أجرت الحوار: ليلي كانسو، تُرجم عن مجلة “غرنيكا“.
عندما أتاني خبر وفاة كارلوس فوينتس الشهر الماضي، توجهت مباشرة لخزانتي، لأبحث في صندوق الفوضى الذي كنت أنوي ترتيبه لسنوات. وبعد بحث مرهِق، وجدت أخيرًا ما كنت أبحث عنه، شريط كاسيت قديم، مع لاصقة مكتوب عليها بخط اليد “حوار مع كارلوس فوينتس في السيارة”.
ولد فوينتس عام 1928 في بنما لأب دبلوماسي مكسيكي، وتربى في واشنطن، وهو يعرّف نفسه ككاتب مكسيكي، تنعكس رؤيته الفريدة كعالم ببواطن الأمور وكدخيل على ثقافات متنوعة في أعماله، وتكشف عن الفهم المعقد لصراعات التاريخ المكسيكي والحياة اليومية الحديثة. تنسج رواياته الأحداث الأسطورية والقصص الحقيقية للفساد والجشع والحب والخوف وأزمة الهوية.
اشترك العديد من كتاب أمريكا اللاتينية في مسألة أزمة الهوية، وذلك في العقد الصاخب من الستينيات وحتى السبعينيات من القرن المنصرم، ولقد ساعد كل من فوينتس وماريو فارجاس يوسا وماركيز في إطلاق حركة أدبية كبيرة ما لبثت أن عرفت سريعًا باسم “البوم”.
منذ انتشار خبر وفاته في 15 مايو 2012 عن عمر ناهز 83، بات هناك تدفق عالمي من الحزن على خسارة الرجل الذي عرف على أنه كاتب ومفكر عظيم، فقد أعلن رئيس المكسيك فيليب كالديرون: “لقد حزنت بشدة لوفاة كاتبنا المحبوب كارلوس فوينتس، لقد كان كاتبًا مكسيكيًا كونيًا”. ونعته جريدة نيويورك تايمز كونه “أحد أكثر الكتاب إثارة للإعجاب في العالم المتحدث بالإسبانية”.
عندما حاورت فوينتس عام 2006، كان بالفعل يعد أسطورة في عالم الأدب، والحال أني عندما تخرجت من كلية دارتموث، فرع الأدب المقارن، كنت أبذل مجهودًا كبيرًا لاستضافة فوينتس في الحرم الجامعي كضيف متحدث، أما المناسبة فقد كانت إحياء الذكرى السنوية لسوزان زانتوب، الأستاذة التي لاقت مصرعها في حادث مروع في بيتها عام 2001، ولقد كان فوينتس يعرفها عندما كان يدرّس في دارتموث كأستاذ زائر.
بينما كنت أقف ملهوفة في ردهة الفندق في انتظار ظهور فوينتس، كان قلبي يتتبع باب المصعد في كل مرة ينفح فيها، لكن مخاوفي تلاشت عندما ظهر فوينتس من المصعد بابتسامة متوهجة، وقد احتضناني، هو وزوجته، كما لو كنا نعرف بعضنا البعض منذ سنوات عديدة.
أما فوينتس، بشاربه الذي يبدو كعلامة مسجلة، فقد كان يرتدي بدلة رمادية اللون ورابطة عنق أنيقة. وغادرنا ثلاثتنا وسرنا عبر الحرم بينما كان فوينتس يلقي النكات بطفولية، وبينما كنا نعبر المروج الشاسعة المحيطة بالحرم الجامعي، تذكرت سيلفيا الوقت الذي قضته هنا في دارتموث والذكريات الحية لأطفالها الذين كانوا يلعبون في العشب.
