“فقط الرجال عند الدفن” (2016) هو العنوان الذي منحه المخرج الإماراتي عبدالله الكعبي لفيلمه الروائي الأول. ومع أن للعنوان أساس وقائعي، إلا أنه مفعم بالرمزية والشعرية بحيث يمتدان لينالا حصة كبيرة في السينوغرافيا واللغة السينمائية المعتمدتان في الفيلم.
تتلقى “غنيمة” مكالمة بحيث يُطلب منها المجيء فوراً إلى بيت أمها “فاهمه” المكفوفة، والتي تقرر أنه لم يعد بإمكانها كتمان سر ما، بحيث تطلب الإفشاء عنه بحضور الإبنة وزوجها “جابر”. ولكن يفضي القدر إلى مصير تموت فيه الأم دون الإفشاء بالسر. تُدفن الأم، ثم تنهض الأسرار. تتوإلى انكشاف الأسرار مع كل زائر/ة معزيّة تدخل بيت الأم وعائلتها، ليكون ذلك تقنية يعتمدها المخرج في تقديم شخصياته وحيواتهن إلى المشاهدين/ات.
يضطر جابر، بصفته “الرجل” الوحيد في العائلة، تولي تدابير دفن فاهمه، بحيث تفتتح ظروف موتها الغريبة والضبابية، جملة من الأسئلة تحاول شخصيات الفيلم الإجابة عنها والتملص منها في الوقت ذاته. هل ماتت فاهمه بسبب سقوطها عن سطح المنزل على إثر الإصابة بالعمى؟ أم كان لجابر ضلع في إتمام مسألة موتها؟ ألم نشهد لحظة فيها تسطع أضواء سيارة جابر وبعدها دوي اصطدام؟ ومع ذلك، يطلب الفيلم من مشاهده أن يعيش مفارقة، ولو لفترة وجيزة -أن يعرف، ويجهل في اللحظة ذاتها، فيعيش المشاهد بصورة تشبه الحالة التي تعيشها الشخصيات- بين التذكر والنسيان (السر، “الأسرار”). نلمس توتراً مستمراً بين الطبقات المختلفة في الفيلم، فهل الأمور هي مثلما تبدو أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك؟
عارفة، هي شخصية مركزية في الفيلم، وبالرغم من ذلك لم يتم التعريف عنها. هي تسكن المنزل مع فاهمة وزوجها منذ أن كان الأخير على قيد الحياة، لكننا لا نعرف من تكون عارفة هذه بالنسبة للأم وبناتها، وهذا مقصود بالطبع، فالخفي والمسكوت عنه في عالم الفيلم (Diegesis) يطال أيضاً العلاقة التي تجمع المشاهد بالشخصيات. عارفة، تعرف. وهذا ما يسعى المخرج/المصور قوله في اللقطات التي تلتفت عارفة، وتميل رأسها نحو الكاميرا في زاوية موازية تماماً للقطات البومة “الي أكثر تشوف فظلام الليل” والتي تظهر بصفة رمزية/مجازية في الفيلم. بحيث تتجلى عارفة في البومة والبومة في عارفة. عارفة فقط تعرف أسرار الشخصيات الأخريات، بينما هن يدركن الأشياء بصورة جزئية أو لا يدركنها على الإطلاق، فتنكشف بعضها مع سير الأحداث، باستثناء “سر” عارفة، فهي وسرّها يظلان في منطقة اللغز.
بعد دفن الأم، وفي اليوم الأول، تعلن غنيمة عن قرارها مغادرة أجواء الفقد والعودة إلى حياتها اليومية، ولكن تعترض طريقها امرأة، سرعان ما يتضح بأنها أختها البكر، عائشة، التي هربت من المنزل لتتزوج من شاب اعترض عليه الأب، فكان عقابها القطيعة وحتى التهديد بالقتل. بين الأختين علاقة مشحونة تطغى فيها ديناميكية تقوم على ثنائية “الضحية والمذنبة“، كما يمكن اجتثاث ذلك من الدلالات الناتجة عن الأسماء المختارة. غنيمة تلوم عائشة وأفعالها على زواجها القسري من جابر. تتناول غنيمة حبوباً مهدّئة وصفها لها الطبيب، ولكن سبب تعاطيها لتلك الحبوب يظل سؤالا مفتوحا للتأويل. إلى جانب ذلك، باستطاعة المشاهد تلمّس السمات والجوانب القاسية والمجمّدة في غنيمة، ويمكن رصدها من خلال معاملتها لجابر وأختها عائشة وصعوبتها بتقبّل جوانبهم الحيّة، النابضة والمتمردة. من هنا، ربّما يمكن تفسير الأدوية بوصفها حبوباً “تهدّئ” وتُسكِت دواخلها المتمرّدة، التوّاقة لأن تنبثق وتنفجر. فتعكس شخصية معينة لشخصية أخرى في الفيلم القمع والظلم الذين تتكبده، كما يمكن فهم المرآة الحاضرة في بعض المشاهد على أنها مصطلح صوريّ يرمي إلى تعزيز هذه الجزئية.
