ينتهي فيلم “زهرة الصبّار” (2017) للمخرجة هالة القوصي، بعبارة ذكية، تقول: ”المدينة القاهرة، مدينة الصبار”، حينها خطرت ببالي لوحة “خداع الصور”، أو “هذا ليس غليونًا” لماغريت، والتي ببساطة تصوّر “غليونًا” كُتبت تحته عبارة “هذا ليس غليونًا”. واللعبة في اللوحة هي في الحفر في المسافة بين الشيء وظاهره، لكنها كذلك عن المسافة بين الشيء ومسماه، أي سلطة التسمية، أو الماهية وما يظهر لنا منها. وهنا نقطة الربط مع عبارة “المدينة القاهرة، مدينة الصبار”، أو “مدينة الصبار”، وهنا أيضًا تتكشف دلالة الإسم؛ فالصبار يظهر قسوة وحدةً وأشواكًا، لكنه في داخله أمرٌ آخر، أتراها القاهرة كذلك؟؛ ثمة مسافة بين الإسم والمسمى؟
لمَ سميت القاهرة بهذا الاسم؟ يقول يوسف رخا في روايته “كتاب الطغرى: غرائب التاريخ في مدينة المريخ”، عن القاهرة أن استعارة الإسم جاءت من كوكب المريخ، الذي سماه الفلكيون العرب بالكوكب القاهر، فكان أن سمى المعز مدينته بهذا الإسم، “حيث بني سورها عن طريق الخطأ بينما المريخ في الطالع” .
وأيًا يكن سبب التسمية، فـ”الكلمة لا يمكن أن تعبر عن الشيء، ولحسن الحظ، فإذا عبرت الكلمة تعبيرًا كاملًا ونهائيًا عن الشيء تنتهي الكلمة وينتهي الشيء” كما يقول أدونيس، وهنا لعبة الصبّار في المتخيل الفردي والجمعي لمن يعيشون فيه، أو بوصف أبسط: في العلاقة مع القاهرة. وفي هذا الفراغ بين تعبير القاهرة عن نفسها بالقهر (تماهيًا مع المريخ)، وابتلاع هذا القهر (كإسم ومسمى) لها (ولنا) فينتهي وتنتهي نننتهي، بحسب أدونيس، تقع أحداث هذا الفيلم، وهذه المدينة، وهذا السؤال الفادح: هل يعلم سكان الصبار بأمر أشواكه؟ أم تراهم فقدوا بذخ الألم بالقهر؟!
ولنفهم السرد في الفيلم؛ علينا أن نضعه في سياقه. الفيلم أُنتج عام 2017، في ظل حراكٍ ثوري لم ينطفئ بعد، بل وتتراكم على جروحه كالذباب قوى الظلام والقمع والقهر. هذا الحراك الذي انبنى من ضمن ما انبنى عليه؛ فكرة الحق في مدننا، وهو التفسير الوحيد لهذه المظاهرات التي خرجت في ميادين مدننا العربية، لتعيد استخدام الجسد والمكان في علاقة لإنتاج معنى لا يستحوذه حاكم ودولته المهووسة بمرآته. أيّ أنّ حركة الجسد في ذلك المكان/المدينة كانت ثورية لأنها فقط استعادت حقها في المعنى، معنى وجود هذا الجسد في هذا المكان/المدينة، ما أدى إلى خلخلة واضطراب كامل بنية الدولة لأنها بنية احتكار للمعنى والجسد.
التربص بأزمات مدننا العربية في السينما لا يقودنا فقط إلى السنوات السبع الأخيرة، لكن ظله يمتد ببذخ إلى ما قبل ذلك بعقود، وتظل السنوات الأخيرة هي الأهم، لأنها شهدت انهياراتٍ حادة ومتماثلة في مفهوم الجسد والمكان/المدينة، والحق في كل ذلك، والصراع بين سلطة الجسد وسلطة المدينة (الدولة). فجسدنا الذي ذابت حدوده مع حدود المكان/المدينة، وانصهرت معها، فما عدنا نفرق مسامنا عن مسامها، وضاعت بينهما حدود العام والخاص، فأسرفت سلطة المكان/المدينة (الدولة) في استباحة أجسادنا، من مظاهرات إلى حرق خيم معتصمين إلى بناء 100 سجن في أقل من عام (مصر)، إلى الإخفاء القسري، والأهم: السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة، ومن هنا يبدأ الحوار في الفيلم، من كل هذا العنف الاعتيادي.