وفي اليوم التالي، كان عليّ أن أصحبهما في رحلة على الطريق إلى بروفيدينس في جزيرة رود أيلاند، وذلك لأن فوينتس كانت لديه محاضرة في جامعة براون. والواقع أن الحوار لم يكن مخططًا له، كل ما كنت أعرفه أنني سأقضي ثلاث ساعات مع كارلوس فوينتس في السيارة، وهو ما يبدو أنها فرصة واحدة فقط في العمر. والنتيجة كانت مناقشة صريحة جدًا عن رؤيته لدور الكاتب في الحركات السياسية والمجتمع.
في كتابه «ما أؤمن به»، This I Believe، يقول عن الموت: “نحن نعيش في عصر يبدو أنه عصرنا، لكننا أيضًا أشباح عصر أقدم، وطالما لم نُنذر بعصر لم يأت بعد، فدعنا نفقد البصيرة بتلك الوعود التي يحملها الموت”. والواقع أن مناقشتنا عن دور الفن في السياسة والأدب والمنفى، وهويته ككاتب مكسيكي وتأثيره الخاص، هي التي وجهت الحديث لما سيتذكره.
أنت كاتب مؤثر ودائمًا ما تكون صريحًا جدًا ومتورطًا في المسائل السياسية الحالية. لكن هنا، على العكس من ذلك، يبدو من غير المحتمل لشاعر أو كاتب أو فنان أن يتولى منصبًا عامًا. في رأيك ما الفروق في السلوكيات بين الكتاب الأمريكيين وكتاب أمريكا اللاتينية فيما يتعلق بالعلاقة بين الفنان والكاتب وبين النظام السياسي؟
حسنًا، أي شيء سيكون أفضل في الولايات المتحدة مما لديك. في الواقع كحكومة إنها ذات جودة منخفضة بالنظر إلى أن هذا البلد ينتج مثقفين بارزين، ولديه جامعات عظيمة، لكن الناس الذين يصلون للحكومة عاديين في الحقيقة. لكن الوضع في أمريكا اللاتينية كان مختلف جدًا في السابق لأن الكتاب كانوا يتكلمون بلسان من لا صوت له. والواقع أن معدلات الفقر والأمية والبطالة في أمريكا اللاتينية كانت كبيرة جدًا خلال تاريخنا، بحيث إن لم يتكلم الكاتب بالنيابة عن الناس، لن يفعل أحد. الحكومة فاسدة. لكن الوضع تغير الآن. فقد بتنا نملك حكومات ديمقراطية في معظم بلدان أمريكا اللاتينية، لذا، وضع الكاتب تغير كثيرًا، ولم يعد كما يقول نيرودا، أن الكاتب في أمريكا اللاتينية يسير في الأنحاء يحمل هموم شعبه على كتفه. صرنا مواطنين الآن، لدينا وسائل تعبير، وأحزاب سياسية، ومجلس شعب، واتحادات، لذا، بالضرورة تغير موقع الكاتب، وبتنا نعتبر أنفسنا مواطنين الآن، ولسنا ناطقين بلسان الجميع، لكن مواطنين يشاركون في العملية السياسية والاجتماعية لبلداننا.
أنت تتحدث عن المناصب الحكومية، والتي اعتدنا أن يحصل عليها الكتاب البارزين. والواقع أن معظم الكتاب في المكسيك كانوا يعملون كسفراء وسكرتارية، لكن الوضع لم يعد كذلك بعد الآن، الكاتب يمكنه أن يعيش من الكتابة في الوقت الراهن. بات لديه جمهور، وثمة دور نشر كثيرة، وانتشرت الصحف. لذا لم يعد الوضع فظيعًا كما اعتدنا عندما لم يكن لدينا تلك الوسائل، فلم يكن لدى الكاتب منافذ لكسب المال، وبالتالي كان يضطر أن يلجأ إلى الوظائف الحكومية، فقد يتقلد منصب سفير في دولة ما، أو وزير في حكومة، إلخ، لكن الوضع تغير والمجتمع المدني الآن بات هو البطل، وبالتالي احتل الكاتب وضعاً آخر اليوم، لكنه لم يصبح أقل تأثيرًا من الماضي، في مجتمع ديمقراطي جديد.
