عشرات الأفلام الوثائقية أو ربما المئات صُنعت حول الثورة السورية التي تحولت إلى مذبحة عظمى لم يشهد العالم لها مثيلاً، حيث تحولت الحكاية السورية ومآسيها ومفارقاتها إلى مادة دسمة ومثيرة لكل من أراد أن يصنع فيلماً وثائقياً، وهو حصان رابح قبل أي سباق، سواء كان صناع الفيلم من السوريين أو العرب والأجانب على نمط فيلم «قصة حب سورية»، وهذا خلافاً لمئات الأفلام التقريرية الطويلة التي أنتجتها القنوات والشبكات الإعلامية حول هذا الوطن الضائع الذي تمزق بكل هذا العنف. ولكن القليل مما أنتج أو على الأقل مما شاهدته وهو كثير على أي حال، ربط بين ما كان في سوريا قبل مارس 2011 وما تلا هذا التاريخ كما يفعل فيلم «ذاكرة بالخاكي» لألفوز تنجور.
شكلت القطيعة السردية بين سوريا ما قبل الثورة وسوريا بعدها، وهماً أو بناءً ثقافياً تبناه داعمو النظام والممانعة وفئات ساذجة من المتعاطفة مع الشعب السوري ومطالبته بحياة طبيعية كباقي الشعوب، ويتبنى هذا البناء الوهمي فكرة “الجنة المفقودة” أو ببساطة أن سوريا كانت جنة من الرخاء والتناغم والتوازن، والأنهار المتدفقة والخضرة والاكتفاء والتقدم.. والمطاعم الشهيرة والتمدن وأنه تم تخريب كل هذه النعم وتبديدها في الهواء بسبب مطالب “متهورة” و”غير ملحة” أو مدسوسة بالحرية… والآدمية.
للأسف وكما ذكرت سابقاً، قليلة هي الأعمال حتى على أبسط الصعد المعرفية التي تناولت العنف المستتر والظاهر في سوريا وإرهاب النظام من العام 1970 مروراً ببدايات الثمانينيات الدموية وتدمير مدينة حماه وصولاً لانفجار بهذه القوة وهذا الحجم، وكما يقول أحدى شخصيات الفيلم: ”من هديك الأيام كنا نشم ريحة كل هالخراب…“، حيث حول الأسد الأب ومن ثم الإبن على مدار 45 عاماً سوريا من دولة واعدة خلاقة ومنتجة يمكنها أن تكون رائدة في مجالات عدة… إلى جمهورية قمعية من الخوف، أو إلى “جحيم حقيقي” كما تعبّر شخصية ثانية من شخصيات الفيلم.
يتناول «ذاكرة بالخاكي» وإن بإشكالية تكتيكية، العلاقة السببية بين ما يحدث في سوريا الآن وبين ما حدث فيها وهي علاقة عضوية متينة جعلت هذا البلد يجهز نفسه على مدار عشرات السنوات لهذه المواجهة وهذا الخراب، سنوات من القهر والقمع والقتل والإعدامات والاعتقالات بدون رجعة والإختفاءات والتعذيب وحجز الشعب كرهينة صامتة معظم الوقت متململة أحياناً، ثائرة (يا لوقاحتها!) أخيراً.
”الخاكي بيغطي الاوساخ“
عبر شهادات شخصية لأربع شخصيات، مدمجة بفويس أوفر المخرج نفسه، يروي الفيلم وإن ببلبلة واضحة، حقبة الخاكي في سوريا وهي الفترة الممتدة من استيلاء حافظ الأسد على السلطة وصولاً لانفجار 2011 والتي شهدت عسكرة المجتمع بالكامل دون مواجهة عسكرية ناجحة واحدة ومحاولة تدجينه لا لغرض مواجهة خارجية (لتحرير فلسطين مثلاً) بل لإخضاع المجتمع وضمان الولاء الكامل والأعمى للنظام ولديمومته… أو لأبديته كما كان يطلب من التلاميذ ترديده في سلام العلم الصباحي: قائدنا إلى الأبد.. حافظ الأسد. وكيف يمكن لبشري أن يحكم إلى الأبد؟ يتساءل أحد الأبطال.
