وعلى هذا ففي «لوزها المر» ليس هناك حاجة لسبر غور النص أو استخدام أدوات حفرية تقليدية للكشف عن “الحقيقة” الكامنة في باطن هذه الرواية، ولا حاجة أيضاً لتقفي آثار المعاني المضمرة في السطور، ولا حاجة إلى إماطة اللثام عن الشعرية والبلاغة التي يتسم بها السرد لجعلها بيّنة وواضحة. هذه إحدى التعليمات الأولى التي يتلقاها القارئالكاتب من الراوي، “من قال أن هناك أسراراً للكتابة يجب تخبئتها خلف كواليس الكلام؟ هذه طروحات سلطوية. لنقاومها إذاً“. وعلى هذا الأساس يقوم نفّاع بخلق عالم الرواية. فالباطن والمستور جلي، منثور على فضاء الورق، كالأحشاء والأشلاء على طاولة الجزّار. مستويات الوعي المختلفة متداخلة، متقاطعة، متشابكة، تماماً كما تتداخل وتتشابك مستويات وأساليب السرد، اذ نشهد نقلات من ضمير المتكلم إلى الغائب، وقفزات بين سرد تقريري ولغة تطغى عليها الشعرية، وأخرى بين لغة تنقل أحداثاً إلى لغة تغوص في الفكر والفلسفة. ولهذا التشابك والتقاطع والتعدد مبررات وتوظيفات دقيقة تخدم النص وتدفعه إلى مكانة يلتقي فيها المضمون والأسلوب بانسجام تام، فعلى سبيل المثال حين يحدثنا الراوي عن المعركة التي يشنها ضد نفسه (ص 21) أو انفصاله عن ذاتهنفسه (ص 6) حيث ينتقل إلى السرد بضمير المتكلم ثم إلى الغائب، يختبر القارئ هذه المعركة أو انفصال الذات هذا عبر البعدين، أسلوب السرد ومضمونه.
هذا التوافق بين المضمون والأسلوب يمكن رصده أيضاً في الجملة الآتية: “صور وشخوص وقصص تشدني للأسفل وتشلّني كأنها صخرة عظيمة مربوطة بي. تيقّنت من أنها الذاكرة. لعنة الذاكرة. اللعنة على الذاكرة.“ (ص 27)، وفي السطور التي تتبع يقول ”لم يعد لدي سوى العبث بالذكريات. أدمر نظامها، أعيد الترتيب إليها ثم أخلطها من جديد“. ماذا يعني أن تلهو وتعبث بذكرياتك؟ ماذا يعني أن تلعن ذاكرتك لشدها لك نحو الأسفل؟ بنظري يشير هذا إلى حضور شبه مطلق للذاكرة في لحظات الحياة، بحيث يكون الشخص غير قادر على تخزين أو صنع ذكريات في الحاضر بمعزل عن طغيان ووطأة الذاكرة وماضيها، هذا إن كان صنعها ممكناً أصلاً. يترتب عن ذلك تواجد شخص كهذا في مستويات وعي مختلفة، في أمكنة مختلفة، وأزمنة مختلفة، وبإمكان جميعها أن تختلط وتجتمع، فالحاضر يمكن أن يصير ماضياً والماضي يصير حاضراً، كما أنه يمكن رصد حالات هذيان وحالات انفصال عن الذات والواقع وأخرى. فالكاتب لا يكتفي بوضع المقولة في فم الراوي بأن “كل ذاكرة حاضر. كان اليوم غداً أمسِ، وهو أمس غداً“ (ص 84)، بل يُظهر لك الكاتب ذلك في أسلوب السرد وترتيبه.
المأساة
يحدّثنا الراوي أنه دَرَس الاقتصاد عن غير حب (ص 20)، قد يبدو هذا أمرًا عادياً دارجاً حتى ربما يكون نمطاً سائداً بعض الشيء، تتبعه غالبية الناس، حيث يمتثل الشخص لرغبات الآخرين مقابل التفريط برغباته وأحلامه الخاصة لنيل شيء من رضاهم والقليل من الاعتراف والتقدير. جميعنا نعرف شخصاً كهذا إن لم يكن هذا الشخص نحن أنفسنا. قد تبدو للوهلة الأولى هذه السطور في الرواية عادية، قليلة الأهمية وعابرة. لماذا أتوقف عندها إذاً؟ برأيي حينما تقول، قصداً، في رواية المعلومات المتعلقة في سيرة أبطالها، تصير كل معلومة ذات أهمية قصوى، فبواسطة تقنية الاقتصاد والاقتضاب (التقشف في المعلومات)، يكون الكاتب قد شدد على أهمية تلك المعلومات المنتقاة، مزوداً بها القرّاء. أُرغم الراوي على ترك “سخافات الفن الشكيلي” ورضخ لسيطرة والده، إذ لم يبد وقتها أية مقاومة، لم يناقش ولم يتكلم ولم يحتج، فذهب لتعلّم الاقتصاد. يقول: ”خمس سنوات كنت أقف خلالها في معركة تتألف من ميدانين متعاكسين: واحدة لضمان مواصلة الانتصار على مواد وحصص الاقتصاد، وأخرى لضمان مواصلة الهزيمة أمام إرادة والدي. كنت في اللحظة أقاتل كي أنتصر وأظل خاسراً“ (ص 21).
