«لم يضيّع روبرتو باجيو ركلة الجزاء، بل وضع الكرة في مرمى السماء. قد يكون المرء ناجحًا إلى أبعد الحدود لكنّه قد لا يدخل التاريخ؛ أمّا باجيو فقد عزّز مكانته التاريخيّة بخطأ تاريخيّ». هكذا يعزّي الطليان أنفسهم كلّما تذكّروا تلك اللحظة الصعبة. ويضيف بعضهم متهكّمًا: «لعلّ الملعب في الأساس مخصّص لكرة القدم الأمريكيّة، ما جعل باجيو يحترم قواعد اللعبة».
كان عمري تسعة أعوام حينذاك. أذكر كيف كان الكبار يروّحون عن أنفسهم المهمومة بأخبار ذلك المونديال البعيد، في ظلام عقد التسعينيّات. وكأيّ فتىً، كنت ألعب الكرة مع أولاد حارتنا، للفت انتباه بنات حارتنا، وأنمّي مخيّلتي بالمسلسلات الكرتونيّة الكرويّة، وأراقب البالغين يمارسون هذه الرياضة يدويًا على ألعاب الفيديو وطاولة القضبان.
أثناء مرحلة الطفولة، تتأثّر أهواؤك في ما يحيط بك، وكلّما كبرتَ انتبهتَ إلى التغيير الذي يطرأ على وعيك، فتسعى جاهدًا لمنح ميولك شكلًا منطقيًا، وذلك بأكثر الطرق عبثيةً، وهذا ما يولّد تناقضات في شخصيّتك الكرويّة، سيراها الآخرون خللًا وستراها أنت تشوّهات جماليّة. فعندما كان الكالتشو محطّ اهتمام العالم بأسره، دُفِعتُ لا إراديًا للإعجاب بنادي اليوفنتوس وتاريخه الحافل بنجومه، مثل بلاتيني وباجيو وغيرهما. وهذا ما دفعني لاختيار الآزوري، وكان القرار حاسمًا لاسيّما بعد خسارة إيطاليا في مونديال 94، ما يغذّي الأمل بأنّنا خسرنا معركة لكنّنا لم نخسر الحرب. وسرعان ما فقدت الكرة الإيطاليّة بريقها، وتحوّل الإعلام إلى الدوريّ الإسبانيّ، فأبهرتني المدرسة الهولنديّة وهي تؤهّل اللاعبين اللاتينيّين والأفارقة في صفوف نادي برشلونة، ليصبح نجوم هذا النادي العريق نجومًا لوعيي الذي بدأ يتشكّل. وهكذا ودّعتُ اليوفنتوس وطفولتي في آن واحد، متأسّفًا لكنّي لست نادمًا، بل كلّما حقّق اليوفي فوزًا مستحقًا تبسّمتُ وازددتُ يقينًا من أنّ الطفولة سيّدةٌ عجوز!
خضعتُ لمحاكمة ميدانيّة في الحارة إبّان ذلك الانشقاق. «كيف لك أن تشجّع إيطاليا وبرشلونة معًا؟» سؤالٌ صعب، طرحه صديقي الذي يشجّع بايرن ميونخ وألمانيا. فأجبتُ بمراوغة عقلانيّة: «شقيقك يشجّع البرازيل ولا يعرف أيّ نادٍ من أنديتها». تسبّبت الإجابة بحرب أهليّة في بيت جارنا، وأكملتُ طريقي مستمتعًا بالخلل الذي يسود كلّ شيء. فمثلًا: أين المنطق من أنّ قميص الطليان أزرق رغم عدم وجود هذا اللون في علم بلادهم؟ إنّ نظريّة الألوان مهمّة جدًا، فمن الجميل أن تكون طفولتك مبسّطة بخطوط اليوفي البيضاء والسوداء، بينما يزدهي شبابك بخطوط ألوان البرشا الفاقعة. وإن كان للمنطق وجود، فإنّ السينما مثلًا وُلدت بالأبيض والأسود، ثمّ تلوّنت فيما بعد. أليس كذلك؟
في العاشر من حزيران عام 2000 اتجهنا إلى ملعب “تشرين” لنكمل مباراةً بدأت في الحارة. كنّا صغارًا ننبض حيويّة وألوانًا مفعمة، نتميّز بها عن ذلك الشحوب الذي طغى على تلك الساعة: النساء يهرعن جيئة وذهابًا لشراء الأغراض والمؤن، والرجال يتباكون ويحوقلون محاكاةً لتضرّعات المآذن. منعنا رجالُ الأمن من الدخول، وكانوا قد طوّقوا الدنيا وانتشروا عند كلّ زاويةٍ وسطح. «هيّا، عودوا إلى منازلكم بسرعة» صرخ أحدهم بعصبيّة، فعدنا ضاحكين حتّى وصلنا إلى الحارة، لنجد أهالينا واجمين هلعين مستنفرين يبحثون عنّا: «عالبيت، عالبيت، عالبيت!». رحم الله مجتمعًا، أمنيًا بطبعه!