وهكذا فرض اللون الواحد على الشعب في الجيش، والمدرسة والفعاليات الحزبية وما إلى ذلك من أجهزة تدجين وتمت برمجته كالروبوت لترديد ما يريد النظام سماعه، فيذبح وتخفى أعقاب من يقول لا، كما حدث لمعظم عائلة خالد، الرسام ابن حماه، ويلاحق من يجرؤ حتى على الانضمام لتنظيم غير البعث، كما حدث مع سناء، خالة المخرج، التي اختبأت من النظام في حي دمشقي عشوائي في غرفة لعشرات السنوات قبل أن تلجأ إلى فنلندا. يقول خالد بما معناه… أن اللون الخاكي الذي صبغ كل المجتمع فيه هو لون يغطي البقع والأوساخ عليه، ولا تبان عليه التفاصيل التجاعيد أو النظافة، وبشكل استعاري يغيّب اللون الخاكي التعابير الموجودة على الوجه، وعالم الشخصية الداخلي ودرجة القمع والكبت التي يشعر بها أو الرضى والقناعة بما يفعل، تتحول الوجوه إلى نسخ جامدة.. مشوهة.. وماسخة بينما يتكدس العنف الخفي والرغبة بالانتقام المتبادل بين القامع والمقموع في دائرة من الخوف… خوف المقموع من بطش القامع التالي، وخوف القامع من لحظة تمرد المقموع.
الخاكي: رمز الفيلم ومشكلته
لا أعرف لماذا ومنذ صغري كنت أستشعر وأكاد أرى العنف المستتر ضمن صور عادية، أو مشاهد تنطوي على قدر كبير من الطاعة للغير… ربما لهذا أصبحت كاتباً… ففي صباي ومراهقتي كنت أتابع التلفزيون السوري عندما يتاح التقاط قنواته في الصيف في شمال فلسطين وبصراحة كنت أستغرب من التناقض الكبير بين برامج ياسر العظمة الفكاهية ومروان صواف الثقافية ومحمد الأحمد السينمائية (على سبيل المثال) عالية القيمة الفكرية والتي تعلمت منها الكثير وخاصة اللغة، وبين برامج طلائع البعث وحماة الديار الهابطة والإرهابية والعنيفة في ذات الوقت والمتشحة باللون الخاكي، ولا أنسى حتى مشهد فتيات من طلائع البعث يمزقن ثعابين بأسنانهن، وكنت متيقناً على الرغم من صغر سني أن هذا البلد سوف ينفجر في يوم ما ليس بالبعيد وأن سوريا الخاكي سوف تنتصر على سوريا الفكر والتنوير.
تقود فكرة “الخاكي” هذا الفيلم الطويل نسبياً قدماً ولكنها تسجنه فيها أيضاً، فيتمرد عليها في الوسط ويعود إليها بعدها، وهكذا ما يجعل المشاهد يسأل نفسه بعد مرور ساعة: ما هو موضوع الفيلم؟… وخاصة أن موضوعاً متشعباً مثل سوريا يضم في ثناياه مئات الأبعاد، يتطلب دقة شديدة لتمرير رسالته، ما لم تفلح فكرة الخاكي بتحقيقه على مدار الفيلم، وخاصة أن الشخصيات تكلمت بشكل جزئي جداً عن الفكرة كما لم تتكلم عنها شخصيات أخرى بتاتاً، وحتى الشخصيات التي فعلت ذلك، جاءت بعض مونولوجاتها مفتعلة ومتكلفة تحمل استعارات وإسقاطات غير موفقة لم تخدم الفيلم… وهي مشكلة السينما الوثائقية عامة حين تحاول تكثيف السيناريو حول فكرة ما وإقفال دوائر في محيطها، لتفلت الفكرة مرة ومرتين وأكثر… لنسأل أنفسنا: ما هو موضوع الفيلم؟