قلقُ الذكريات المُستعارة

Egon Schiele, Häuser mit bunter Wäsche, 1914

سليم البيك

محرر المجلة

حاول كريم أن يتحدّث بلهجة أهل حيفا المدينة لا أهل حيفا المخيّم، إنّما، أمام ريما، وقد أتت من حيفا قبل أيّام من لقائها بكريم الذي خرج جده من حيفا قبل سبعين عاماً، تلاشت كل الكلمات التي أدخلها إلى لهجته، عاد واختبأ بلهجته الأصلية، لهجة أهالي المخيم، لهجة حيفاويي المخيم، هناك حيث لا ذكريات لحيفا المدينة، بل المخيم.

...للكاتب/ة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

الأكثر قراءة

الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله
أين نحن في السير قدما...
عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

25/12/2018

تصوير: اسماء الغول

سليم البيك

محرر المجلة

سليم البيك

روائي وناقد فلسطيني، مقيم في باريس. محرّر "رمّان الثقافية". يكتب المقال الثقافي والسينمائي في "القدس العربي". له ٥ كتب، آخرها روايات: «عين الديك» (٢٠٢٢ - نوفل/هاشيت أنطوان، بيروت)، و«سيناريو» (٢٠١٩ - الأهلية، عمّان)، و«تذكرتان إلى صفّورية» (٢٠١٧ - الساقي، بيروت). نال مشروعه «السيرة الذاتيّة في سياق الجمعيّة: بحثٌ في السينما الفلسطينية» في ٢٠٢١ منحةً من مؤسسة "آفاق". مدوّنته: https://saleemalbeik.wordpress.com

لأنّي ضد التصنيفات، وجدتُها فرصة حين عرفت أن للورقة التي سأقدّمها موضوعٌ هو “ملامح الرواية الفلسطينية المعاصرة”، فرصة كي أقول أنّ ليس هنالك ما يمكن تصنيفه بالرواية الفلسطينية المعاصرة، ببساطة لأنّ الكلمة الإشكالية -الأكثر إشكالية- في العبارة هي “فلسطينية”، فـ”الرواية” لها معالم واضحة تطوّرت واتّسعت لأشكال نصّية عديدة، و”المعاصرة” مفردة أقل إرباكاً من “رواية”، أمّا “فلسطيني” فهي كتصنيف، يصعب تحديدها، يصعب اختصارها بنماذج من الرواية التي يكتبها فلسطينيون معاصرون، وذلك يعود ببساطة لكون الفلسطينيين مجتمعات منفصلة، ومنها ما هو داخل مجتمعات أكبر فتتقاطع معها، ومجتمعاتنا هذه غير متجانسة، لأفرادها تجارب وحيوات لا صلة لها ببعضها، وكل ذلك تطوّر واتّخذ أشكاله منذ عام النكبة، وكل ذلك يحول دون تعميمٍ يكون دقيقاً نسبياً، مهما أُتيح له أن يكون واسعاً، يُطلِق صفة “وطنية” هي “فلسطيني” على مجموعة من الروايات.

سأجدني، إذاً، عاجزاً، عن تناول عموم الرواية الفلسطينية وملامحها لسببين: أولهما أنني غير مقتنع أن التجارب الروائية الفلسطينية المعاصرة متجانسة، فلا ملامح واضحة لها يمكن اختصارها في ورقة، ولا أرى ذلك عيباً فيها بل غنى يزيد بمواضيعه المتفاوتة (من رواية تعيش شخصياتها في حيفا إلى أخرى في مخيم اليرموك إلى أخرى في رام الله إلى أخرى في باريس…) يزيد بمواضيعه قيماً إضافية إلى عموم الأدب الفلسطيني اليوم. وثاني السببين أنّ تناولاً لموضوع كهذا يحتاج ناقداً وباحثاً وليس روائياً بالكاد يستطيع الحديث عن تجربته الخاصة.

هذه التجربة الخاصة التي كتبتُها خلال السنوات الأخيرة في روايتين هما «تذكرتان إلى صفورية» و«سيناريو»، هي تجارب غريبة عن أخرى لآخرين في أمكنة “فلسطينية” أخرى، بأسئلة وهموم “فلسطينية” أخرى.