بنظري، هذه السطور تفترش لنا سبيلاً لفهم شخصية الراوي، وبالتالي فهم الرواية، لأني كما أسلفت في البداية، هذه الرواية تعتمد على الغوص في النفس، نفس شخصية الراوي (البطل الذي يروى عنه بضمير ثالث هو ذاته الراوي حسب قراءتي) فشخصية الراوي تحدد الأسلوب والمبنى واللغة في هذه الرواية. ماذا فعل الراوي حين لم يقدر على الاحتجاج وإبرام معركة مع والده؟ راح يدير معركة ضد نفسه، معركة يظل فيها خاسراً دائماً، بات الانتصار على حصص الاقتصاد هزيمة لرغباته وإرادته، يحدثنا الراوي هنا عن ولادة اللامعنى واللاجدوى في حياته أو إعادة احياء وتثبيت نمط يقوّض المعنى والجدوى من الداخل، نشهد هنا المأساة، حين يصير الانتصار والهزيمة واحداً، الفشل والنجاح واحداً.
يلفت الراوي انتباهنا إلى جزئية/حيثية هامة، فهو لم يُجبر على تعلّم الاقتصاد وراح يهمل الدروس والحصص إلى أن أدى هذا إلى فشله، ففي حالة كهذه كان يمكن القول أن نفسه تتمرد وتقاوم إرادة الوالد، مقاومة سعياً في الحفاظ على هويتها وذاتها. لكن الراوي نجح في الحصص وانتصر، فخسر نفسه وهويته (التي كانت يمكن أن تكون)، فهذه الرواية وراويها يتأرجحان بين حِداد طويل الأمد وميلنكوليا شديدة، تمتص الأشياء إليها كثقب أسود. والفرق بين الحالتين هام جداً، إذ في الحداد أنت تعيش حالة فقدان وحزن حيث يمكن تحديد موضوعه (object): أن تفقد عشيقاً أو صديقاً أو وظيفة، كما يمكن رصد نقطة بداية وحركة معينة نحو “انتهاء” الحداد. مقابل ذلك، تكون الميلنكوليا حالة نفسية جارفة ومعادية للذات (هناك أيضاً فقدان وحزن لكن الموضوع قد يكون غير معلوم)، تلغي مفهوم الزمن، الماضي، الحاضر والمستقبل. الميلنكوليا معادية للحركة، هناك حالة جمود، انطواء على الذات، وانفصال عن العالم الخارجي.
يقع مركز الثقل في سؤالين في الرواية، حيث يطرحهما الراوي بوعي تام: كيف أُحِب؟ وكيف أكتب؟ وبطريقة ما، هما يفتتحان الرواية ويختمانها. تقوم بين السؤالين علاقة، حيث يغذي سؤال منهما الآخر. ويحاول الراويالكاتب إيجاد الحل، وهو يتمثل في صراع بين السماح لحضور “آخر” غير الذاتالأنا النرجسي والغائه. يعدد الراوي خسائره العاطفية، هناك موت الصديق إضافة إلى عدم نجاح علاقاته العاطفية مع النساء، وهو يسأل: ”هل سأقف الآن على مشارف حب جديد؟“ (ص 27) وقبل ذلك يسأل: ”بمن سنبدأ الوصف، هل نبدأ به لأنه يبدو كمن سيتخذ صفة الشخصية المركزية في هذه الحكاية؟ أم نبدأ بها هي بالذات لأنها شخصية غير مركزية..؟“ (ص 13). فسؤال الحب وسؤال الكتابة هما بنظري، في سياق حالة الحداد والميلنكوليا مفصليان، بإمكانهما تكوين وتأبيد الداء أو توفير الدواء. يحيك الكاتب خيطاً بين القطبين، يضع راويه على امتداده حائراً أمام وجهته الأخيرة.