنّ صوت نزيز الدم من رحمي لا يتوقّف هو الآخر.