أشار الروائي الأمريكي راي برادبيري (1920 -2012)، أن أهم العناصر في تكوين الكاتب، العناصر التي تشكل مادته، الحرص على لذته، وأن يهتم بمتعته. إذا كنت تكتب بلا لذة، بلا متعة، بلا حبُ، بلا لهو، فأنت نصف كاتب فقط. هذا يعني أنك مشغول جداً بإبقاء عينك على السوق، أو أنك تنصت بأذن واحدة لما تقوله النخب الطليعية. هذا يعني أنك لا تكون نفسك. أنت حتى لا تعرف نفسك.
هذه إحدى نصائح الروائي الأمريكي راي برادبيري في كتاب «الزن في فن الكتابة»، ترجم الكتاب إلى اللغة العربية، من قبل مجموعة من المترجمين المتطوعين ضمن مشروع تكوين للكتابة الإبداعية. وهم، بثينة العيسي وعلي سيف الرواحي وأحمد العلي وهيفاء القحطاني ووليد الصبحي ونداء غانم وسارة أوزترك وريوف خالد العتيبي وأسماء المطيري وهيفاء الجبري وجهاد الشبيني، ومراجعة وتدقيق محمد الضبع.
علاقة راي برادبيري بالكتابة بدأت في سن الثانية عشرة، واستمرت بروتين يومي، في صباح يوم الإثنين يكتب المسودة الأولى للقصة الجديدة، ويوم الثلاثاء يكتب المسودة الثانية للقصة. يوم الأربعاء يكتب الثالثة ويوم الخميس الرابعة. ثم الخامسة يوم الجمعة. ويرسل المسودة السادسة المنقحة إلى نيويورك ظهر السبت.
ما الذي يتعلمه الكُتّاب من السحالي؟ تكمن الحقيقة في السرعة. كلما عجلت بالتعبير عن مكنونات نفسك تدفقت الكتابة بانسيابية وصدق. مع التردد يأتي التيه في غياهب الفكر، وفي التأخير تأتي المجاهدة في اختيار الأسلوب المناسب عوضاً عن القفز مباشرة نحو الحقيقة، وهو الأسلوب الوحيد الذي ينبغي القتال من أجله.
راي برادبيري الذي يعد أفضل من اتخذ من الخيال العلمي محوراً للعديد من نتاجاته الروائية في العام 1923، تحقق حلمه الأول ونشر قصته «البحيرة»، مقابل عشرين دولاراً في مجلة «قصص غريبة»، لقد أردك بعد عشر سنوات أنه قد كتب قصة جيدة جداً، ولم تكن فقط قصة جيدة، بحسب برادبيري، القصة كانت مزيجاً رائعاً بين أساليب مختلفة، ”كنتُ على شفا كتابة ثورية وجديدة“ يقول. كما أنها لم تكن قصة أشباح تقليدية على الإطلاق، فهي فوق ذلك تحكي عن الحب والزمن والذكريات.
لقد كان مغرماً بقراءة كتب الأشباح التي كتبها عمالقة الأدب من أمثال هنري كونتر وإدغار آلان بو، وحاول أن يكتب قصصاً تحت تأثير أدبهم، ويقول برادبيري: ”لقد نجحت في كتابة مربعات طينية بنفس أضلاع اللغة والأسلوب، لكن بلا انسيابية مما حدا بتلك القصص بأن تذوب في النسيان. لقد كنت يافعاً جداً لأن أدرك خطئي، لقد انغمست بشدة في تقليد الآخرين“.
مذ كان في الثانية عشرة من عمره، وهو يكتب ما لا يقل عن ألف كلمة في اليوم، كل يوم. وخلال عامي العشرين والحادي والعشرين، بدأ في وضع توصيفات مختصرة لكل ما يحب ويكره، فكانت نهايات أيام الصيف وليالي شهر أكتوبر هي الأوقات الأنسب للكتابة.
متى قرر أن يكون كاتباً؟
في الثانية عشرة، عندما تم إهداؤه لعبة آلة طابعة في عيد الميلاد، وبين القرار والتحقق ترك المدرسة ثماني سنوات وباع الصحف في زاوية أحد شوارع لوس انجلوس، وكان قد كتب وقتها ثلاثة ملايين كلمة.
في العام 1953، كتب صاحب رواية «الرجل المصور»، مقالاً لمجلة «الوطن» يدافع فيه عن أعماله، وبعد عدة أسابيع من كتابته للمقال، وصلته رسالة من فلورنسا تحمل توقيع المؤرخ ب. بيرنسون، يمتدح فيها مقاله ومتفق معه في الجزء الخاص أن العملية الإبداعية تحتاج إلى جهد بدني، تحتاج أن يضع فيها الفنان من دمه ولحمه. أن يستمتع بها كمزحة أو مغامرة مدهشة. في طفولته وتقريباً في عمر الثالثة كانت والدته تدخله خلسة لصالات الأفلام، كانت تفعل ذلك من مرتين إلى ثلاث مرات في الأسبوع.
بدايته مع الكتابة كانت في علية البيت بعد منتصف الليل. كتب قصصاً غير تقليدية عن الأشباح والأماكن المسكونة، عن أصدقاء غرقوا في البحر وأشياء معبأة في زجاجات ومصاصي الدماء. ومن العلية انتقل لغرفة الجلوس، ثم إلى الباحة الأمامية في ضوء الشمس، حيث أزهار الهندباء جاهزة لصنع النبيذ. عندما كتب روايته الأشهر «فهرنهايت451»، لم يكون يعلم أنه يقوم بكتابة رواية من روايات “الدايم” أي تلك التي تكتب بسرعة وتوزع بأعداد كبيرة، إذ كلفته كتابة المسودة الأولى تسعة دولارات وثمانين سنتا في ربيع العام 1950
في العام 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وصفه صديقه بالجبان لامتناعه عن إرسال قصصه التي يعلوها الغبار للنشر، أما سبب امتناعه فيعود إلى رفضها لأكثر من مرة من قبل عدة مجلات. في نهاية الأمر تحلى بالشجاعة وأرسلها تحت اسم مستعار هو ويليام إليوت. لماذا؟ خشي أن يتعرف عليه محررو منهاتن، خاصة وأن اسم راي برادبيري ظهر على أغلفة مجلة قصص غريبة وسيتعاملون معه بتعال.
يقول صاحب رواية «نبيذ الهندباء»: ”كنت دوماً محرراً جيداً لأعمالي، حاولت أن أعلم أصدقائي الكُتّاب أن هناك نوعين من الفنون، أولهما هو الانتهاء من العمل نفسه، ومن ثم يأتي الفن الثاني العظيم، وهو أن تتعلم كيف تقسم العمل إلى أجزاء، كي لا تدمره أو تشوهه. الآن وقد تقدمت في السن أصبحت الكتابة لعبة رائعة، فأنا أحب التحدي بنفس القدر الذي أكنه للكتابة الإبداعية، لأنها تحد. إنه تحد فكري أن تمسك المشرط وتفتح جسم المريض دون أن تقتله.“