انقضت فترة المراهقة، وحملت معها أحلام الكرة. «اطمئنّ، لن تصبح ثاني أفضل لاعب عربيّ في أوروبا، فزين الدين زيدان فرنسي وقد ولد في فرنسا، أمّا أنت سوري من مواليد هذه الحارة الشاميّة». ولا شكّ أنّ مشاغل الحياة تخفّف الرغبة في اللهو، ولكن للمفارقة، يولد الشغف في تلك اللحظة تمامًا. والشغفُ، تعريفًا: هوسُ القلب بمتابعة المباريات، وشدّ الأعصاب، واستخدامُ الدماغ في اللعبة بدلًا من القدمين. وإن لم أكن نجمًا كرويًا في الأحياء الشعبيّة مثل إخوتي، فإنّي كنت بمستوىً جيّد يساعدني على منافستهم في التوقّعات والتكهّنات والتنبّؤات. ناهيك بالاستعارات البلاغيّة والأدبيّة في التوصيف: «نادي برشلونة يجهّز لاعبًا، قدماه مثل دماغ موزارت» – أخي متحدّثًا على ظاهرة ليونل ميسّي في بداياتها المبكّرة. وبينما كان ميسّي يبدأ العزف على الكرة، كنتُ في إيطاليا للدراسة ومنافسة الطليان في المراهنات الشريفة. كان أغلبهم متشائمين، ينفرون من معاشرة هذا الأجنبيّ المتفائل، الذي جاء يدرس آدابهم محبّةً بمنتخبهم الكرويّ. «ستفوز إيطاليا بكأس العالم 2006»، فيهزؤون بي: «إمّا أنّنا لا نفهم ما تقول، وإمّا أنّك مجنون. عارٌ أنّنا تأهّلنا إلى النهائيّات أساسًا. سنكون سعداء إذا اجتزنا الدور الأوّل». لكنّ أحد أصدقائي السوريّين أذهل رفاقه الطليان بالتحليلات الموسّعة في أواخر المونديال، وإذا فشل في إقناعهم بالحُجّة والمنطق جاءهم بالتنجيم والتبصير، وخاطبهم منفعلًا: «إنّ أوجُه الشبه بين آخر مونديال فزنا به وهذا المونديال كثيرة: فقد أقيم كلاهما في دولة أوروبيّة، وتأهلّت أربعة منتخبات أوروبيّة إلى نصف نهائيّ كليهما، إيطاليا وألمانيا وفرنسا مرّة أخرى، فضلًا عن أنّي ولدتُ في يوم المباراة النهائية عام 1982 وها أنا الآن بينكم في إيطاليا، فما بالكم تشكّكون بقدرات منتخب بلادكم؟!».
تُوّجت إيطاليا باللقب، بعد مشقّةٍ ومرارة، وعرفنا يقينًا لماذا تُستَخدم كلمة «Passione» للألم والشغف على حد سواء. بكينا وضحكنا كثيرًا، وكاد صديقنا يموت بعد التتويج ليضفي على حياته معنىً كرويًا أصيلًا. وافتخرتُ بأنّي شهدتُ ذلك الحدث العظيم في مكانه وزمانه، أكثر ممّا فعل رفاعة الطهطاوي في كلامه على الاضطرابات السياسيّة التي شهدها في فرنسا القرن التاسع عشر. تجاهل الطليان دقّة تنبّؤاتنا وراحوا يناقشوننا بأخلاقيّات زيدان، ونطحته التاريخيّة على صدر ماتيراتسي، حتّى إنّي سمعتُ أحد السكارى يصيح غاضبًا في الساحة: «زيدان، عد إلى الصحراء من حيث أتيتَ».