لي في الروايتين المذكورتين سؤال أساسي، قلق أساسي، ارتباك أساسي، علاقة متأزّمة مع المكان غير الموجود، المكان الذي لم أشكّل فيه ذكريات، ومع المكان -الآخر- الذي لم أختر أن أشكّل فيه ذكريات، ومع المكان -الأخير- الذي لم أختره والذي أشكّل فيه ذكرياتٍ لأيام قادمة لا فكرة لي أين سيكون مكانها. أحكي بذلك (كذلك) عن الشخصية الرئيسية في «تذكرتان إلى صفورية»، يوسف، الذي عاش بين دبي ومخيم اليرموك ليجد نفسه أخيراً في مدينة فرنسية بعيدة، حيث بدأ بتشكيل ذكريات أرادها أن تكون في قريته التي هُجّر جدّه منها، صفّورية، المكان المستثنى من ذكريات يوسف. وبالتالي أي علاقة له مع مكانه الأصلي/الأوّل يمكن تبريرها بذكريات آخرين، ذكريات بصيغة الغائب لا المتكلّم. بتجارب آخرين، لا بما يتعلّق به هو، بل بجدّه الذي نقل من ذكرياته إلى خياله هو، فكانت علاقة يوسف بصفورية هي صور جدّه، ذكريات جدّه وأحاديثه التي صارت عنده حكايات منقولة.

في «سيناريو» يذهب كريم أبعد من يوسف في علاقته مع مكانه الأصلي، أو تذهب هذه العلاقة إلى ما هو أشد قلقاً وإرباكاً ليسائل نفسه إن كان، دون ذكريات، فعلاً ينتمي لما انتمى جدّه إليه يوماً، إلى الأمكنة التي تشكّلت فيها ذكريات جدّه. كريم من حيفا، وهو (كيوسف) لاجئ من فلسطينيي سوريا ويعيش في فرنسا. يلتقي بريما الآتية من حيفا إلى باريس، ريما التي كبرت وعاشت في المدينة التي يَفترض كريم أنّه منها، ريما التي أتت إلى باريس بذكرياتها الخاصة، لتُحدّث كريم عنها وعن أمكنة تلك الذكريات، كريم الذي لا يملك غير الحديث بذكريات جدّه المستعارة، ذكريات الغائب، أو الذكريات التي هو كان غائباً عنها. يتساءل في حضور ريما إن كان فعلاً ينتمي للمدينة التي تنتمي هي إليها، إن كان فعلاً ابن حيفا كما هي ريما ابنة حيفا، وذكرياته تتراوح بين القديم منها في المخيم في سوريا والحديث منها في باريس.

سؤال الذكريات وعلاقتها بالأمكنة وانتماء صاحب الذكريات لهذه الأمكنة، مسألة “شتاتيّة” بامتياز، هي ملمح أساسي (ومُغيّب) لما يمكن تسميته بالرواية الفلسطينية المعاصرة، إنّما ملمح غريب تماماً عن ملامح أخرى قد تكون لكاتب أمضى طفولته في أي قرية أو مخيم أو مدينة في فلسطين، في أي حارة في فلسطين، حيث لا يضطر للتساؤل إن كان فعلاً ابن هذا المكان الذي يعيش فيه ويشكّل ذكريات، أو حتى لكاتب كان المخيم (خارج فلسطين) دائماً فلسطينه، فعلاقة ابن المخيم الباقي في مخيمه أحدثت، لأسباب مكانية وزمانية واجتماعية، علاقة انتماء لهذا المخيم جعلت من الذكريات فيه ذكريات فلسطينية تامّة، فعلاقة الفلسطيني ابن المخيمات بمخيّمه فلسطينية كما هي علاقة ابن أي بقعة في فلسطين، بها. وهذا ما زاد من قلق كريم في «سيناريو» الذي لم يعرف، وهو لاجئ في باريس خرج من مخيم حمص، إن كان يريد العودة من مكانه الجديد إلى المخيم أم إلى حيفا، ففلسطين التي يعرفها، حيث شكّل ذكريات طفولة، هو المخيم الذي انقطع عنه دون عودة مرتقبة أو قريبة إليه كما يبدو.