هل تعتبر نفسك كاتباً في المنفى؟
الحق أني لا أعتبر نفسي كاتباً في المنفى لأني نشأت خارج بلدي أصلًا، الحال أن والدي كان دبلوماسياً، وهكذا، كبرت في البرازيل وتشيلي والأرجنتين، وأمريكا، كما أني درست في سويسرا، لذا، دائمًا ما كان لديّ انطباع عام عن بلدي، وأنا سعيد بذلك.
أديبنا الأعظم على الإطلاق، خوان رولفو، مؤلف رواية بيدرو بارامو، لم يترك خاليسكو أو أي ولاية من ولايات المكسيك، حيث كان يبيع الإطارات ويسير في الأنحاء يسمع القصص، وهو مثال جيد بالنسبة لكاتب نشأ وتجذّر في البلد، وقد حوّل كل ما سمعه إلى فن عظيم. لكن وضعي كان مختلفًا تمامًا عن رولفو، وذلك لأن لديّ انطباع عن المكسيك منذ كنت طفلًا. فقد كنت صبيًا حينما أمم الرئيس لازارو كارديناس الشركات الأجنبية التي تعمل في مجال النفط، واشتعلت موجة عنيفة ضد المكسيكيين في أمريكا. كانت هناك مانشيتات عريضة “الشيوعيون المكسيكيون يستولون على نفطنا”، ومن ثم فقدت بعض الأصدقاء في المدرسة. كنت أنظر لذلك كله بريبة، وأنا ابن دبلوماسي، لكني عندما سمعت الأخبار من المكسيك أخذت صف القضية المكسيكية بالطبع. الحق أني قد نشأت في نوع من المنفى منذ كان عمري 15 عامًا، ودائمًا ما كنت خارج المكسيك، لكني كنت دائمًا أعي أنني مكسيكي، وهذا أعطاني وعياً مختلفاً عن أي شخص لم يغادر المكسيك أبدًا، لذا، كلا الطريقين متاحين.
للحظة كنت أتخيل لو أني كنت أرجنتينياً أو تشيلياً، لكنت مرتبطًا جدًا بأصدقائي، ومدارسي في سانتياجو وبوينس آيرس، لكن، لا، لا، فقد فازت المكسيك بي، أتعلم لماذا؟، لأن المكسيك دائمًا ما كانت عبارة عن لغز بالنسبة لي، علامة استفهام كبيرة، هل تعلم ماذا فعل جارسيا ماركيز عندما لم يفهم الفترة السياسية لعصر الباروك؟، ما فعله أنه ذهب للمتحف الطبيعي للأنثروبولوجيا، ووقف قبالة “كوتليكي Coatlicue ” أمّ آلهة الآزتك جميعًا، وهو نحت عملاق من الصخر، يتفرع عنه الكثير من الحيّات، ذو رأس مقطوع، وهائل. ووجد ماركيز أن الإلهة تقول له: “أنا إلهة ولست شخصاً، لا تحاول أن تبحث عن الوجود الشخصي داخلي، أنا لست الزهرة، أنا كوتليكي، إلهة الأفاعي” وعندما وقف ماركيز قبالتها لمدة خمس دقائق، قال: “الآن فهمت المكسيك، ورحل”.
الحق أنها بلد معقدة جدًا، غامضة جدًا، لن أفهمها بشكل تام، ولعل هذا هو السبب في أني أكتب عنها بغزارة، أي أني أحاول أن أفهمها.
بخصوص مسألة المنفى، لقد تحدثت كثيرًا عن كاتب معين في المنفى، والحال أنه صديق كبير لك، إنه الإسباني خوان غويتيسولو.
