في كتابها الشِعري الأحدث «ثقوب واسعة»، الصادر أخيراً عن منشورات المتوسط، تسعى الشاعرة الفلسطينيّة فاتنة الغرّة إلى نسجِ عوالم تخيّليّةٍ/ غير مألوفةٍ، فيها من الغرابةِ والإدهاشِ بقدر ما فيها من البساطة والألفة، عوالم مستوحاة من عمق الواقع اليوميّ القاسي والمؤلم، تبدعها ببداهةٍ مُخيّلةُ الشاعرة الخصبة التي تنفذ بإتقانٍ إلى تلك الأماكن القصيّة والمجهولة من الحياة/ حياتنا؛ حيثُ تقول: “أمشي في المدينةِ وحدي/ حافيةً أمشي في الشوارعِ/ المقابرُ تُحاذيني/ وأنا أمشي حافيةً في الشوارعِ وحدي/ الإسفلتُ ينخرُ قَدَمَيّ/ لا ندوبَ أو دماءَ تسيل/ هَدْهَدَةٌ صغيرةٌ لطيفةٌ فقط/ تشبهُ الدغدغة“.
أبرز ما يُلفت الانتباه بين طيّات هذا الكتاب، هو هذا التناقض الشيّق والمحبّب، حيثُ “المقابر” و”الدماء” مع “الهدهدة” و”الدغدغة”- على سبيل المثال لا الحصر- في سياقٍ واحد وضمن نصٍّ/ مقطع قصير، دونَ أن يؤثّر ذلك على الفضاء العام للنصّ أو يجعله خارج النسق الشِعريّ.
في نصوص فاتنة الغرّة، المقيمة في بلجيكا، نلفي تحرّراً مُطلقاً من “النمذجة” أو “التخندق” في حيّزٍ ضيّقٍ ما دون غيره، سواءٌ من جهةِ الأسلوبِ أو من حيثُ العبارات المنتقاة، إذْ نجد ثمّة مزج ما بين المرئي واللامرئي، وكذلك ما بين الواقع والمُتخيّل. بحيث يتداخل الشِعريّ مع النثريّ، جنباً إلى جنب مع نبرةٍ سرديّة يبدو دورها جليّاً في الربط المُحكم ما بين كلّ من “الشعر” و”النثر”، كذلك الانتقال السلس فيما بينهما وبشكل عفويٍّ/ تلقائيّ وشفّاف. تقول الشاعرة: “مُوحِشٌ وخرابٌ هذا العالم/ تصحو الطُّيُورُ مُعلّقةً أصواتها/ على حبالِ المشانقِ/ تلدُها الشوارع/ تصدحُ بغنائها/ فيما يدٌ بعيدةٌ بمخالبَ سوداء/ منحوتةٍ كخناجرَ تلتقطُ أصواتَها/ الواحدَ تلوَ الآخر/ حتّى لا يعودَ سوى صوت الريحِ“.
ثمّة مُفردات عديدة، في المقطع السابق، تحمل قدراً كبيراً من القساوة والأسى على الرغم من حسن توظيفها في سياقها المطلوبِ، وهو ما يضفي شيئاً من الخصوصيّة الجماليّة والإدهاش على متن النصّ، حيثُ تتابع الشاعرة قائلةً: “على الناصيةِ التي لا أراها/ أتحسّسُ صوتَ عواءٍ قصيرٍ مُتقطّع/ كأنّه صوتُ كلبٍ، داستْهُ عربة/ لم تكترثْ لِعظامه التي تُطَقْطِقُ تحت عجلاتِها“.
الجانب التصويري المُضمر، في هذا المقطع، يكاد أن يكونَ اللعبة الشِعريّة في معظم نصوص الشاعرة فاتنة الغرّة، وتحديداً في نصوص القسم الأخير من هذا الكتاب والذي حمل عنوان ”كتاب الروح والجسد“، ومن عناوين هذه النصوص نذكر على سبيل المثال: (“رمّانة”، “حياة”، “أحمر”، “ثقوب كثيرة وفجوات”، “قلبٌ بيد خبّاز”، “أنا غريمتُكَ”، “أيّها الحُبُّ”، و”أورجازم”)، ولعلّ الشاعرة هنا تستفيدُ من تقنيات الفوتوغراف أولاً، حيثُ حركة العدسة ببعديها القريب والبعيد في إخفاء بعض الملامح على حساب إظهار بعضها الآخر، دون أي رتوش أو إرباك، عدا عن تقنيات أخرى عديدة نجدها بين ثنايا كتاباتها؛ ومنها تقنية المقطع، وهو ما يجعل من كل نص أن يكون أشبه بألبومٍ من الصور وذلك من خلال تقطيعه إلى مقاطع أو اسكيتشات قصيرة ومتتالية وكل مقطع يأتي في صفحةٍ واحدةٍ فقط أو ربّما أقلّ من صفحةٍ أيضاً، كما في هذه النصوص: (“ضبابٌ”، “ثِقَلٌ”، “قَلَقٌ”، “بندولٌ”، “أشبه باوديلينو”، و”هذا العالمُ مُوحِشٌ وخرابٌ“).
كتاب «ثقوب واسعة»، والذي جاء في ثمانيةٍ وثمانين صفحةً من القطع المتوسط، هو الإصدار الخامس للشاعرة فاتنة الغرّة، إذْ سُبِقَ وأصدرتْ الكتب التالية: «ما زال بحر بيننا» (2000)، «امرأة مشاغبة جداً» (2003)، «إلاّي» (2010)، و«خيانات الرَّب.. سيناريوهات متعددة» (2011).
في هذا الكتاب؛ تبدو تلك العلاقة الجدليّة ما بين ثنائيّة “الروح” و”الجسد” وما لها من أثرٍ بليغٍ في حياتنا وشخصيّتنا، الفكرة الوحيدة التي طَغَتْ على أجواء معظم النصوص، الجسد بوصفه الوعاء للروح وكذلك العكس، حيثُ كلّ واحد منهما يُكمل الآخر.
نصوصٌ تبحر في عوالم جديرة بالمغامرة والإبحار، تنجح في أدائها الشِعريّ بأدوات مرنة وخاصّة، ودون أن تفقد شيئاً من الدهشة المرجوّة، إذْ ثمّة الركون إلى الفكرة وحدها.. يُسيطرُ على أجواء النصوص جميعها، تقول الشاعرة: “جرَّبتُ أن أمدَّ رأسي من وراءِ نافذةٍ مُنزوية/ غير أن تلكَ الظلمةَ السوداءَ ابتلعتني/ كأنّها يدٌ هلاميّةٌ امتدَّتْ داخلَ جوفي/ تسحبُ ما يهتزُّ فيه من أنفاسٍ/ أو صوت”.