يبدأ الفيلم من قهر مقابل للقهر في تلك العبارة في آخِره، فتسأل السيدة سميحة (الفنانة القديرة منحة البطراوي) جارتها الشابة عايدة (سلمى سامي): “سمعتي صوت القنبلة؟”، فتستغرب منها عايدة، وتتعامل مع الأمر بتندر كأنه “رطوبة موسم صيف” وينتهي، لا بد أن الأمر صادمٌ نوعًا ما، أن يتندر البعض مع/عن القنابل، لكن لطالما كانت السخرية سلاحًا قويًا في الأزمات والحروب، وفي مواجهة كل حدث، وعلى طول الفيلم يمكننا أن نرى أن الساخر متقدم على المهزوم والسياسي، إلا أنه كاشفٌ لهما، ببنية نقدية. فثمة عمق آخر لهذا التندر، ويتمثل في العلاقة بين السياسي واليومي، ففي الوقت الذي تنشغل فيه الدولة المصرية في عزل اليومي عن السياسي، وجعل سؤال اليومي المعاش هو منتهى “الأساسي” للمواطن المصري، بعيدًا عن السياسي، إلا أن الفيلم في مشاهد كثيرة، يعيد اليومي إلى السياسي، فمشهد بائع الماء، في العاصمة ليس إلا شاهدًا على انهيار الدولة والمدينة والمدنيّة.
هذه الدولة التي اجتاحات فضاء الخاص، باسم تأمين العام وحمايته، فما من مشهد تقريبًا للشخصيات الثلاث في الشارع لم تكن فيه الدولة ممثلة بأفراد جهاز الشرطة، يراقبون اليومي والأجساد فيه، وحتى أحداث الموت فيه (باعتبار الموت عتبة للمعنى: الوجود، وللجسد: المادة، معًا)، لتظل اعتيادية، في حين أن عايدة (والمتلقي) لا يمكن أن تتعامل مع الموت كذلك، يتضح ذلك جليًا في موت السيدة “المجنونة” (والجنون سؤال السلطة، وليس سؤال العقل) في الشارع، فالموت ليس الحدث الطارئ كما تريد الدولة، لكن الحياة كذلك. في مقابل وفاة السيدة، تذهب عايدة لمقابلة حبيبها الكاتب/المثقف تتزين له بفستان يثير حفيظة مراقبي الفضاء العام، ليقتحموا الخاص/الجسد/الفستان/الإرادة/الحب، وبالأساس يقتحمون الحياة.
وعلى نفس المنوال تمتد العلاقة بين الجسد والسياسة، حاكمة للمعنى في الفيلم، فالكثير من المشاهد له علاقة بسياسات الجسد، من إعلانات “الفوط الصحية النسائية”، لمشاهد النشرات الطبية، لمشاهد عرض الملابس الداخلية، وصولًا إلى أكبر تمظهر لسياسات الجسد؛ ألا وهي حجبه من خلال: حظر التجول، والتنازلات الجسدية، التي قدمتها صديقة عايدة الفنانة السابقة، التي قبلت طمس جسدها بنقاب (والنقاب سياسة معنى ومادة) مقابل مستقبل اقتصادي وموقع اجتماعي.
ولعل موقع عايدة باعتبارها طالبة طب لمدة عام، ثم تركته، ما أثار عاصفة من انتقام السلطة متمثلة في سلطة الأب والعائلة والمجتمع والطبقة، وازداد انتقام السلطات بقطيعتهم لها، إذ أصبحت -بعد ذلك- “ممثلة/فنانة”. ببساطة فإن هذا الانتقال من الطب إلى التمثيل هو محاولة للشخصية لإصلاح العالم والمعنى، والثورة ضد كل هزيمة وفساد، فإذا كان أول الفساد في الدولة هو الجسد/الصحة، فأول إصلاحه هو بالمعنى/التمثيل، هو انتزاع الحق في المعنى ولو لأجل غرضٍ وسياقٍ محددين سلفًا، ومُختلقين (التمثيل).