لديّ الكثير من التعليقات عن غويتيسولو. أعتقد بصراحة ودون مواربة، أنه أعظم مؤلف على قيد الحياة من إسبانيا. لكني دائمًا ما كنت أرفض أن غويتيسولو كاتبًا إسبانيًا، أو أنه كاتب من إسبانيا، والحق أني أعتبره جزءاً من الأدب الإسباني-أمريكي. ذلك أن غويتيسولو، كان لا يستطيع النشر في إسبانيا لمدة طويلة جدًا نظرًا لأن رقابة عهد فرانكو لم تكن ستسمح له، لذا، كان ينشر في المكسيك، ونشر في بوينس آيرس، لقد كان حقًا مثالًا نموذجيًا لوحدة اللغة الإسبانية، لحقيقة أن هناك ما يقرب من 500 مليون شخص يفكر ويتكلم بالإسبانية
أعتبر غويتيسولو كاتباً إسبانياً-أمريكياً، مع جارسيا ماركيز، أو كورتاثار، أو أنا، وبالتأكيد، طبقًا لأي مقياس للكاتب في العالم، سيكون غويتيسولو كاتبًا من العيار الثقيل، رجل قادر على الدخول في التجارب الاستثنائية، يأخذ مخاطر عظيمة، ولا يرضى أبدًا بما يفعله، ودائمًا ما كان ذلك علامة على الكاتب الجيد. ذلك أني أعتقد أن هناك شيئًا خاطئًا بك عندما ترضى عما تفعله أو تشعر بالراحة حيال ما تكتبه. عليك أن تكون غاضبًا جدًا، وغير راض على الإطلاق، ودائمًا ما تنظر لأشياء مختلفة. أعتقد أنه نموذج لذلك أكثر مني، أكثر من أي واحد منا. غويتيسولو مجرّب عظيم، وجريء، وأكثر مؤلف مقبل على المخاطر في اللغة الإسبانية.
غويتيسولو كاتب إسباني رفض إسبانيا وعانق ثقافة العالم العربي، حتى أنه كتب الكثير عن القرون السبعة للوجود العربي في إسبانيا، ما أفكارك حول موقفه؟
غويتيسولو هو التحالف الحقيقي الموجود بين أمريكا اللاتينية والعالم العربي، كان الوسيط بين ثقافة اللغة الإسبانية، وثقافة اللغة العربية في عالم الأدب العربي. وذلك لأن 40% من الكلمات التي نستخدمها في اللغة الإسبانية ذات أصل عربي، والحال أن العرب قضوا سبعة قرون في شبه الجزيرة الإسبانية، وجلبوا لنا الماء، والهندسة المعمارية، وجلبوا لنا الموسيقى، وأدخلوا لنا النظافة، لأن الإسبان لم يكونوا يغتسلوا أصلًا، بينما العرب كانوا يفعلون. فلقد كان الماء موجودًا في العالم العربي، ولم يكن قد وصل إلى إسبانيا بعد، لذا، الحق أن لدينا دَين هائل للعرب، وغويتيسولو هو الجسر الوحيد، الوسيط بين ثقافة نميل إلى نسيانها في أمريكا اللاتينية، وبين العالم العربي
هل قضيت وقتًا مع غويتيسولو بشكل منتظم؟
نعم، أنا وزوجتي قضينا أسبوعًا معه في مراكش، نتجول في المدينة، والحال أنه يعرف المدينة جيدًا، ولدرجة أنه إذا لم يكن غويتيسولو هو مرشدك، فستضيع للأبد، ولن يسمع أحد عنك مرة أخرى، كما أننا استقبلناه في المكسيك مرة، والتقينا في إسبانيا، وفي باريس، ومراكش، تجمعني به صداقة قوية جدًا جدًا، والحق أني ممتن جدًا لهذه الصداقة.
