في مقالتي الأولى غير الافتتاحية لهذه المجلة، كتبتُ «عن ”التّجمع“ وعنّا»، أن ”لا يجب أن تعني حملة الاحتلال الأخيرة على ”التجمع“ الحزبَ وأهلنا في الداخل بقدر أقل مما تعني باقي الفلسطينيين.“
تذكّرتُ المقالة التي كتبتها عن حزبٍ أختلف معه وأتّفق في مسائل عدّة، مصرّاً على أنّ أي ملاحقة لأي فلسطيني من قبل الاحتلال هناك، لممارسته فلسطينيته بشكل من الأشكال، هي ملاحقة لكل فلسطيني، خارج البلد كما في داخله، تذكّرتُ ذلك وأنا أفكّر لا في حزب ولا في ملاحقة، بل في مخيّم وفي تدمير.
وتردّدتُ كثيراً قبل كتابة هذه الأسطر، فلا أريد أن أنادي الشقّ الآخر من الفلسطينيين، هناك داخل البلد، سائلاً إيّاهم عن إمكانية التّضامن مع مخيّم يُدمّر. مجرّد كتابة هذه الأسطر يعني أنّ هنالك نوعاً من المناداة، والأسوأ أن هنالك نوعاً من المقابلة: أنّي كتبتُ وتضامنت معكم، افعلوا شيئاً وتضامنوا معي!
لا. ليس هذا ما أريده، لا لي ولا لكم.
لا أريد لهذه الأفكار أن تنضج، أن تتطوّر، أن تجد نفسها في مجال يجعلها واقعية وملحّة وصادقة. أريدها أن تبقى مخاوف تتردّد بين فينة وأخرى، دون أن تؤكّد حضوراً ما في لحظة ما من الزمن الراهن لهذا المخيّم، وهو زمن تدمير لحق اجتياحاً وحصاراً وتجويعاً وتهجيراً.
هل نحتاج لترديد كل هذه المفردات كلّما حدّثناكم عن المخيّم!
ليست هذه مناداة ولا استجداء، ولا طلباً لردّ ”الجميل“، هي مطالبة لأهلنا في كل مكان بتحمّل مسؤولياتهم تجاه المخيّم الذي لا غاية للفاشية الأسدية هذه الأيام سوى محوه: مكاناً وذاكرة وهويّة.
ولا أطالب هنا قيادات لا السلطة الفلسطينية ولا منظمة التحرير ولا الأحزاب بألوانها ومواقعها، فلا آخذهم على محمل الجد، ولا الأفراد والمؤسسات ممن يجدون تبريراً للفاشية هناك أو حتى يتلذّذون بها، فهؤلاء وحوش مكبوتة، بل أصدقاءنا من أهلنا، من يعرف أنّ هنالك حالة محوٍ مستمرة للمخيم من قبل مجرم حرب يمارس عليه ما مارسه على باقي المناطق في سوريا.
أعطونا مبرّراً واحداً لهذا البرود تجاه المخيّم. أستطيع أن أفهم سعادة الشبّيحة من الفلسطينيين بتدمير المخيّم لكنّي لن أستطيع فهم صمتكم.
لسنا بالمناسبة أقلّ فلسطينية من أحد، وليس اليرموك وباقي المخيّمات الفلسطينية خارج البلد أقل فلسطينية، كمكان، من أي منطقة داخل فلسطين، فالأمكنة يحدّد هويّتها أهلُها وتفاعلهم معها، ثورتنا الفلسطينية خرجت من هذه المخيّمات، جورج حبش وخليل الوزير وغيرهم خرجوا من هذه المخيّمات التي لا يكفّ النّظام السوري عن تدميرها، تاريخياً، منذ تل الزعتر إلى نهر البارد والآن اليرموك وخان الشيح. ذاكرتكم الفلسطينية هي هنا، في هذه المخيّمات.
لا تخرجوا بمظاهرات، فلم يكن أهل اليرموك يخرجون كلّما ضرب جندي رصاصة على فتاة في فلسطين كي يخرج أحدٌ كلّما رمى جندي برميلاً على عائلة في المخيّم. إن لم تجدوا فلسطين ناقصة دون المخيّم فلا تخرجوا، إن لم تجدوا أنفسكم ناقصين دون أهلكم في المخيّم فلا تخرجوا.
الحياة كذلك أحياناً، لا ربّ ولا أهل ولا مكان.