حين علمت بخبر وفاة الصديقة العزيزة والزميلة الممثلة مَيّ سكاف، بحثت عن صورة لها بين اللقطات التي أنجزتها في دمشق خلال السنوات التي سبقت خروجنا من هناك. أذكر جيداً أن من بينها مشهداً، حيث كانت مي تنظر إلى كاميرتي متحدثةً وهي تبتسم، ناظرة إلى الحضور في صالة سينما الكندي أثناء الدورة الأخيرة لمهرجان الأفلام الوثائقية ”دوكس بوكس“ في دمشق عام ٢٠١١.
بحثت عن تلك الصورة، وأدركت أني كنت أبحث عن ابتسامة مَيّ، لأعزي نفسي وأصدقائي، ولأداري حزني.
يسألني صديقي هاملت من يريفان في أرمينيا من هي صاحبة الصورة التي وضعتها علي صفحتي في الفيسبوك؟
صديقة وممثلة سورية، توفيت في باريس. كتبت له مجيباً.
لكني وجدتها كلمات غير كافية للحديث عن مي سكاف. ليس لأن هاملت يجمعه مع مَيّ مهنة التمثيل وحب المسرح. وكنت قد تعرفت عليه أثناء عملنا معاً بين أعوام ١٩٩٧ ـ ٢٠٠٢ في مسرح يريفان الحكومي للبانتوميم خلال سنوات دراستي للسينما. ولكوني قد تحدثت مع مَيّ ذات مرة، عن تجربتي في المسرح وعن الفريق الذين عملت معهم وتعلمت منهم الكثير مما نفعني واحتجته في مهنتي لاحقاً. وهي مناسبة لإجابة هاملت وللحديث عمن تكون تلك السيدة ذات الابتسامة، التي في الصورة.
إلا أن رحيل ميّ هو خسارة لصديقة وفنانة، وبموت الأصدقاء والأحبة يموت جزء منا معهم، جزء ارتبط بهم عبر التجربة والذاكرة. وفي تجربة مي سكاف الفنية وموقفها النبيل، الواضح والصريح، ثمة ما يتوقف عنده المرء ويتذكره، موضوعاً للتفكر والتأمل، حين يقلّص الفنان تلك المسافة بين الفن والحياة، ويقارب مثله وأحلامه مع ضرورات واقعه.
كانت إقامتي في دمشق وعملي في مؤسسة السينما، هي السبب في معرفتي بـ مي سكاف واطلاعي على مشروعها المسرحي في ورشة ” تياترو”. حيث كانت الأنشطة الثقافية والعروض الفنية ومهرجانات السينما، هي المناسبات التي جمعتنا دوماً، على أنه لم تجمعنا فرصة لعمل مشترك. وإن جمعتنا عام ٢٠١١ ثلاثة أيام من الاعتقال مع مجموعة من الأصدقاء الفنانين والكتّاب في محاولتنا للتظاهر في حي الميدان. أتذكر مي وربما يتذكرها الأصدقاء حينها، هادئة وشجاعة، صبورة ومبتسمة.
لكني عرفت مَيّ سكاف مثل معظم جمهورها من السوريين، إذ كنت شاهدتها في أول أدوارها السينمائية. كانت طالبة في كلية الأدب الفرنسي، وناشطة في المسرح، لفتت موهبتها المخرج ماهر كَدّو. فاختارها لأداء دور رئيسي في فيلمه الأول “صهيل الجهات”، من إنتاج المؤسسة العامة للسينما. كنت حينها طالباً في كلية الهندسة في جامعة اللاذقية، قبل سفري لدراسة السينما. ولكني ما زلت أذكر حكاية الفيلم الذي يتحدث عن فتاة تعيش مع أهلها في إحدى قرى الشمال السوري، حيث تداهمهم ذات ليلة مجموعة من اللصوص الذين يقتلون الأم والأب ويغتصبون الفتاة، ثم يسرقون الخيول من مزرعة العائلة ويلوذون بالفرار.
الصدمة والفاجعة تصيب الفتاة بالخرس، وتبدأ في بحث عن المجرمين في رحلة تأخذها في مناطق سوريا وجهاتها ، تنتهي بوصولها إلى دمشق، وعبر سفح جبل قاسيون تطلّ ناظرةً إلى المدينة التي تنام في حضن الجبل، مطلِقةً من أحشاءها صرخة مليئة بالحزن والألم . هي صرخة المخاض من الحمل الذي أتى بعد اغتصابها، وعودة النطق والصوت لها. هي صرخة الطلق والتخلص المؤلم من جريمة السفاحين اللصوص.
حكاية رمزية يقدمها ماهر كدو في فيلم يقوم على سرد بصري في أقل ما يمكن من حوارات. بساطة الحكاية قائمة في رمزيتها وتأويلها، وبالتالي يمكن إنشاء إسقاط بسيط ومباشر. أي ما هو مناسب لقراءته برمزيته وتأويلاته التي تقدمها السينما كمدخل لفهم الحكاية السينمائية وإسقاطاتها الواقعية.