أود أن أطلع على أفكارك حول مسألة الهجرة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ما يحدث هو سلاح ذو حدين. بالطبع المسؤولية تقع على الولايات المتحدة، لكنها تحتاج هؤلاء العمال أيضاً. ما أقصده هو أن الولايات المتحدة لن تأكل، ولن تتناول إفطارها بدون العمال المكسيكيين. لأنهم هم من يلتقطون البرتقال، والطماطم. هم الذين يعملون في المجالات التي لا يعمل بها أحد. آمل أن تكون المكسيك قادرة على القضاء على البطالة لعمالنا في يوم ما، ومن ثم تستطيع أمريكا حينها أن تبحث عن مثل هؤلاء العمال في مكان آخر. في بابوا غينيا الجديدة، في القطب الشمالي، في أي مكان. لكن الواقع أن أمريكا ستحتاج تلك العمالة للقيام بالعمل الذي لا يقوم به أحد في المجتمع ما بعد الصناعي الذي لا يعترف البعض أننا لا نعيش فيه. أمريكا لا تزال تعتقد أننا نعيش في مجتمع القرن التاسع عشر الصناعي، لكن الحال لم يعد كذلك الآن، وعليها أن تكيف نفسها على الواقع الجديد. المسؤولية هنا تقع على المكسيك في أن تقضي على بطالة شعبها. ومادام لدينا نظام لا يوفر العمل لنحو 50% من السكان، سوف تستمر الهجرات إلى أمريكا.
عندما يكون لدينا نظام أفضل اجتماعيًا، يضطلع بمسؤولياته، يكون أقل غرورًا، وأقل فسادًا، سنستطيع توفير العمل لملايين المكسيكيين الذين سيبنون طرقنا، وينشؤون سدودنا، ومجاريرنا، ومدارسنا. كل الأشياء تراجعت في المكسيك في الوقت الذي لدينا فيه القوى العاملة. أشاهد القطارات تنقل العمال إلى الشمال، وأتساءل، لماذا لا يقومون بالعمل الموجود بالفعل في واهاكا، تباسكو، تشياباس، وفي يوكاتان، وفي كل مكان آخر؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ ثمة شيء سيئ جدًا يجري، على الجانبين من الحدود. لكن العامل هو العامل، ليس مجرمًا، فهو أو هي ليسوا مجرمين، لذا، أنا أؤيد الوصول لحل كاقتراحات (كينيدي-مكين) التي أوضحت ما الخطوات التي يجب اتخاذها للموافقة على حقيقة أن الولايات المتحدة تحتاج للعمالة الأجنبية فعلًا. وأنا لا أحدد العمالة المكسيكية هنا، لكن العمالة الأجنبية هي من تضطلع بالمهام التي لا يضطلع بها الآخرون، لا بد أن هناك بعض الحلول القانونية، بعض الحلول السلمية التي لا تجرّم العمال.
هل نواجه في الولايات المتحدة موقفًا يمكن أن يعزز الخوف ضمن المجتمع الأمريكي-لاتيني؟
حسنًا، ما أراه مناقض للخوف تمامًا، أنا أرى شجاعة متطرفة. عندما أرى الملايين من الناس تحتج في شوارع لوس أنجلوس وسياتل وأوماها، وكل مكان آخر. عندها يجب أن أقول هذا فعل شجاع، وليس فعل خوف، بعض هؤلاء المحتجين قد عوقبوا نظرًا لاشتراكهم في المسيرات الاحتجاجية كما قرأت اليوم. الواقع أنهم سيعودون مرة أخرى، أو سيعود غيرهم، لأن العمل يجب أن يتم، بهذه البساطة. لكن أعتقد أن ذلك ليس خوفًا، على العكس، هو موقف مماثل لما حدث لحركة سيزار تشافيز عندما خرج العمال فجأة من الظل، إلى الشوارع. والآن يخرج المهاجرون إلى الشوارع، وأسوأ ما قد يحدث هو اليوم المروع عندما يترك المكسيكيون أمريكا، حيث ستصاب هذه البلاد بالركود التام. حينها سأطالب العمال المكسيكيين بالرجوع لبلادهم متى أمكنهم ذلك، لأن البلاد التي هاجروا إليها لم تعد قادرة على إطعام نفسها، ولا على تعليم نفسها، ولا حتى على تسيير الانتقالات داخلها، بدون وجود العمال المكسيكيين.