يشير عنوان الفيلم “الرجال فقط عند الدفن” إلى أن القمع الأساسي الذي تعاني منه شخصيات الفيلم هو القمع الجندري وربما الجنسي أيضاً. يدخل زوج فاهمه إلى المنزل كي يخبرها عن إصابته بالمرض، وقراره بعدم الانتقال إلى بغداد، في حين تكون عارفه وفاهمه منهمكتان في مشهد تعزف وتغني فيه فاهمه لعايشة، بينما ترتدي عايشة الدشداشة وثوب الرجال. فعندما تتنبهان إليه، تكفّان عن ذلك. ننكشف إلى مشهد آخر يحضر فيه ما يسمّى بالـ crossdressing، وهو بأقصى التبسيط، مصطلح يُطلق حين يرتدي “الرجال” ملابس “النساء” و”النساء” ملابس “الرجال”. يقوم جابر في التزين والتبرّج أمام فاهمه معتقداً لحظتها بعجزها عن رؤيته. لست متأكدة فيما إذا كان من وراء ”الكروسدريسنغ“ إشارة إلى الميول/الهوية المثليّة التي تحملها الشخصيات (جابر، فاهمه وعارفه)، وإن كان هذا القصد، فبرأيي الربط فيما بين الأمرين غير موفّق. أميل إلى الاعتقاد بأن ”لعبة“ ”الكروسدريسينغ“ بعامة توفّر رقعة فيها قدر ما من إمكانية للتحرر، وربما للانعتاق من الأدوار الجندرية الجامدة، وليس للميول المثلية علاقة بها بالضرورة. وتباعاً، هناك إمكانية لقراءة ترى في هذه المشاهد سعي الشخصيات في التنفيس عن القمع الجندري وفي ذات الوقت التعبير عنه وإبرازه. فالهويات الجندرية كما نعرفها، وفي كل أحوالها، ورطة. وفي عودة إلى سياق الفيلم، نتعلّم عن القمع مع اكتشاف الأسرار- فمثلاً، نكتشف بأن فاهمه كانت تكتب الشعر، وكفّت عنه بعد تدخل والدها. وبأن علاقة حب مثلية كانت تجمعها بخلود، طبيبة الأب/الزوج، وانقطعت. وبأنها لم تكن عمياء، وإنما فقط تظاهرت بذلك. فهي تظاهرت بالعمى كي لا تشهد القمع، ولكن ذلك لم يعنِ اختفاءه. ربما عبر هذه الحيلة، استطاعت فاهمه ولو قليلاً تجاهل القمع أو حتى تجاوزه، فالعمى منحها إمكانية وإن كانت مؤقته، بأن لا تكون شريكة في القمع، فلم ترفض عودة عايشة للمنزل، بحجة أنها لم تعرف/ترَ أنها عايشة، بسبب/بفضل التظاهر بالعمى.
إذن، لنسأل السؤال مجدداً. من حضر الدفن؟ أي من قام بالدفن؟ من قام بالطمس؟ بالقمع. بالكبت. من أو ما المسؤول. “الرجال”، كما يقترح الفيلم؟ بمفهوم الدور الاجتماعي الجامد المخصص لهم، المتولد عن أو المولّد للذكورية والسلطوية الأبوية؟ ومن أو ما الذي دُفن في النهاية؟
نهاية، سأشير إلى بعض النقاط الشائكة والضعيفة في الفيلم، فقد رأينا جابر، في سيارته، يغادر منزل الأم، ثم شهدنا استعداد غنيمة للمغادرة، ثم استعداد عارفة. لكن ما الذي حل بعايشة؟ هل كان هذا مقصوداً أم أنه ضعف في الكتابة؟ وبخصوص الكتابة، بنظري، كان على المخرج بذل المزيد من الجهد في التحرير. فهناك الكثير من الإفراط على مستوى النص. لنأخذ البومة مثالاً، جميعنا يعرف أنها ترى في الليل، ولقد ظهرت مرات كافية كي نفهم أنها تشكّل مصطلحاً بصريّاً كجزء من اللغة السينمائية المعتمدة، لماذا إذن كانت هناك حاجة في توضيح وظيفتها في حوار الشخصيات؟ فقد أحدث السعي الجدي في الاتكاء على اللغة البصرية وقوعاً ثقيلاً في النص والحوارات الدائرة فيه. كما أن هناك إفراط دلاليّ في تسمية الشخصيات. وبسبب هذا الفائض، بدا أن الفيلم يذهب أحياناً باتجاه الميلودراما رغم عدم كون ذلك بيت القصيد. في الفيلم تكمن موهبة مميزة، وإن بدت اليد الصانعة مرتجفة أحياناً.