عدتُ إلى سوريا من حيث أتيتُ، ورحتُ أدرّس اللغة الإيطاليّة في جامعة دمشق. قرّرتُ ذات مرّة أن أعلّم الطلّاب بعض المصطلحات الكرويّة، وكان ذلك قبل كلاسيكو العام 2010 بأيّام. «سيفوز برشلونة على الريال بثلاثة أهداف نظيفة». ضحك الطلّاب المَدارِدة: «إمّا أنّنا لا نفهم ما تقول، وإمّا أنّك فقدت رشدك يا أستاذ». وبالفعل، كنتُ كمن فقد رشده. إذ اقترح أحد الأصدقاء أن نشاهد المباراة في سينما السفراء. أجل، الكلاسيكو في السينما! يا للروعة! لمعت عيناي من الفكرة بحدّ ذاتها، وجاشت عواطفي ونحن ندخل الصالة لحضور مباراة تاريخيّة كتلك. جلس أنصار الملكيّ تلقائيًا جهة اليمين، ونحن المتمرّدون جهة اليسار، وانطلق الكلاسيكو بتعليق عصام الشوالي، فضجّت النفوس واهتزّت المشاعر: ليونل ميسّي ورفاقه وخصومه على الشاشة الكبيرة، بألوانها الصارخة، حيث تنعكس ظلالُنا الهائجة، فتعلو هتافاتُنا إثارةً وتشويقًا، مسرورين من مشاهدة ذلك الفيلم الحيّ، ندخّن السجائر في قلب الصالة المظلمة، التي أباحت كلّ محظوراتها استثناءً لتلك المناسبة الفريدة. جادت عليّ الأمسية بأكثر ممّا طلبتُ، فها قد سحق برشلونة غريمَه بخمسة أهداف نظيفة، لا ثلاثة. فعدتُ إلى الجامعة بعد يومين منتشيًا، ووجدتُ أنّ الطلّاب المدريديّين قد تغيّبوا عن الدرس. فابتسمتُ ابتسامةَ مَن يعفو عند المقدرة وبرّرتُ لهم غيابهم.
واليومَ، أعاين هول الخيبات الوطنيّة الكبرى التي كان لسوء تقديرنا وزيف رؤانا سببٌ فيها. أضعنا أهدافنا في مرمى السماء، وخسرنا المعركة، والحرب، وانطفأ الشغف. ولعلّنا نستحقّ العيش مُبعَدين عن مهد طفولتنا الذي تركناه لمصيره، لندخل في نفقٍ أشدّ ظلمةً من عقد التعسينيّات، وحيدين في غربتنا، سجناءً ننتظر زيارات الأحبّة على سكايب ومسنجر وواتساب، لا شيء يعجبنا ليعالج حرقة قلوبنا وعطب ذاكراتنا. ويتزامن كلّ هذا الأسى التاريخيّ مع العار من غياب إيطاليا عن نهائيّات مونديال موسكو 2018، صفعةً تلو الأخرى على الصعيد الوطنيّ ثمّ الكرويّ.
أذكر أنّي في عام 2012 كنت أتابع كأس أوروبا في أحد مقاهي ساروجة، وكان المنتخب الألمانيّ يخسر كالعادة أمام نظيره الإيطاليّ. اقترب منّي أحد الفتية، ولا بدّ أنّه رآني أكثر الحاضرين مبالغة في الهياج والفرحة، لذا قال لي: «أخشى أنّ محبّتي لإيطاليا تفوق محبّتي لبلادي». ارتبكتُ قليلًا، فقد تكون هذه العبارة رسالةً من المحفل الماسونيّ أو المخابرات السوريّة لجسّ النبض الخ الخ. حاولتُ ارتجال رد مناسبٍ يذرّ الرماد في عينيه: «عليك أن تفرّق بين الانتماء الكرويّ والانتماء الوطنيّ يا بُنَيَ!». نظر إليّ نظرة حفيدٍ لجدّه، مع أنّي كنتُ واضحًا معه بقولي (يا بنيّ). إلّا أنّ النظرة كانت تعني شيئًا آخر: “زدني من هذا الكلام، أشعر أنّي أعرفه جيّدًا، غير أنّ البرهان ينقصني”. آثرتُ أن أترك الجملة معلّقة هكذا، لعلّها تشوّش الجهةَ التي أوفدتْه ريثما أنجو بجلدي. وها أنا أعيش في فرنسا، بعيدًا عن الآزوري والبرشا وسوريا، مسلوخًا عن تلك الانتماءات. أتيمّن خيرًا بليونل ميسّي في قيادته للمنتخب الأرجنتينيّ، أصفّق بحرارة للمنتخبات العربيّة المتأهّلة، وأقدح صوّان الشغف مجدّدًا مع كلّ هجمة لمحمّد صلاح، العربيّ الخلوق الذي دخل تاريخ أوروبا، بأقلّ عددٍ ممكن من الأخطاء، وهو الذي لم يولد في أي من بلدانها، بل جاءها من حارةٍ شعبيّة مصريّة، تشبه حارتنا نوعًا ما.
هذا المقال هو جزء من ملف “أبطال الملاعب” وهو من إعداد تمّام هنيدي.