هل يمكن للولايات المتحدة أن تقر نوعًا من النظام الطبقي، حيث لا يمكن للعمال الأجانب أن يطالبوا بحقوق المواطنة، بينما سيضمنون حقوقهم كعمال؟ إذا حدث شيء كهذا، ألن يشعر هؤلاء العمال أنهم عبيد العصر الحديث؟
سيشعرون أنهم كالمجرمين قبل كل شيء. وكالعبيد إذا كان الموظفون هم الأسياد. لكن، أنا أشعر بذلك، وأود أن أشكر المظاهر التي نراها مؤخرًا، ذلك أن هناك حساً عالياً بالتضامن فيما بين العمال المهاجرين. والهجرة فرصة، لكن هذا بدأ بقانون أحادي الجانب من البلد صاحبة المشكلة، فاتفاق (كينيدي-مكين) كان اتفاقًا ثنائيًا بين المكسيك وأمريكا، وبين أمريكا والسلفادور، وبين أمريكا وجمهورية الدومنيكان، أي كان ما تريده. وأخيرًا، يجب أن يكون حدثًا دوليًا متعدد الأطراف. وأنا أؤيد إنشاء اتحاد دولي للعمال يتولى المشاكل التي تؤثر على أوروبا من جهة الهجرات التي تأتيها من أفريقيا والبلاد العربية، والولايات المتحدة من جهة الهجرات التي تأتيها من المكسيك وأمريكا اللاتينية. يجب أن يكون سؤالًا دوليًا، يستدعي حلولًا دولية، لا أن يسبب مشاكل وطنية أو دولية.
رأينا عدة انتخابات عظيمة هذه السنة في أمريكا اللاتينية مع اتجاه ملحوظ إلى اليسار، حاولت أمريكا الشمالية التدخل وبدا أنها كانت خصماً لقيادات أمريكا اللاتينية الجدد، هل هذا التحول في السياسة هو رد مباشر للتدخل الأمريكي؟
لا، الولايات المتحدة لا تملك أي شيء تفعله حيال ذلك التحول، لا شيء على الإطلاق. هذا شيء حدث لأن الديكتاتوريات العسكرية التي كانت موجودة في فترة الحرب الباردة كانت تتلقى الدعم من أمريكا، بيونشيه أو مجلس المحافظين الأرجنتيني، كان يكفي أن تقول “نحن ضد الشيوعية” لتتلقى الدعم من الولايات المتحدة فورًا. وعندما انتهت الحرب الباردة، لم يعد لهذه الديكتاتوريات سببًا لوجودها. وجاءت القوة الديمقراطية: الانتخابات الديمقراطية، البرلمانات الديمقراطية، الصحافة الحرة، سلسلة من الفتوحات الديمقراطية الهامة، في كل البلاد من المكسيك إلى تشيلي إلى البرازيل إلى الأرجنتين، والآن عندما ولجنا إلى المرحلة الثانية، حيث قالت الناس أن هذه الحريات الديمقراطية عظيمة، نريد أن نحافظ عليها، لكن متى سنعمل، متى سنأكل، متي سنتعلم، متى سنحصل على الفرص؟
والآن، تنتخب الجماهير في أمريكا اللاتينية الحكومات التي تشعر أنها قادرة على المضي قدمًا في الإصلاحات الديمقراطية في العشرين عامًا الماضية، وتحولها إلى إصلاحات اجتماعية واقتصادية، وهذا كما أعتقد، مهم للغاية، لأن هذا يفسر أيضًا أن اليسار قد هجر الحلول الثورية التي قدمها تشي جيفارا واتخذت الطريق الديمقراطي. كل شخص سيأتي عن طريق الديمقراطية، حتى هوجو تشافيز الذي لا أعتبره يساريًا، لكنه يميني متقنع بمظهر يساري. إيفو مورالس انتُخب، لولا دا سيلفا انتُخب، كريستينا كريشنر انتُخبت، لا يوجد شخص وصل إلى السلطة مستخدمًا وسائل العنف، وهذا مكسب عظيم، الحصول على المكاسب الرسمية للديمقراطية، والآن أنت تطالب بالأدوات والرفاهية الملموسة التي من المفترض أن تمتلكها الديمقراطية.