يشير بعض النقاد المطلعين على تجارب السينمائيين السوريين إلى ميل واضح ومبالغ فيه -برأي البعض- لدى جيل من السينمائيين السوريين، نحو الترميز، ويكون التأويل مدخلً لفهم الكثير من دلالات هذه الصور. وخاصية التأويل هذه تتأتى من كون السينما تملك بحكم خاصيتها الإبداعية، ما يجعلها فناً يتخذ التأويل والرمز عنصر بناء وسرد للحكاية.
إلى هذا الجيل من السينمائيين ينتمي ماكر كدو وفيلمه ”صهيل الجهات“ الذي يأخذ له عنواناً رمزياً، فالصهيل المرتبط بصوت الجياد حين تنفر للعدو أو الحرب، يأخذ له كدو، الجهات الأربع من سوريا والتي تكشفها لنا مشاهد رحلة الفتاة المحمومة في بحثها عن مغتصبيها وقتلة أهلها. والحكاية البسيطة يمكن تأويل دلالاتها وإسقاطها عبر مستويين عام وخاص.
في المستوى العام، تشير الحكاية إلى البلد الذي نعيشه، وحال أهله. هي سوريا وما فيها من احتكار للحياة والسلطة والقسر على الطاعة، التي تصل حدود الاغتصاب والإلغاء، بمستوييهما المادي والمعنوي.
قد يكون التمثيل الأمثل لحكاية كدو السينمائية، إذا نظرنا إلى سوريا في ربيع عام ٢٠١١، حيث خرج سوريون، مثل من سبقهم من أشقاء في بلدان عربية، مطالبين بالتغيير والعدالة والحرية. كانت امتداداً وجزءاً من صرخة بعد عقود من الصمت تجرع فيها الناس غصات الهزائم والنكسات، وآلام العيش وشظفه، وحين أطلقت الجهات في سوريا صهيلها، وأطلق السوريون صرختهم، أطلَقُوها باتجاه دمشق، أي كما أُطلِقت من قبل في فيلم ”صهيل الجهات“ إلى دمشق تحديداً.
وفي مستوى خاص وذاتي للفتاة -مي سكاف- التي تخوض أولى تجارب التمثيل في فيلم سينمائي، يبدو أن الأقدار التي ساقتها إلى الفن، ستقدر لها أن تكون حياتها مُلهَمةً في ذلك البحث والتوق للحرية عبر الفن، وأن يطبع ذلك الدور شخصيتها في الحياة أو ينطبع بها.
كيف لا وهي حولت -كممثلة وإنسانة- ما هو سينمائي تأليفاً، إلي واقعي تنفيذاً. وماثلت بين الفن والحياة؛ فما كان دوراً في فيلم، أصبح واجباً في الحياة، النضال من أجل الحق، والوقوف والانتفاض في وجه الظلم. الصرخة تلك كانت هي المحاولة لضرب ذلك السقف وتحريك الركود في الحياة. والسلطة تدرك ذلك وتعيه، ولهذا تخشاه. وكانت مي سكاف في تلك الصرخة أيضاً ومن المبادرين فيها.
كنت قد التقيت بالعزيزة مي، العام الماضي في باريس للمرة الأخيرة، وسبق ذلك أن شاهدتها فوق منصة مسرح غوركي في برلين أثناء أحد النشاطات التي أقامها المسرح البرليني. لكني لم أستطع مقابلتها وغادرت تاركاً لها زهرة عباد الشمس مع موظفي المسرح الذين أدخلوني إلى القاعة التي قرأت فيها مي سكاف خطاباً توجهت فيه كسيدة وفنانة سورية أمام الصحفيين ووسائل الإعلام -التي حضرت بدعوات خاصة- إلى الحكومات والمؤسسات والناس في هذا العالم، لمساعدة الشعب السوري، وفتح الحدود أمام اللاجئين.
ذكّرتني مَي بذلك وهي تشير إلى فرحها بزهرة عباد الشمس، حين التقينا العام الماضي في وداع صديقتنا الممثلة فدوى سليمان. نظرنا إلى بعض مطولاً، لم تكن قد عرفتني حين ألقيت إليها بالسلام في البداية، ثم أشارت بيدها إلى الشيب الذي في شعري، وابتسمت قائلة، وهي تشير إلى شعرها: هَرِمْنَا. عام وستة أيام بالتمام، بين رحيل فدوى ورحيل مي (يا للمصادفات المحزنة).
وفي الحديث عن مي نتحدث عن فدوى التي فقدناها إثر مرضها في باريس، والتي جمعها مع مي سكاف، العمل في الفن وحب المسرح، وروح متقدة، ألهمت كلتيهما للخروج مع السوريين الخارجين للحرية.