ولعل المعاناة التي واجتها السيدة سميحة من أجل الوصول إلى المستشفى لمداواة قدمها المكسورة، وهو الحدث الأساس الذي ستبدأ من بعده كل معضلات السرد تتوالى (الظاهر والأساسي منها، على الأقل)، لهو أمر كاشف عن العلاقة بين الجسد والدولة والمدينة، فأجسادنا هي برسم الانتهاك لأنظمة اعتادت سلب معاني الجسد ومسامه، حتى في أكثرها مباشرة: الكسر/الألم، الذي عانت من السيدة سميحة.
امتلاك الجسد لمعنى حتى ولو كان ذلك هو “الألم”، هو مدعاة للتهديد بالنسبة للدولة المهووسة بالهوية والجسد، لذا فقد كان انتقال السيدة سميحة وعايدة وياسين وكأنه انتقال في جبهة حرب، فالمدينة المبنية بالأساس كفكرة على التحكم في المعنى والجسد، هي في مضمونها بنية حرب، ولعل هذا ما يعيد إلى الذاكرة مقولة أن العمارة في مضمونها هي العلاقة بين الجمال والرعب.
المدينة مسرحًا
إذا كانت المدينة هي ابنة الحداثة، فنقدها وتفكيكها هو ابن مابعد الحداثة، ولعل الأمر يتضح في فضاء الفنون، باعتباره أول فضاءات مابعد الحداثة وأكثرها رحابة. ثمة أداتين مابعد حداثيتين، متشابكتين ومتعاضدتين، يستخدمهما الفيلم في تناول المدينة/المكان وعلاقة الشخصيات والمتلقي بها:
1. الكولاج
2. المسرحة
فنسيج الفيلم هو عبارة عن كولاج من أشكال فنية مختلفة، فيتداخل فيه الفن المسرحي والأدائي وكذلك الفن التشكيلي، فمثلًا، يتضح في مشهد مسرح “الخياطة” تأثر المخرجة ببنية فيلم “Nine” (2009)، الاستعراضي الراقص، للمخرج الأمريكي روب مارشال. وفي مشهد آخر تستعير المخرجة مشاهد من عروض الرقص والأداء الحركي، في فيلم “Pina” (2011)، عن الراقصة ومصصمة الرقصات الراحلة بينا باوتش. وفي مشهدٍ آخر (الفراعنة) تقتبس المخرجة مشاهد من أفلام الراحل يوسف شاهين. ولا يتوقف الكولاج عند هذا، إذ تستعير المخرجة مشاهد من الفن التشكيلي في تقديم كادرات (مشاهد) الحديث النسوي بين السيدة سميحة وعايدة وأمها، في مشاهد أقرب للمدرسة الواقعية في الفن التشكيلي، كاسرة بذلك حدود العام والخاص أو الأنثوي والذكوري والتوزيع الجندري السلطوي لمفهوم الفن التشكيلي، ولعل هذه النقطة من أذكى ما استثاره الفيلم ولو بشكلٍ غير مباشر.
هذا الشكل من البنية الكولاجية في الفيلم، هو انعكاس لمسرحة المدينة؛ فالمدينة الحداثية لا يمكن تناولها إلا بمنطق ما بعد حداثي، لنتمكن من سبر أغوارها والحفر في طبقاتها، وتحديد المكونات المختلة لها: الحياة والموت، الطمس والكشف، السرد والسكوت وغير ذلك، ولو على مستوى التمثيل. بمنطق يقوم في لبه على فكرة كسر المعنى الأحادي والعلاقات الثنائيّة، ونسف الروابط الخطيّة بين السبب والنتيجة، أو العلة والمعلول، هذا النفس التهديمي هو الأساس في التعامل مع المدينة في هذا الفيلم.