كريم، وقبله يوسف، هما ضمن حالة جديدة في عموم المجتمعات الفلسطينية، لا ذكريات ولا انتماء يكون مباشراً وشخصياً للمكان الأول في فلسطين، انتماؤهما المفترض هو للمخيم في سوريا الذي اضطرّا لتركه واللجوء إلى أوروبا مع استحالة العودة إليه -قريباً على الأقل- ومع قطعٍ مفاجئ لذكرياتهما فيه. وجدا نفسيهما في أوروبا التي سيصنعان فيها لجوءهما الخاص، غير ذلك المتوارَث كالذكريات. سيعيدان تشكيل ذكريات لهما فيها لألفة محتملة، أو ممكنة، لهما فيها، دون أن يدرك أي منهما، وقد وجدا نفسيهما منقطعين عن مكانهما الأول في فلسطين، في مكان ثالث، دون أن يدرك أحد منهما أن يوماً قد يكون قريباً، ستكون فكرة الذهاب إلى فلسطين -ذهاب ولا أقول عودة- ستكون واقعية بجواز سفر أجنبي، فيدخل الفلسطيني إلى فلسطين، بجواز غريب عنه وبسماح من غريب عن بلده.

هناك، في المكان الذي ما عُرف إلا كذكريات الجدّ، كذكريات مُستعارة، سيدرك يوسف وكريم وغيرهما أن المكان ليس مكانهم، أنه غريب عنهم، أنهم غرباء عنه، قد يحنّ أحدهم إلى المخيم الذي عرفه، أو المدينة الأوروبية التي ألفها، قد يحاول إقحام نفسه على الأمكنة، كما فعل يوسف الذي قرّر أن يدخل إلى مطعم ويطلب وجبة عرف أنّها موجودة من خلال موقع المطعم على الإنترنت، أن يدخل ولا يتلفّت إلى جدران المطعم، كأي فلسطيني يعيش في الجوار، قد يحاول يوسف والآخرون الادعاء أنّهم أبناء لهذا المكان، كأبنائه، لكنّهم سيدركون، في حضور أبناء المكان تحديداً، أنّهم آخرون بالنسبة لهم، أنّ المكان مكان آخرين.

حاول كريم أن يتحدّث بلهجة أهل حيفا المدينة لا أهل حيفا المخيّم، إنّما، أمام ريما، وقد أتت من حيفا قبل أيّام من لقائها بكريم الذي خرج جده من حيفا قبل سبعين عاماً، تلاشت كل الكلمات التي أدخلها إلى لهجته، عاد واختبأ بلهجته الأصلية، لهجة أهالي المخيم، لهجة حيفاويي المخيم، هناك حيث لا ذكريات لحيفا المدينة، بل المخيم.

لن تُسعف الذكرياتُ المستعارة لا يوسف ولا كريم ولا كاتبَ هذه الأسطر في تبرير علاقته بتلك البلاد، بأمكنة تلك البلاد. قد لا يكون أمام أحدنا سوى البحث عن “الجيّد في ذلك”، الجيّد في أن يكون غريباً أينما حل، في أن يكون مستقلاً، منفصلاً، متحرراً، متخففاً…

هذا سؤال وقلق وارتباك آخر مازلتُ أبحث عنه في شخصيات روائية…

 

ورقة، حال رفضُ السلطات المغربية إعطاء كاتبها الڤيزا دون إلقائها خلال “الأيام الثقافية الفلسطينية” ضمن فعاليات وجدة عاصمة الثقافة العربية!

الكاتب: سليم البيك

هوامش

موضوعات

الأكثر قراءة

عشرة أفلام عظيمة عن المافيا (ترجمة)
10 أفلام تشويق إيروتيكية رائعة (ترجمة)
أين نحن في السير قدما...
الصحافة الثقافية وما نناضل من أجله

GOOGLE AD

نكـتـب لفلسطين

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع

اختيارات المحرر

من أجل صحافة ثقافية فلسطينية متخصصة ومستقلة

اشتراكك بنشرتنا البريدية سيحمل جديدنا إليك كل أسبوع