تنطلق بعد نحو شهر فعاليات مهرجان “قلنديا الدولي” (٣-٣٠ تشرين الأول) في دورته الرابعة، بعد انطلاقته عام ٢٠١٢. وهنا يقول القائمون على المهرجان إنه “انطلق كمحفل ملهم للفنون المعاصرة ينظم كل عامين في عدد من المدن والقرى الفلسطينية، ويسعى إلى تعزيز دور الثقافة في فلسطين، وترسيخ مكانة فلسطين الثقافية في العالم، وذلك من خلال إنتاج سلسلة من المعارض، إلى جانب عروض الأداء، والحوارات، وعروض الأفلام، وورش العمل، والجولات الميدانية التي تفتح الآفاق أمام إطلاق الحوار وتعزيز التبادل على المستويين المحلي والدولي”.
لماذا قلنديا؟
في الضفة الغربية هناك حاجز عسكري يطلق عليه الاحتلال اسم “معبر” لا يقتصر عمله على فصل الضفة عن القدس ويعزلها عن باقي المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، فعمله يذهب أبعد من ذلك إلى ممارسة العنصرية بحق الفلسطينيين. هذا الفاصل أو الحاجز الذي يفصل البشر أبناء الهوية القومية الواحدة، بات رمزية للفن الفلسطيني والعربي والعالمي، فـ “بداية العقد الماضي أصبحت كلمة “قلنديا”، عبر اقترانها بمفردة حاجز، مركباً أساسياً ودائم الحضور في ما ينتج من مواد إعلامية من فلسطين وعنها، وما ينتج من مواد بصرية وأدبية أيضاً، ومن قصص وحكايات يتداولها الناس بشكل يومي كذلك.
ويضيف موقع مهرجان قلنديا الدولي حول دلالة قلنديا التي كانت تربط فلسطين بالعالم أنه تم طمسها بشكل متعمد ومبرمج، فنجد أن ”حاجز قلنديا يجثم على ذاكرة مهمة للمكان، محاولاً خنقها وطمسها، وهي مطار القدس الدولي، أو مطار قلنديا كما كان يتم تداوله أحياناً، الذي كان يستقبل عشرات الرحلات الجوية يومياً، رابطاً فلسطين ببلدان المنطقة والعالم، ونجد أن مخيم قلنديا الذي اقترض اسمه من بلدة قلنديا، ومنحه بدوره للحاجز، هو الوجه الآخر والحاضر لتلك البلدة الغائبة التي شطرها الجدار نصفين.“
في فلسطين تجتمع الأشياء بواقعيتها المفرطة، ورمزيتها القادرة على إيضاح مفاهيم لا تتلمسها السياسة إلا بقدر معين يتناسب والمعاهدات والاتفاقات، فهذه القرية (قلنديا) صار محلها حاجز عسكري هو الأشهر في فلسطين المحتلة، حيث أمّن لـ “إسرائيل” فصل فلسطين التاريخية عن العالم؛ الفصل الذي طال انتظار نهايته.
لذا فإن استخدام “قلنديا الدولي” عنواناً لحدث فني كبير هو ”محاولة لتوظيف ما يحمله هذا الاسم من طبقات دلالية متعددة ومتناقضة، وما قد ينتجه من تداعيات مختلفة في الذهن والذاكرة، من أجل إيصال الرسالة السياسية لهذا الحدث الذي يسعى إلى تكريس اسم فلسطين على خارطة العمل الثقافي في المشهد العالمي.“
خطوات أربع
بدأ “قلنديا الدولي” عام ٢٠١٢، تحت شعار “فلسطين: فن وحياة” (١-١٥ تشرين الثاني) في بلدة قلنديا الواقعة داخل بيت فلسطيني قديم مبني منذ أكثر من ١٠٠ عام وعلى مقربة من جدار الفصل العنصري. وحملت ثيمة المهرجان تعريفاً لـ “قلنديا الدولي” في محاولة للاستفادة من الاسم ومعانيه متعدد الطبقات والمتناقض في حدث يهدف إلى تحديد مكان فلسطين وإدامتها في المشهد الثقافي الدولي، وهي خطوة خلاقة لاستعادة مكانة فلسطين في حياة وذكريات العالم.“
بعد عامين، في ٢٠١٤، افتتحت النسخة الثانية من المهرجان تحت عنوان “الأرشيف حياة ومشاركة” (١٥ تشرين الأول – ٢٢ تشرين الثاني) وتقول ثيمة المهرجان “على مر السنين، تعرّض التراث الفلسطيني مراراً وتكراراً للاضطرابات والانتزاع، بل وحتى النهب والسرقة. وهذا يعني أنه على مدى عقود، كانت الأسئلة المتعلقة بالأدوار التي تلعبها الأرشيفات، ومن يحافظ عليها، ومن يمتلكها موضع نزاع حاد. يمكن القول إن عملية الأرشفة لها دور أساسي في تجميع خيوط ماضي فلسطين وحاضرها وتشكيل مستقبلها. ولهذا السبب اختار قلنديا الدولي موضوع الأرشيف ودوره في تشكيل الهوية الوطنية والحفاظ عليها، وأهمية وصول الجمهور إليه كموضوع أساسي للمهرجان.“
عام ٢٠١٦، كانت نسخة “هذا البحر لي” (٥-٣١ تشرين الأول) الجملة المأخوذة من قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش، ويذكر مدير برنامج الثقافة والفنون في مؤسسة عبد المحسن القطان محمود أبو هشهش حول ثيمة المهرجان بأنّ “خطاب النكبة الذي يركّز على فقدان البيت والأرض، سقطت منه، إلى حد كبير، خسارة البحر مكوّنًا أساسيًّا في هذا الوطن، ودون البحر لا يمكن تخيّل فلسطين أصلًا، ونحن نريد إعادة هذا المكوّن من مكوّنات الوطن والجغرافيا الروحيّة إلى الوجدان والخطابين الثقافيّ والسياسيّ. من شأن تناول موضوعة العودة من منظار البحر أن يمنح تلوّنات جديدة وطازجة وملهمة لموضوعة العودة، ومن شأن فكرة البحر أن تسحب فكرة العودة من ساحة الساسة ومحدوديّتها إلى ساحة البداهة والحقّ الإنسانيّ، فنحن نتحدّث عن حقوق بديهيّة للإنسان؛ أن يستمتع بالمشهد الطبيعيّ وبهذا المعطى الجامع للإنسانيّة“.