ومسرحة المدينة العربية ليست بالأمر الجديد سينمائيًا، وبالذات في الفترة ما بعد 2011، حيث أن كل حركة للجسد في المكان/المدينة هو منح معنى له، وللحركة، بل وأكثر للكولاج/السياق ككل. ويتضح هذا الأمر جليًا في أكثر من موقع في الفيلم، ولعل أبرزها الحديث عن الrبلة التي سرقتها السيدة سميحة في صباها من فتى أحلامها، في مقهى عام، حتى أن شكل المقهى الآن (زمن الفيلم) لا يوحي بأنه كان مقهى راقيًا في يوم من الأيام، ما يكشف تحولات المكان السردي، والتغيرات التي طرأت على شعريته.
طبقات المدينة
لعل الحروب هي إحدى أهم الأدوات لكشف طبقية المدينة، كما هو الحال مع غزة التي كشفت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة عليها وحصارها، كم الطبقات العامودية التي تتكون منها، ليس فقط في فكرة الأنفاق، إنما مضادات الطائرات أيضًا، إلا أن الحرب ليست الطريقة الوحيدة للكشف عن طبقية المدينة، إلا أنها الطريقة الأكثر مباشرة، وكشفًا وهدمًا.
في الفيلم تتبدى طبقات المدينة من خلال حركة جسد عايدة في المدينة، ففي أحد المشاهد تتحرك عايدة من شارع رئيسي إلى زقاق صغير، فممر أصغر، تبدأ الحركة بالرمز، فتتحرك من الشارع الرئيسي وفي خلفية المشهد عبارة “أبو النواس”، دخولًا إلى ممر مظلم، تفترش إحدى زواياه عجوز تطرق علب الصفيح التي جمعتها من حاويات النفاية، على الأرض. حتى حاويات النفايات ما هي إلا سردية ما طبقية للمعنى في القاهرة (جدير بالذكر أن رموز نظام مبارك أشاروا إلى الحاويات وانتشار المهملات للتدليل على أن الشعب المصري يعيش بحبوحة استهلاكية، وليست دليلًا على موت المدينة والدولة!!). هذا الانتقال من “أبو النواس” إلى “عجوز النفايات” هو انتقال ثقافي أولًا وطبقي ثانيًا ورمزي ثالثًا، يكشف امتدادات الهزيمة والموت والفقر والفاقة في القاهرة على مستوى الثقافة والطبقة والمعنى، وبالذات لفتاة مثل عايدة، ولثقافة آمنت بالشعر حريّةً.
ولعل الحوار العامودي المنفصل عن القاهرة كمكان/مدينة والذي تكرر مرتين في الفيلم، في مشهدين مختلفين، من على موقع يعلو القاهرة كمدينة/مكان/سرد، يكشف بنية وطبقات المدينة، وموقف القاهريين/القاهريات منها، ليس فقط كمكان، ولكن كحكاية، شخصية ومشتركة/عامة، وما يستلزمه ذلك من سؤال، من كثافته غاب عن أذهان سكان المدينة: ماذا حصل للمدينة، وإلى أين هي ذاهبة؟ ماذا حدث لنيل القاهرة، شريان حياتها، هل هو مكتئب؟ في المشهد الأول يتغزل ياسين بقاهرته، وهو الفارس المدافع عن حقه في المدينة، فيما السيدة سميحة تعيش نوستالجيا المدينة الجمالية، وتتباكى على ما كانت عليه القاهرة، فيما عايدة تقف على الحياد من الذاكرة والحق في المدينة. وأما المشهد الثاني، بين السيدة سميحة والسيد مراد (فطين عبد الوهاب) فيكشف مواقف مختلفة داخل الذاكرة القديمة عن القاهرة، بين السيدة سميحة التي تعترف أن للجيل الجديد الحق في مدينته، ومراد الذي يعكس جيلًا مهووسا بالتملك والسيطرة، والذي يخاف وحدته في مدينة نيلُها كئيب، لأنه لم يعد له.
وبعد هذا التساؤل يحتل مشهد مركزي الشاشة، بهذا الجسر الإسمنتي يهبط من أعلى المشهد المتحرك وتحته سور مدهون باللون الأزرق، وكأن جسور القاهرة حطت على النيل الذي تحول إلى أسوار زرقاء، وفقد القاهريون حقوقهم فيه.
الفيلم هو فعلًا سردية مقاومة عن حقنا في مدينتنا، والمسافة بيننا وبينها.