حول موضوع الديمقراطية، أود أن أنقل المناقشة لمنطقة أخرى من العالم، عندما لم تكن هنك أسلحة دمار شامل في العراق، اضطرت الإدارة الأمريكية أن تحول هدفها الأساسي إلى ترويج الديمقراطية، كيف تشعر حيال الوعد الأمريكي بالترويج للديمقراطية في بلاد أخرى؟ هل تعتقد أن ذلك ممكنًا؟
أنا مكسيكي، والولايات المتحدة تعايشت لمدة 75 عامًا مع حزب النظام الأوحد، الحزب الثوري المؤسساتي، دون أن يرفّ لها جفن وتطالبه بتطبيق الديمقراطية في المكسيك. الديمقراطية جاءت لأن المكسيكيين حاربوا من أجلها، وصنعوا ديمقراطية مطابقة لتاريخنا، وإمكانياتنا، ومنظوراتنا. الحق أن الديمقراطية ليست شيئًا يمكن استيراده مثل الكوكاكولا. يجب أن تولد من الداخل طبقًا لثقافة وظروف كل بلد. والحال أنه سيكون هناك ديمقراطيات عربية وفقًا للشروط العربية، ولنظم الإيمان العربية، وللعادات العربية، والتاريخ العربي. لا يمكنك أن تفرض الديمقراطية، وهذا فشل ذاتي حينما تحاول فرض الديمقراطية. هل يمكن لكونداليزا رايس أن تفرض الديمقراطية على حسني مبارك؟ أو هل سيجد الشعب المصري طريقًا آخر للديمقراطية بعيدًا عن ذلك؟ بوضوح، من السخيف جدًا أن تعتقد أن الولايات المتحدة ستفرض الديمقراطية، أمريكا تعايشت مع سوموسا، وتروخيو، وباتيستا، وكاستيلو آرماس، أي أنها تعايشت مع أسوأ الديكتاتوريين الذي حظينا بهم في أمريكا اللاتينية، وكلهم كانوا دمى في يد أمريكا، ما الديمقراطية التي نتحدث عنها إن لم تأت منا، وليس منهم
هل تستمتع تسافر وتزور الجامعات لتلقي المحاضرات على الطلاب؟
اسمعي، أنا كاتب، وكما تعرف سيلفيا، أقضي معظم وقتي قبالة مفكرتي، أمسك القلم في يدي، وأكتب، وأكتب، وأكتب، ثم أقرأ وأقرأ وأقرأ. هذه هي حياتي. ومن وقت لآخر احتاج لفاصل. ألقي المحاضرات، أسافر، والذهاب إلى الجامعات طريقة للخروج من عزلة الكتابة، التي أحبها بالمناسبة، لكني أحتاج إلى فاصل من وقت لآخر، كما أني أتطلع دائمًا للالتقاء بأناس جديدة وشباب جدد دون عواقب، لذا، هذا ليس سيئًا، وببساطة أنا في عطلتي الربيعية.
ما كتبك المفضلة؟
لا، أنا أقرأ كثيرًا، وسوف أرهقك إذا أخبرتك بهم كلهم.
أين يقع منزلك؟
في لندن، وجزء كبير من السنة يقع في المكسيك، وجزء آخر أقضيه في السفر عبر أوروبا أو أمريكا، إنها حياة متنوعة، وكما تعلم سيلفيا، علينا أن نحزم حقائبنا طوال الوقت.