“التضامن”
نسخة هذه السنة من “قلنديا الدولي” تحمل شعار “التضامن” (٣-٣٠ تشرين الأول) وفي فلسطين، كان وما زال مصطلح “التضامن” كلمة طنّانة في نضالها في مسيرة التحرّر من القوى الاستعماريّة المتتالية. تحوّلت أشكاله وتمظهراته الأيديولوجيّة مع اختلاف الزمن والجغرافيا؛ صعدت وهبطت مع المدّ والجزر في التغيير في شكل النضال من أجل الحريّة.
وتضيف صفحة المهرجان لهذا العام أن مفهوم “التضامن” شكّل مفارقة تاريخيّة في نضال الفلسطينيّين ضدّ البُنى والأنظمة الاستعماريّة المتعاقبة. “لقد مرّت روح “التضامن” وممارساته وتعريفاته بعدد كبير من التغيرات والتحولات التي تنوّعت وتراوحت من الخصوصيّات المحليّة و/أو الشبكات والتحالفات العالميّة. من ناحية أخرى، تراوح طيف الممارسات المتناقضة لـ”التضامن” من كونها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمثل وتعابير دينية وأيديولوجية متشددة في أوقات معيّنة، إلى تمظهرات أكثر أممية وعالميّة خلال فترات محددة، في حين أنّها حافظت على أيديولوجيات قوميّة عربيّة حتى وقت ليس ببعيد. لم تكن هذه ممارسات “التضامن” الوحيدة في فلسطين، فالمفاهيم والنماذج الأخرى تقلّبت تاريخياً على أساس الأيديولوجيات، والتعابير الثقافيّة والإنسانيّة، والعلاقات الاجتماعيّة والقبليّة وما إلى ذلك”.
وهنا، يصبح “السؤال الاجتماعي” نظيراً لمصطلح “التضامن” للتفكير في إمكانيات الخروج من هذه الحالة الراكدة، بحيث يمثل جواباً عن سؤال: أيّ مجتمع نريد أن نكون؟
إن أفكار التشارك، والأشياء والقيم المألوفة التي تربطنا جميعاً، يتم استجوابها لإعادة تنشيط هذا الفضاء من التضامن والروح الجماعيّة التي سمحت للمجتمع الفلسطيني لعقود طويلة بالمقاومة والبقاء على قيد الحياة، حيث يمكن رؤية التضامن من خلال سلسلة من العدسات التي تقوم أساساً على أرضيّة مشتركة وهي السؤال الاجتماعي.
وعليه، دعت اللجنة التحضيرية لـ “قلنديا الدولي”، وفي إطار الإعداد لنسخته الرابعة هذا العام وبناء الشراكات المنظمة لها، جميع الجهات المهتمة للبحث في “السؤال الاجتماعي” عن طريق الغوص في مصطلح “التضامن”، بالانسجام مع الانفتاح على التجارب العالمية، وفي الوقت ذاته محاكاة التجارب المحليّة والتعريفات المعاصرة.
شراكات من أجل “التضامن”
للمهرجان شراكات عدّة في الدورة القادمة كما في دوراته السابقة، وشركاء هذا العام هم: بلدية رام الله، حوش الفن الفلسطيني، رواق- مركز المعمار الشعبي، شبابيك للفن المعاصر، المتحف الفلسطيني، مجموعة التقاء، مركز خليل السكاكيني، المعمل، مؤسسة عبد المحسن القطان. كما كان للمهرجان شراكات سابقة هي إضافة لما ذُكر: احتمالات مكانية، الأكاديمية الدولية للفنون- فلسطين، جمعية الثقافة العربية، دار النمر للفن والثقافة، دارة الفنون- مؤسسة خالد شومان، كلية دار الكلمة الجامعية للفنون والثقافة،، مشاريع من راسي. كما تشارك مجموعة من المؤسسات والتحالفات الفنية في برنامج من الفعاليات المصاحبة على امتداد أنحاء مختلفة من فلسطين والعالم، وذلك إضافة إلى الشراكة الإعلامية مع مجلّة رمّان الثقافية.
تنطلق النسخة الحالية في ظروف سياسية خطيرة تمر على القضية الفلسطينية، ويبدو أن السياسة تشكل عائقاً وجودياً أمام القدرة على الفهم والتحليل لما يجري، تبقى الثقافة ويبقى الفن محاولة جريئة ومغايرة لتقديم إجابات لأسئلة حول ما يحصل، وما سيحصل. لذا فإن برنامج المهرجان في نسخة “التضامن” يحمل تحولات مكانية وزمانية من ناحية التواصل مع القضية من جوانب أخرى أكثر التصاقا بالتجربة الفنية والإبداعية الجادة لعدد كبيرة من الفنانين من فلسطين والعالم.