يستعرض الكاتب المترجم المغربي محمد آيت حنا في كتابه “مكتباتهم” أفكار 31 كاتباً وفيلسوفاً وباحثاً حول الكتب والمكتبات والقراء، متخذاً منها الخطوة الأولى نحو رؤياه وأفكاره حول الكتب.
يبدأ الكتاب، الصادر عن منشورات دار توبقال للنشر، بمقدمة يشير فيها حنا إلى أن هذا الكتاب مكتبة مفهرسة، دون أي نظام منطقي، لعديد المكتبات التي توطأ مع أصحابها على بنائها أو إبرازها أو حتى هدمها.
قراء سيئون
ماذا لو قرر القراء أن يصيروا كتّاباً؟ سيتضاءل بالطبع عدد القراء إلى أن ينعدم، فالكتّاب لا يمكن التعويل عليهم في الاضطلاع بدور القراء، هم في الغالب الأعم قراء سيئون وغالباً ما لا يقرؤون إلا أنفسهم. وحاجتهم إلى القراء تفوق بكثير حاجة القراء لهم، حتى وإن تحصنوا خلف ادعاءات من قبيل: أكتب لنفسي، ويضيف المؤلف “بالموازاة مع الحركة الشاهدة على اختلال توازن العالم، والتي يتضاعف بموجبها عدد القراء، منذرة بالغزو الذي تنبأ به الكاتب الأرجنتيني خوليو كورتثار من استنزاف الكتّاب كل الورق، ثم يقطعون كل الأشجار ليحولوها إلى ورق وتتضاعف المطبوعات”.
سيفترض صاحب كتاب “الرغبة والفلسفة” أن الكتاب الورقي إلى زوال. حيث إن قرصاً مدمجاً واحداً، دون شطط في التخيل، يستطيع حمل مكتبة بأكملها، هكذا يتجول كل شخص حاملاً مكتبته دون أن يشدد الخناق على فضائنا المشترك. ويفكر خياله تجاوزاً في حل يستقيه من الكتاب نفسه الذي خلق في ذهنه زوبعة المشكلة، وهو كتاب ”الكون في قشرة جوز“ لستيفن هاوكينغ. شاعرية العنوان بحسب حنا، تنطوي على إمكانية سجن الكون كله في قشرة جوز، فمن المؤكد أن بوسعنا اختزال المكتبات فيزيائياً في أبعاد لا تضيق علينا الخناق.
يقول صاحب ترجمة “الدفتر الكبير” لا يكفي كتاب واحد للقول بأننا نملك مكتبة، ولكن كتاباً واحداً من الصعب على الذاكرة تذكره هو ما كان بداية الوعي بتشكيل المكتبة. غير أن فالتر بنيامين يرى أن معنى المكتبة كما وجودها لا ينكشفان إلا في مصيرها بعد وفاة صاحبها، وبحسب حنا ما يجعل مكتبة بنيامين مميزة ليس كونها مكتبة تحوي عدداً هائلاً من الكتب أو بها كتب نادرة، وإنما كون صاحبها كان يبدي ولعاً خاصاً بكتب الأطفال وكتب المجانين.
القارئ البليد
لا شيء أكثر إثارة للفزع من منظر مكتبة مزدحمة تماماً، مكتبة انتهت، وما عاد بالإمكان التفكير فيها. هذا الرأي الذي يطرحه حنا يتفق مع رؤية الشاعر ترونسترومر بضرورة وجود الفراغات بين الكتب، هذه الفراغات لغة فعلية، لغة ما يمكن أن يصير، هي تشبه المسام الضرورية للتنفس.
الواقع أن الكتاب هو من يقرأ القارئ، يتغذى على لياليه ويعتاش على فكره وهو ما يمكن تسميته كتاباً ملعوناً. المثال الذي يقفز إلى ذهن حنا هو ”كتاب الرمل“ لبورخيس و ”كتاب المكتبة“ لأحمد بوزفور. ويشير صاحب كتاب “عندما يطير الفلاسفة” أن القارئ قد يتعلق بكتاب تعلقاً مرضياً لذلك من الواجب رميه في شارع مهمل، ربما آملاً في أن تنتقل لعنته إلى قارئ آخر.
ماذا أيضاً عن القارئ البليد الذي هو بحسب المؤلف سيحتفظ بجميع كتبه مدى حياته، سينصح بضرورة التخلص من جزء من كتبه عبر الإهداء أو الحرق أو الإلقاء بها ببساطة. ويرى المؤلف أن أغلب عمليات التخلص من الكتب تتم وفق طريقة واعية، طريقة توازن بينها، طريقة تختار ما تتركه وما تحتفظ به، غير أن الروائي أورهان باموق في كتابه ”ألوان أخرى“. يقدم نموذجاً آخر وهو تخلص عشوائي لا منطق يحكمه إلا منطق إفراغ المكتبة. من الضروري أن يعاقب المرء مكتبته بين الفينة والأخرى، لأن في معاقبتها فقط يمكن أن يتحرر من تاريخ بأكمله. المكتبة هي العالم الذي تتجلى فيه دواخلنا، وإن لم يكن لدينا من سبيل لكنس جزء من تفاهات هذه الدواخل، يمكن ببساطة أن نصرف جهدنا إلى إعادة ترتيب المكتبة.
يعلن صاحب ترجمة “حكاية البر والبحر” أن أكبر المتضررين من إغلاق المكتبات فهم الكتب. آلاف الكتب التي تجد نفسها فجأة غريبة في بيتها بعدما صدر قرار تحويله من مكتبة إلى مبنى عقاري أو سياحي أو محل لبيع الشاورما. ورغم ذلك يؤكد أن الأعمال العظيمة لا خوف عليها، تعبر من زمن إلى آخر دون حاجة إلى مكتبة تحفظها، حتى لو انعدمت المكتبات، حتى لو لم يكن ثمة وسيلة للطبع. ويتفق مع ستاندال في قوله: المكتبات لا تصلح إلا ملاذاً للكتب الرديئة، تلك الكتب التي لولا المكتبة لاختفت إلى الأبد.
يتسأل المولف في مكتبة بنعبد العالي، لا يمكن أن تقترض منه كتاباً لأنه لا يملكه أصلاً. لا مكتبة ببيته. أو ربما مكتبته سرية لا تظهر. لا مكتبة ولا كتاب. أمر محير ومربك خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المساحة الشاسعة التي يغطيها المقروء في كتاباته!