وما أقوله نقلاً من حديث جرى بيني وبين فدوى سليمان ذات ليلة في دمشق، بعد عودتها من حمص وقبل خروجها للمنفى، حين تحدثنا عن المسرح والفن، وعن الفنان والثورة. يكون مناسباً أيضاً في سياق الحديث عن مي سكاف وعن فنانين سوريين آخرين.
قالت فدوى أنها رأت في المسرح وسيلة للسمو بالنفس والذات ووسيلة للتغيير والنهوض بروح المجتمعات، هذا الحلم الذي دفعها للدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية. قابلته خيبة مريرة بعد دخولها للعمل في الوسط الفني، وهي ترى أن حلمها في التمثيل تحول إلى كابوس بعد أن أصبحت مجموعة من المتنفّعين وعديمي الموهبة منتجين للأعمال الفنية وأصحاب قرارٍ فيمن يعمل منهم، ومن لا يعمل.
وحين انطلقت الثورة، رأت أن حلمها بالتغيير والعدالة من أجل البلد الذي تعيشه، توقظه جموع الناس التي خرجت إلى الشوارع. هذا ما دفع بفدوى سليمان ومي سكاف وفنانيين سوريين كُثر للخروج والتظاهر مع الناس.
قبل رحيل فدوى سليمان ومي سكاف، طالعنا خبر مفاجئ ومؤلم عن انتحار الممثلة السورية الشابة نجلاء الوزّي في جنوب أفريقيا، الفتاة التي لعبت الدور الرئيسي في فيلم المخرج السوري محمد ملص. وهي شخصية ”غالية“ التي تتقمص شخصية فتاة أخرى (زينة) كانت قد قضت بانتحارها غرقاً في البحر بعد اعتقال والدها (قام بأداء الدور الممثل غسان جباعي). نراها في بداية الفيلم وهي في امتحان أداء أمام لجنة المعهد العالي للعلوم المسرحية التي كان بعض أعضائها -الممثلون- هم ذاتهم من أساتذة المعهد ومدرسيه، كما أراد المخرج محمد ملص لإضفاء الواقعية على المشهد. تتشارك مع مجموعة من الأصدقاء السكن في بيت دمشقي، إنها بدايات ربيع سوريا ٢٠١١ كما يعرض الفيلم.
عبارة ”الدور الأول والأخير“ التي تكررت في معظم الأخبار التي تناقلت انتحار الممثلة دفعتني لأكتبت في يومياتي ملاحظات ”بموتها انتحاراً تكون الممثلة الشابة نجلاء الوزي أعطت شخصيتها الروائية (غالية) في فيلم السينمائي محمد ملص ”سلم إلى دمشق“ تأويلاً واقعياً، في قفزة إلى عالم آخر لا تدركه كاميرا مخرج ولا يحتاج الممثل فيه سلماً.
كلمة ممثلة في الخبر، الذي يبدو أنه احتاج المفردة ذات الوقع المؤثر على الجمهور ، للتخفيف من فاجعة موت فتاة في مقتبل العمر انتحاراً بعيداً عن وطنها . الفتاة الشابة التي أعطتها الصحافة لقب الممثلة السورية، والتي أتيحت لها الفرصة عبر دور البطولة لتحقيق حلمها وهي التي تسعى للقبول في معهد التمثيل. هي، وإن نجحت في مشهد الاختبار التمثيلي أثناء تصوير الفيلم، إلا أن دور البطولة في فيلم مخرج سينمائي عرف عن رغبة الكثير من نجوم الشاشة في بلده برغبة العمل معه، لم يشفع لها بفرصة النجاح والقبول، حين تقدمت أمام لجنة المعهد الحقيقية بعد الانتهاء من تصوير فيلمها الأول والأخير.
هذا الاختناق الذي اختلفت أشكاله لدى فنانين سوريين، هو تمثيل عن الاختناق الذي عاشته بلدهم سوريا، وما خروجهم إلا تعبيراً عنه ولإطلاق تلك الصرخة لوقف الظلم وإحقاق العدالة. هي تعبير عن أحلام وأمنيات بالأجمل قادتهم إلى الفن، الفن الذي حكمته الظروف ذاتها التي حكمت مناحي الحياة في سوريا، ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. أي السقف الذي يعيش ويعمل الجميع تحته.
أليس العبارات الأخيرة التي كتبتها مي سكاف قبل وفاتها في باريس: ”لن أفقد الأمل، لن أفقد الأمل. إنها سوريا العظيمة وليست سوريا الأسد.“ هي أيضاً صرخة أخيرة قبل مغادرتها، ومشهد أخير في حياتها؟ فهي وإن كانت تعيش المنفى في باريس إلا أن كتفها يستند إلى قاسيون وهي تنادي وتصرخ، وعينها تُطبِق على دمشق في صورةٍ أخيرة.